قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 07 حزيران/يونيو 2020 16:19

مالك بن نبي، هيجل و الامكان الحضاري

كتبه  الأستاذ بحوح نورالدّين
قيم الموضوع
(0 أصوات)

في سنة 1940 تقدّم مالك بن نبي إلى السّفارة اليابانيّة بدراسة حول “الإسلام و اليابان” في إطار مسابقة دولية نظّمتها الأخيرة في موضوع ”الحضارة اليابانيّة” بمناسبة الاحتفال بالألف الثّانية لليابان،لكنّه لم يتسنّ له استلام الدّعوة التي بعثت له بها السّفارة اليابانيّة نظرًا للأزمة الكبرى التي عصفت بفرنسا.

1- لقاء واستلهام وتضاد:

ففي هذه السّنة اقتحمت القوّات الألمانيّة مدينة “درُو” أين كان يقيم مالك و زوجته. ففرَّ الموظّفون من ادارة البلديّة، و لم يبق منهم أحد، فاضطرّت القوّات الألمانية إلى احتجاز مالك بن نبي و أوكلت اليه تسيير مصالح البلديّة، و لكن بعد يومٍ من ذلك جاء موريس فيولات الّذي كان حاكمًا للجزائر سنة 1925م و كذلك رئيسًا سابقا لبلديّة “درُو” و عرض خدماته على سلطات الاحتلال فأعادت تعيينه على رأس البلديّة. و حين التقى بابن نبي قال له:”ها نحن الآن سويًّا في نفس الجهة”. فردَّ عليه مالك:” أمّا أنا فقد احتجزتني قوّات الاحتلال و أمّا أنت فقد اخترت عرض نفسك عليها”. فأسرّها فيولات في نفسه ليجسّدها بعد تحرير فرنسا حقدًا و تضييقا على مالك و يُدخله السّجن هو و زوجه كي يطمس على شهادته عن تعامله الطّوعي مع القوّات الألمانيّة، فلبث مالك في السّجن من سبتمبر 1944 إلى أفريل 1945 و خرج منه بعد قرار المحكمة ببراءته من التّهمة.

كان هذا هو لقاء مالك بن نبي الجسدي مع الألمان لكنّه ليس الأوّل، فقد سبق هذا اللّقاء الجسدي لقاء فكريًّ مع كبار فلاسفة ألمانيا و مفكّريها، لقاءً استثمر فيه اطروحاتهم و استلهم منهما مثلما استلهم من قبل و تأثّر بكتابات ابن خلدون و مفكّري الإصلاح الإسلامي. و لعلّ أكثر من كان له حضورًا في خطابه الحضاري فريدريش نيتشه، و أسوالد اشبينغلر و فريدريش هيجل. فمالك يذكر في كتابه ”مذكّرات شاهد قرن” كيف وظّف كتاب “هكذا تكلّم زرادشت” لنيتشه الّذي قضى مجنونًا، لمداواة عقل صديقه ” ل. الخالدي” الّذي بدأ يستسلم للتّيارات اليساريّة. بعد أن حدّثه أحد معارفه عن التيه الفكري الّذي صار يعيشه د.الخالدي و استيلاء الفكر اليساري على ذهنه: ” إنّ خالدي في ذمّتنا يا سي “الصدّيق”، لا يجوز لنا أن نسلّم مفكّرا الى التّيارات الفكريّة التي لا تتّفق مع فكرتنا و لا مع شخصيتنا و لا مع تاريخنا. فتقرّر أن نضيف “الخالدي” إلى قائمة الشّبّان الّذين يجب انقاذهم من التّيه الفكري، و نظرًا لتكوينه و حرصه على المُطالعات، رأيت أن يكون المنقذ هو نيتشه… و من الغد أهديت لخالدي نسخة من كتاب الفيلسوف الألماني، أظنّها نسخة من كتاب ”هكذا تكلّم زرادشت”. و هكذا رجعت نعجة تائهة، ردّها نيتشه الى القطيع الاصلاحي”. ثمّ يُضيف ابن نبي: “و قد لاحظت بارتياح على وجه خالدي علامة النقاهة الروحية النّاجعة، منذ بدأ قراءة نيتشه. فأصبح محصّنا بأفكار الفيلسوف الألماني من تلك العقبات التي توضع في طريق شبابنا الجامعي حتى اليوم لتحيله إلى طريق تفكير و إحساس تجعله أجنبيا عن الشعب شاذا على نسق حياته”.

و ستتعمّق الصّلة بين بن نبي و نيتشه أكثر عند الحديث عن فكرة “إنسان ما بعد الموحّدين” التي بلورها بن نبي ملمّحا في ذلك الى توقّف العقل المسلم عن الإبداع و استعاضته عن ذلك بتكرير المكرّر و استهلاك الأفكار الميّتة، و الّذي يقابله عند نيتشه الانسان الخانع و الضّعيف الّذي يبرّر فشله و خوره بمبرّرات دينيّة غيبيّة. فمن خلال كتابي ”هكذا تكلّم زرادشت” و”الرّجل الخارق”. توطّدت علاقة ابن نبي بفلسفة نيتشه.

أمّا الفيلسوف الألماني هيجل فبعكس نيتشه فإنّ حضوره كان بيّنا في أطروحات مالك بن نبي الفكرية، و في نظرته الى فلسفة التّاريخ و دور الفكرة في ولوج أمة من الأمم الحضارة أو خروجها منها. هذا الحضور الهيجلي في فكر بن نبي هو حضور توظيف و استناد و في أحيانٍ أخرى حضور تعارض و تضاد. فاذا كان مالك بن نبي قد وافق هيجل على أنّ الفكرة (الدينيّة) أكثر تأثيرا في حركة التّاريخ من غيرها من الأفكار، و أنّ تصوّر اللّه هو الّذي يشكّل الأساس العام لشخصيّة كلّ شعب، و أنّه هو المنبع الأساسي للسّلوك الإنساني، و أنّ الفكرة لن تتحوّل من الامكان الى التحقّق الفعلي إلاّ بانفعال مجتمع ما معها و وعي صاحبها بها و حرصه على انجاحها. فإنّ أبرز نقاط تضادّهما تبدأ عندما خرج هيجل عن النّسق الفلسفي الّذي وضعه لتطوّر الفكرة أو في صراعها مع باقي الأفكار للوصول إلى الكمال أو التّحقيق الفعلي، فبحكم المنهج الجدلي الهيجلي الّذي من المفروض أن يبقَ مفتوحا، فإنّ حركة الأفكار تظلّ مستمرة و متوازية، و كلّ فكرة لابدّ أن تنتج فكرة مضادة لها تبقيان في صراع إلى أن تتحقّق احداهما فتتلاشى الأخرى. لكنّ هيجل عاد فناقض المنهج الّذي وضعه و أغلق بذلك نسقه الفلسفي و تحيّز للدّيانة المسيحيّة و اعتبرها حدّا نهائيا مكتملا لتطوّر الرّوح الدينيّة، كما تحيّز إلى الملكيّة البرُوسيّة و اعتبرها أكمل نظام دستوري، و نهاية للتّاريخ السّياسي.

و لسنا نبغي من هذا المقال ابراز نقاط الاختلاف بين مالك بن نبي و فريدريش، أو أن نبحث في كتابات بن نبي عن أيّ نقد وجّهه لهيجل فإنّ ذلك لنادر و لكنّنا نرجو من وراء ذلك أن نتتبّع كيف دافع مالك رحمه اللّه عن أصالة الفكرة الدينيّة الإسلاميّة و عن فعاليتها في التّاريخ و عن شروط إمكان عودها الحضاري، هذه الفكرة الإسلامية التي تجاهلها هيجل كثيرا و في أحيان أخرى جعلها على هامش التّاريخ.

2- العقل يغيّر التّاريخ:

تتغيّر المصطلحات و التعبيرات التي ترد عند هيجل للتّعبير عن الفكرة و بقدر تغيّرها تتعقّد فلسفته و تستعصي على الفهم، فمرّة يستعمل مصطلح الرّوح و في أخرى مصطلح العقل و أحيانًا أخرى الوعي، زد إلى ذلك ضعف الترجمة و صعوبة أن تجد لمثل هذه المصطلحات مقابلا في اللّغات الأخرى. و قد ارتأينا في هذا المقال أن نستعمل مصطلح “الفكرة” بدل الرّوح أو العقل حتى نقترب من التعبيرات الفلسفية التي يستعملها غيره من الفلاسفة و بخاصّة مالك بن نبي الّذي يركّز كثيرا في كتاباته على دور الفكرة و الفكرة الإسلامية أساسًا.

جعل هيجل من الفكرة موضوعا رئيسيّا لدراسة حركية التّاريخ، و بعكس تلميذه كارل ماركس الّذي يرى أنّ عالم الأفكار ليس سوى العالم المادّي مترجما الى الرّوح البشريّة. فإنّ هيجل جعل من الفكرة خالقًا للواقع أو التّاريخ أي أنّ الواقع ما هو إلاّ تجلّي خارجي لحركة الأفكار.

فالجدليّة المثاليّة الهيجليّة (صراع الأضداد) هي جدل متواصل بين “القضية” و نقيضتها لتقوم الأخيرة مقام الأولى، و تتكرّر العملية نفسها بلا انقطاع، في مسار شامل نحو المثالية. هذه العملية المستمرّة بين الشيء و نقيضه هي التي تعتبر المحرّك الأساسي لمجريات التاريخ.

فعلى مسرح تاريخ الوعي الانساني يبدو كل عنصر فاعل مكلّف -دون دراية أو إرادة منه- بمهمة محدّدة يولد من اجلها و يعمل لانجازها ثم ينجزها فعلاً. و بعدئذ تدقّ ساعة نهايته و يستوجب عليه شاء أم أبى أن يترك المسرح لقوّة جديدة صاعدة. و يذهب هيجل إلى مقارنة سيرورة الفكرة مجازاً بتطور الكائن البشري انطلاقاً من حالته الجنينيّة قبل الولادة ثم مرحلة الولادة و الطفولة ثمّ مرحلة الشباب و الحيوية، ثمّ مرحلة الرجولة و المسؤولية، و أخيرًا مرحلة الكهولة و الحكمة. فقد جاء في كتاب “العقل في التّاريخ“ أنّ الرّوح (الفكرة) تكون في الأصل أشبه بالذَّرَّة، أعني جوّانية غير متطوّرة، ثمّ تبدأ في تطوير نفسها شيئًا فشيئًا مستخدمة في ذلك وسائل هي على العكس خارجيّة و ظاهرة تتمثّل في التّاريخ أمام أعيننا…” و أنّها “تتحقّق باستمرار عن طريق ضدّها، و هي تحتاج لتتحوّل من الامكان إلى التحقّق الفعلي إلى عامل الإرادة، أي الى فاعليّة الانسان الّتي تنقلها من حيّز الوجود المجرّد إلى حيّز الوجود الفعلي (الواقع)”. فالفكرة حسب هيجل تدفع عقوبة وجودها و فنائها لا من ذاتها بل من انفعالات الأفراد معها.

و يتجسّد أسمى وعي للفكرة بنفسها في عدد من الحركات التاريخية و الابداعات الرّوحية. كما يتجسد في شكل الدولة و دستورها و شبكة العلاقات فيها بين الروح الفردية و الجماعية، و بين الروح الجزئية و الكلية. فوجود الدولة شرط أوّل لازم لبروز المؤسسات الرّوحية و القيميّة الأخرى خاصّة الدّين و الفن و الفلسفة.

3- ميلاد فكرة، ميلاد حضارة:

اغلق هيجل النّسق الفلسفي الّذي رسمه، عندما اعتبر أنّ المسيحيّة هي الحدّ النّهائي المكتمل لتطوّر الرّوح، و أنّ الملكيّة البروسيّة الألمانيّة هي أنضج نظام سياسي. و كان من المفروض و بحكم منهجه الجدلي أن يبق النّسق مفتوحًا. زِد الى ذلك أنّ المسيحيّة الغربيّة و بحكم صفاتها الأساسيّة و بحكم الظّروف الأوّليّة التي نشأت و تطوّرت فيها لم تكن لها تلك الفعاليّة التي تروّض الأعمال و المشاعر الإنسانيّة، كما أنّها لم تُنشِئ مؤسّسات المجتمع و لا الدّولة التي تنتجها الفكرة في سعيها الى الكمال. فالمسيحيّة و في بداية انتشارها في المجتمع الرّوماني، الذي كان له مؤسّساته و قوانينه و حضارته، كان عليها أن تعدِّل من بنيتها الفكريّة و من أسمى تصّوراتها العقديّة لتتكيّف مع المجتمع الجديد و تلج الى عالمه الرّوحي. لكنّها بقيت بعيدة عن عالم حياته. فضحّت بأصالتها كي تحتفظ بفعاليّتها.

