هي النفس الامّارة بالسوء، تظل أبدا مصدر الذنب و المعصية، هي النفس التي تطمع في المزيد، و تطمح إلى البعيد، هي النفس نزكّيها لو شئنا فنفلح، و ندسّيها لو شئنا فنخيب، و ترسلنا نحو مهاوي الهلكة، حين نطلق لها العنان و نسلّم قيادها للشيطان، فيلهو بنا و يتلاعب، و يضلّنا و يمنينا، و يعدنا بالمنى الخلّب، و الأماني العذاب، فنصحو، و قد امتلأت جوانحنا وهما و سرابا، و قد جنينا المعاصي و الذنوب، فأحاطت بنا خطايانا التي اكتسبناها، و ذنوبنا التي اقترفناها، و انتهينا إلى غضب و عنت و عذاب.
و هي النفس حين تسلم قيادها لله العظيم، و حين ترد و رده الرّحيم، و حين تتطهّر من أدران الجهل و الجهالة، فتمتطي أعنّة العطاء و البذل، و ترتاد آفاق الطاعات الرحيبة البديعة، و هي النفس حين تعلو على قيم التخلف الإنساني، و ترتقي منابر الرقيّ، و تتعالى على وسوسة الشيطان، و تلقي بعيدا بعيدا ذاك الرداء الخادع من زركشة الوهم، و لمعان السراب و وعد الغرور، ذاك الذي يمنيها به الشيطان و يعدها إياه، و هي في حالة صحو دائم و يقظة ذكية، تدرك أن الشيطان لا يعدها إلا غرورا، و هي في حالة ذكر دائم، أن الموت حق، و أنّ البعث حقّ، و أن الحساب حق، و أن الجنة حق، و النار حق، و انه ليس بعد الحق إلا الضلال، فتعمل دائبة ألاّ تكون من أهل الضلالة، و تتبع خطوات النبي، و الذين صحبوه و اتبعوه، فتهتدي بهديهم و تسير على نهجهم املا في النجاة و الرضى، و العفو يوم اللقاء، و الفوز عند الحساب.
و تسترجع القلوب الحية المؤمنة و النفوس المزكّاة أبدا، قول رسولها الحبيب الصادق المصدوق صلى الله عليه و سلم حين دخل المدينة المنوّرة : (اما بعد ايها الناس فقدموا لأنفسكم ،تعلمن و الله ليصعقن أحدكم، ثم ليدعنّ غنمه ليس لها راعٍ، ثم يقول له ربه و ليس له ترجمان و لا حاجب يحجب دونه :ألم يأتك رسولي فبلغك ؟ و آتيتك مالا و أفضلت عليك ؟ فما قدمت لنفسك ؟؟ فلينظرن يمينا و شمالا فلا يرى شيئا ؟ ثم لينظرن قدامه فلا يرى غير جهنم، فمن استطاع ان يقي وجهه من النار و لو بشق تمره فليفعل، و من لم يجد فبكلمة طيبه، فإنّها تجزي الحسنه عشرة أمثالها، الى سبعمائة ضعف }
إنه العدل و الحق، أعطيتك يا عبدي فاشكرني، فعطائي غير محدود، مغدق عليك ممدود، فلم تشكر غيري و تعبد سواي ؟ و قد اتممت عليك النعماء و أرسلت إليك رسلي، و بلغتك أمري، وعلّمتك ما لم تكن تعلم ؟ و اطلعت على ضعفك فرحمتك، وعلى فقرك فاغنيتك، و على ضلالك، فهديتك، و أردت لك اليسر فلم سلكت طريق العسر؟
يانفس سبعمائة ضعف فلا تضيعيها، و اكثريها و لا تمحقيها، و ما أحوجنا إليها و إلى أضعافها، يوم يقوم النّاس لرب العالمين، فترى تلك النفوس و قد خذلها الشيطان و غرّها بربها، فاكفهرت الوجوه و بسرت، و ترى النّفوس التي صفت بحب الله ورقت، و استكانت لامره و هديه و انابت، و قد هنئت بالعاقبة، فاشرقت الوجوه و نضرت، و قد وجدت ما وعد ربّها حقا و قد أحلّها دار المقامة. اللّهم لاتخزنا يوم يبعثون {يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم }