و ترقّ نسائمك يا رمضان، و تتوالى مواسمك العابقة بالنور و البركات، و يطوف هلالك بمراحله المتتالية على وجه الأمة الإسلامية من مشرقها إلى مغربها، و هو يرقب ما يجري هنا و هناك، و قد أثقلت وجهه البهي سحابات حزن عابق برائحة الشهادة، و قد دوّنت على صفحته الوضيئة، قصص القتل و التشريد و الظلم و الفرقة و الفرار و الهجرة القسرية، لكل أولئك المستضعفين، الذين تطاردهم عصابات الجور و الكفر و الاستعمار الجديد، في محاولة شرسة يائسة لإطفاء نور الله الذي أشرقت له الظلمات، و استكانت لفيضه القلوب، و استقرّت به الخواطر الكسيرة، و اطمأنت اليه النفوس الكليمة، و هي تعلم يقينا (و الله متم نوره و لو كره الكافرون) و تشرق شمس الرحمة فيك يا رمضان، و على طول البلاد الاسلامية و عرضها، محارق و مشانق، و في شعابها تعج دروب الهجرة بالمهاجرين الفارين بدينهم و اعراضهم و ذراريهم، من نار صلاهم حرّها عدوّ لله و لرسوله و للمسلمين، نار تقذفها براميل متفجّرة، و قنابل مغروسة في الأرض، و على الدروب، نار تسلمهم إلى شواطيء الغربة، و بحار الهلكة الهائجة الموج، الهادرة الصاخبة المظلمة، و على الشواطيء الغريبة جسد طفل بريء مسجّى شاهد على ذلّ أمة و عربدة كفرة فجرة، يطاردون أهل التوحيد، و يلجئونهم الى بحار تهدر أعماقها، و تنأى شواطئها، و هم يركبون الفلك المشحون، حالمين بغد أكثر أمنا و أمانا، و قد عزّ الأمان في ديارهم و صارت بيوتهم التي كانوا يأوون اليها، مكدودين مقهورين، صارت أكواما من تراب و حجارة، فلم يعد لديهم خيار الا الرحيل عبر المهاجر المتاحة، فيقصدون البحر علّه يستوعبهم بسعته، غير آبهين لحكايات الغدر التي سمعوها عنه آلاف المرّات، فتغدو اجساد الأطفال طعمة لمخلوقات البحار الغريبة، و تصير الارواح أرخص من ملح البحر الممزوج بماءه العميق
ما بين نار و موج صار حالنا، و رمضانا بعد آخر يذهب و يعود، و الحال هي الحال بين موج هادر يبتلع الأجساد و نار مستعرة تحرقها، و الأمة في وهن و يأس و ذهول و غفلة، و العدو شرس، و المنافقون يتربصون بالصابرين الدوائر، و لا خندق يحوطنا بالحماية، و لا مخذّل عنّا يرد الكيد ،فالى قنوت النوازل فليلجأ المستضعفون، و الى الدعاء فليهرع الضعفاء و المغلوبون، و الى ميادين الغفلة و القنوط فليتسابق المتخاذلون، و إلى الله القوي العزيز فلتأوي الارواح و القلوب التي تسعى للتمكين و العزة و الاستخلاف و العدالة. فعنده وحده مفاتيح الغيب، و من فضله يتنزّل النصر و الرحمة و الغيث الربّاني النديّ، المنهلّ بالتثبيت و التسليم و المدد العظيم
فليكن رمضان الأمة هذا بابا مفتوحا الى السماء موصولا بدعاء المضطرين، و سحائب رجاء تنهمر بالسكينة على المهجّرين و المحزونين، و ليتمثّل فيه كل منا تلك الرحلة النبوية الى الطائف، و قد عاد كسير القلب دامي البدن حزين الرّوح، فيمدّ حبل الرجاء بينه و بين ربّه جل و علا، يناجيه بالقلب و اللسان و الوجدان، يناجي ربه الذي جير و لا يجار عليه، و الذي هو معه يسمع و يرى، و الذي إليه الأمر من قبل و من بعد بسكينة و اطمئنان {الّلهم إليك أشكو ضعف قوّتي، و قلّة حيلتي، و هواني على النّاس، يا أرحم الراحمين أنت ربّ المستضعفين و أنت ربّي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدوّ ملكته أمري؟ إن لم يكن بك عليّ غضب فلا أبالي، و لكن عافيتك هي أوسع لي، اعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات و صلح عليه أمر الدنيا و الآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو يحلّ عليّ سخطك،لك العتبى حتّى ترضى، و لا حول و لا قوّة إلاّ بك}.
و حبن ترق ّنسمات الليل الرّمضاني المهيب، و حين تستشعر قلوبنا برد اليقين، و حين تصفو المشاعر و لا تحسّ الّا بالقرب و الودّ و اللطف، حينها لتنطلق منّا التسابيح و الحمد و الدعاء الخالص المقرون باستيقان الإجابة، أن يغيّر الله حالنا و أن يخزي عدوّه و عدوّنا، و أن يجعل ثأرنا على من ظلمنا، و أن يردّنا الى ديننا ردّا جميلا، و أن يأتينا بالفتح من عنده إنّه هو العزيز الحكيم.