هذا بخلاف الاسلام الّذي ظهر في بيئة صحرواويّة متوحّشة خالية من مظاهر الحضارة و تغيب فيها مؤسّسات الدّولة و قوانينها القادرة على ضبط العلاقات بين الأفراد و السّمو بها. فالمجتمع الإسلامي هو المجتمع الوحيد في التّاريخ الّذي رأى النّور تلبيّة لنداء الفكرة، و الاسلام وحده هو من أتى بالمسوّغات الكفيلة بتحقيق أقصى ما يمكن تحقيقه من التّوتّر في الطّاقات الاجتماعيّة، و أسمى ما يمكن من المصلحة التي تخدمها تلك الطّاقات.

كان المجتمع القرشيّ مجتمعًا ساكنًا، خالٍ من أي شكل من أشكال الحضارة و كانت شبكة علاقاته تخضع لعرف التّوازنات القبليّة و لعادات وضعها العرب لأنفسهم لا يسهل الخروج عليها. فدخلت الفكرة الإسلاميّة في صراع مع واقع لم يكن من اليسير قلبه و في جدال مع أفكار كان من العسير اقتلاعها. غير أنّ وسيلة التَّغيير (القرآن و شخص الرّسول) كانت أكثر جذبًا للمجتمع القرشي و أكثر تحدّيا فأجاب نداء الفكرة نفر قليل بقي صامدا مع الرّسول الكريم مدّة ثلاثة عشر سنة. و لمّا لم يعد هناك أمل لإنتصار الفكرة الإسلاميّة أمام عناد المجتمع القرشيّ، شاءت الأقدار أن يُسلم رجال غرباء من يثرب و يقبلوا احتضان الفكرة في مدينتهم. فهاجرت الزّمرة المؤمنة القرشية من مكّة الى المدينة. فكان أوّل عمل قام به المجتمع الجديد ساعة ميلاده هو الميثاق الّذي يربط بين المهاجرين و الأنصار.

و صحيفة المدينة هي أوّل دستور (وفاقي) مدني وضع مباشرة بعد هجرة الرسول صلى الله عليه و سلّم إلى المدينة المنوّرة. فقد جاء في كتاب السّيرة النّبويّة لابن هشام: ”و كتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و سلّم كتابا بين المهاجرين و الأنصار، و ادَعَ فيه يهود، و أقرّهم على دينهم و أموالهم، و شرط لهم، و أشترط عليهم.”

هذه الوثيقة التي احتفظت بها كتب السّيرة هي التي حدّدت العلاقة في المجتمع الجديد على أساس مبدأي العدل و المساواة و إسقاط الاعتبارات الطَّبقية، و العُرْفية، و القبليَّة، و القوميَّة. كما أقرّت حقوق المواطنة الكاملة لمن عاش في المدينة، و واجب حماية كرامة الانسان، و تحرير وجوده بغضّ النّظر عن دينه و معتقده أو نسبه و أنّ الجميع متساوون أمام القانون ما داموا قائمين بالواجبات المترتِّبة عليهم، و لم يخرقوا بنوده، و بهذا كسّر الرّسول الكريم لأوّل مرّة عرف الأنفة و الكبرياء القبلي المناهض لفكرة الدولة و القانون و الّذي كان يمنع خضوع القبائل العربية لبعضها البعض، فجمع بين قبيلتين متناحرتين متخاصمتين (الأوس و الخزرج) و بين مهاجرين من قريش غرباء على أرض المدينة، و طائفة اليهود التي تختلف عنهم عِرقًا و دينًا في منظومة سياسية و قانونية واحدة و ملزمة.

و وثيقة المدينة هي أيضا إيذان عن عبور من حالة الدّعوة (الفكرة) في مكّة التي لا تستند الى مؤسّسات قانونية و قهرية تحميها الى حالة الدّعوة التي لها دولة تحميها. و الدّولة نفسها تتكون من أرض يقيم عليها أفراد مهاجرون و أنصار مؤمنون بالفكرة الاسلامية الجديدة، و يهود و بقايا مشركين غير مؤمنين بها وجب تنظيم علاقاتهم على أساس القيم التي وعدت بها الدّعوة و هي مبدأ مجرّد في مكّة قبل أن تنتقل الى المدينة و تتحوّل إلى واقع مكرّس، فقد سبَّقَ الرسول صلى الله عليه و سلّم مبدأ الحقّ على قيمة القوّة، و الخضوع لقوّة الحقّ و ليس الاذعان لقوّة التّسلّط و أدرك صلّى الله عليه و سلّم بوحي من اللّه أنّ الخضوع للقوّة اضطراري و للحقّ ارادي و كل ّ تمرّد على القوة سببه أنّ في حكم القوّة قهرا، و تسلّطا، و ظلما، أما التّمرد على الحقّ فهو زيغ عن الصّواب و نكوص غير مبرّر على ما أتّفق عليه. و بناءً على هذه القاعدة تمّت معاقبة يهود بنو النّظير لمّا أخلّوا بقاعدة التعايش السلمي و اعتدوا على المرأة المسلمة في السّوق، و يهود بنو قينقاع لمّا تآمروا مع الأحزاب في غزوة الخندق لأجل محو التواجد الاسلامي في المدينة.

إنّ نزول الوحي، و وجود القرآن الكريم في هذه الفترة لم يُغن عن الدّستور الّذي يضبط القواعد، و ينظّم الحقوق، و يحكم العلاقات، و يُصوغ جميع ذلك صياغةً دستوريّة محكمة الدّلالة، بينة الحدود.

و بوضع ميثاق الدّولة تكون الفكرة الاسلاميّة قد حقّقت أسمى كمالها الّذي كانت تنزع اليه. و اتّحد فيها الجانب الذّاتي (الفرد) مثلما عبّر عنه هيجل مع الغاية العامّة للدّولة حيث يجد كلّ منهما في الآخر إشباعه و تحقّقه الفعلي. فتأسّست الدّولة تأسّسا قويًّا متينًا. و وجد الفرد فيها حرّيته الخاصّة وارادته، فحدَّ من نزواته و مشاعره الأنانيّة لحساب الخضوع للقوانين خضوع تعاقد و ليس خضوع اكراه. و ولج بذلك المجتمع الاسلامي الحضارة لأوّل مرّة في التّاريخ بفضل أصالة الفكرة التي استجاب لها و انفعل معها.

4- أصالة الفكرة و فعاليتها:

لن تجد في البنية الذّهنيّة و العقديّة للبشر فكرتن أصيلتين، بل فكرة واحدة أصيلة خالدة، لا يزاحمها إلاّ الوثن. و أصالة الفكرة “ذاتية و عينيّة و هي مستقلّة عن التّاريخ. و الفكرة اذ تخرج الى النّور فهي إمّا صحيحة أو باطلة، و حينما تكون صحيحة فإنّها تحتفظ بأصالتها حتّى آخر الزّمن و لكنّها بالمقابل يمكن أن تفقد فعاليتها الاجتماعيّة و هي في طريقها حتّى و لو كانت صحيحة”. و قد تصاب بالاغتراب اذا طفت على وجهها الشّوائب فتحجب حقيقتها عن المجتمع الّذي أنشأته فيسيء فهمها و يفقد “المسوّغات الكفيلة بتحقيق أقصى ما يُمكن من التّوتر في الطّاقات الاجتماعيّة، و أسمى ما يمكن من المصلحة التي تخدمها تلك الطّاقات”.

و لا تقوم الفكرة بدورها الاجتماعي إلاَّ بقدر ما تكون متمسّكة بقيمتها الغيبيّة، فالمبادئ و الأخلاق و الرُّوح هي الأمور التي تبقي للمجتمع التّوتر الضّروري كيما يواصل نشاطه المشترك في التّاريخ.
و حسب بن نبي دائما فقد مرّت الفعاليّة الاجتماعيّة للفكرة الاسلاميّة بثلاث مراحل في تاريخها:

1- مرحلة الرّوح: و هي المرحلة الّتي يكون فيه الفرد في أحسن ظروفه، أي أنّ نظام أفعاله في أقصى فعاليته الاجتماعيّة، و تكون طاقاته الحيويّة في أتمّ حالات تنظيمها. و تكون شبكة العلاقات الاجتماعيّة في أكثف حالاتها. هذه الكثافة هي ما توحي به عبارة “البنيان المرصوص” في قوله تعالى: “إنَّ اللّه يحبّ الّذين يقاتلون في سبيله صفّا كأنّهم بُنيان مرصوص” (الصّف الآية 4). و في هذه المرحلة بلغت الفكرة (الرّوح) أسمى درجات الكمال و حقّقت شبكة العلاقات الاجتماعيّة أقوى مظاهر انسجامها و توافقها. و امتدّت هذه الفترة من انفجار شرارة الايمان بغراء حراء و مبعث الرّسول الكريم صلّى اللّه عليه و سلّم الى عهد الخلفاء الرّاشدين حتّى جاءت معركة صفّين فهزّت المجتمع المسلم و أخرجت الفكرة الاسلاميّة من جوّ المدينة المشحون بهدي الرّوح، و بواعث التّقدّم الى جوّ دمشق حيث تجمّعت مظاهر التّرف و فتور الايمان.

2- مرحلة العقل: و في هذه المرحلة و رغم أنّ الفكرة حافظت على أصالتها إلاّ أنّها أصيبت في بعضٍ من فعاليتها و في أساسها السّياسي خاصّة، بعد أن تعرّض المجتمع المسلم لصدمة صفّين تعرّضًا لم يعد معه الفرد المسلم يتصرّف في كلّ طاقاته الحيويّة. و تراجع دور الفكرة في التّأثير على سلوكه و مشاعره و أعماله في هذا الجانب. ليستمرّ المجتمع المسلم بعد ذلك في طريقه نحو الفتور و الافلاس.
3- مرحلة الغريزة: و فيها انكمشت تأثيرات الرّوح و العقل، و انطلقت الغرائز الدّنيا من عِقالها و تمزّقت شبكة علاقاته الاجتماعيّة فلم تعد تعمل بشكل منسجم و متوافق. و لم يعد المسلم في هذه المرحلة يفهم من الفكرة الإسلاميّة شيئًا و لا يدر كيف يتكيّف معها و لا كيف يسوّغ نفسه لمتطلّباتها. و استقرّ أمره على تكرار أفكار ميّتة بعد أن اجتهد لنفسه فتبنّى أفكارا قاتلة برزت في صورتها الصّوفيّة أو صورتها الفوضويّة السّيّاسية، فاستعاض عن الفكرة بالصّنم حتّى خرج من الحضارة، و عاد إلى مستوى الحياة البدائيّة.

4- إمكان العود الحضاري.

إنّ النّسق المفتوح الّذي رسمه هيجل و المنهج الجدلي الّذي وضعه لحركيّة الأفكار و بزوغها ثمّ غروبها لا يقبل أن تجدّد الفكرة نفسها فيَنفي عن الفكرة التي فقدت فعاليتها الاجتماعيّة أمام طارئ ما، و لسبب خارجي لا علاقة له بأصالتها ديمومتها التّاريخيّة و يحرمها من فرصة العودة مرّة ثانيةً الى مسرح التّاريخ.

إنّ هذا النّسق لا يترك لنا خيارًا غير أن نتّبعه و نتخلّى عن الفكرة التي شهدت لها طريقة نشأتها و شكل بنائها و طرائق اقناعها و قرارها في الرّوح البشريّة على مدى أصالتها و مدى فعاليتها في التّاريخ، فننتحر، و نبقى في وضعنا السّاكن خارج الحضارة. أو أن نُضادّه و نتقبّل أنّ الفكرة الأصيلة تقبل التجديد فنُجدّد صلتنا بالفكرة الاسلاميّة، و نعيد لها فعاليتها في حياتنا. و هذا يتطلّب منّا إعادة تنظيم طاقة المسلم الحيويّة و توجيهها في إطار المبادئ العامّة للفكرة، و في نفس الشّروط و الظّروف التي ولدت فيها أوّل مرّة، و أن نستردَّ المسوّغات التي رفعت من شأن المجتمع المسلم في القرون الأولى و حقّقت غايته و رسالته في التّاريخ أو بما عبّر عنه النّبي صلّى اللّه عليه و سلّم في الحديث المشهور: “لا يصلح آخر هذه الأمّة إلاَّ بما صلح به أوّلها”. و أن نغيّر من شرائط حياتنا و من خصائصنا النّفسية و سلوكنا التي هي شروط أوّلية لازمة لكلّ تغيير إجتماعي كما في قوله تعالى: ”إنّ اللّه لا يُغيّر ما بقومٍ حتّى يُغيّروا ما بأنفسهم” (الرّعد.11 ) فغيّر ما بنفسك تغيّر التّاريخ!

الرابط : https://binbadis.net/archives/11095

قراءة 814 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 09 حزيران/يونيو 2020 21:37

أضف تعليق


كود امني
تحديث