ليس ما يميز أمَّة الإسلام أنها جاءت بمبادئ تملأ الأرض نورًا و سعادة و سلامًا فحسب، بل إنها قدَّمَت نماذج راقية في امتثالِ تلك المبادئ في كل جوانب الحياة، حتى إن الناس دخلوا في دِين الله أفواجًا، و لم يصِل إليهم جيش، و لم يُهَدَّدوا به، و إنما بمجرَّد وُصول عدد من المسلمين الملتزمين بقِيَمِهم، و المحافظين على تديُّنهم إلى تلك البقاع؛ فتأثَّروا بأخلاقهم و تعامُلاتِهم، و لما علموا أنها مبادئ و قِيَم دينٍ وعبادة يقومون بها، لم يَتردَّدوا في اعتناق هذا الدِّين العجيب، الذي يَسْحر بقِيَمِه و مبادئه كلَّ باحثٍ عن السعادة، و كلَّ سليم فطرة، مِن انحرافِ فكْر، و فسادِ طوية.
فلذلك ارتفع شأنُ هذه الأمَّة لمَّا كان ولاؤها المُطْلق لمبادئها و قِيَمِها، و التي تتَّضح من خلالها معالم الشخصية الإسلامية الحقيقية، و بالمقابل فإن تلك المعالم تذوب و تغيب عندما تذبُل المبادئ، و تُصْبح مجرَّد معانٍ بلاغية، و استراحات قصصية بين مجلَّدات الكتب، و على رفوف المكتبات، و شواهد لتعزيز الخُطَب و المحاضرات.
و لأن إعادة القِيَم إلى واقع الحياة و مجريات الأيام ليست بالعملية السهلة، و لا بالقرار الممكن مع وضعية محزنة؛ مِن ضعْف التثقيف العام، و سيطرة الجهل بالإسلام، و غياب الدور الرسمي، و هزال العمل المؤسَّسي، و الانهزامية المترامية الأطراف في جسد الأمَّة، فإنَّ واجب الدعاة و حَمَلَةِ المبادئ و القِيَم يتضاعَف في مُنْحَيَيْنِ رئيسَينِ: امتثال المبادئ و العيش بها و تحمُّل ما ينتج عن ذلك، و في الدعوة إليها و الدندنة حولها، و نقلها إلى مسامع و أفهام الناس بما أمكن من وسائل و أوقات.
و عليه؛ فإن مسألة مجاهدة النفس نوع من الجهاد، بل الجهاد الأساس يبدأ مِن الجهد المتواصل ضدَّ الأهواء و الشهوات و العادات السيئة، فالمتميِّز الحقيقي في الرؤية الإسلامية ليس الذي يحقِّق كثيرًا مِن المنجزات و ينتج عددًا من الأشياء، إنما هو ذاك الذي يحقِّق أعلى مستوى من المطابقة بين مبادئه و مُثُله و بين سلوكياته و أنشطته.
فتتأكَّد الضرورة إلى الاهتمام بالأخلاق الحميدة فكرًا و سلوكًا، و العمل الدؤوب على تحقيق النفس السوية - خاصَّة في زماننا - و الذي تسعَى فيه العولمة إلى طمس هويات، ودفن شعوب و أمم تحت مظلتها و عباءتها، لا تبالي بأيِّ قِيَم، و لا تراعي أيَّ خصوصيات.
و أمَّتنا - هكذا قَدَرُها، و هو عزُّها - لن ترتقي ارتقاءً حقيقيًّا إلا إذا انطلقت من قاعدة القِيَم و المبادئ التي قامت عليها يوم أن قامت، فلن يصعد بها إلى مرتبة الأقوياء تقليد الأقوياء و محاكاتهم، و لو حتى محاكاتهم في تقنياتهم و تكنولوجياتهم و هي في منأًى عن حقيقتها و المتمثِّلة بقِيَمِها و مبادئها.
و حين يضعف دور القِيَم في حياة الأمة - كما هو مُشَاهَد في أيامنا - و في توجيه المسار و تحديد المواقف؛ فإنه لن يحول بينها و بين الانحطاط شيء، مهما كان ما تملكه من مال و علم وتقنية.
إن بعض الأمم تستمدُّ قوَّتها من مالها و ثَرَوَاتها، و البعض الآخر تستمدُّها من النُّظُم و القوانين التي تقوم عليها، و البعض من القوة التي تملكها و هكذا، لكن أمَّة الإسلام قوتها الكبرى و ميزتها في مبادئها و قِيَمها، و كل ما يضاف إليها من أرقام في العلم و التقدُّم و الحضارة و البناء و غيرها يزيدها قوة إلى قوتها، لكن هذه الأرقام مهما بلغت فلن تعطي الرقم الحقيقي للأمة، إذا خلا مكان القِيَم؛ فهو الرقم الحقيقي و الرئيس.
فلذلك خسارة هذه الأمة لمبادئها - حتى أفرادها - هو خسارة للذات، و ليس هناك خسارة أعظم من أن يخسر المرء ذاته، فبكل أسف - و إن لم يشعر - تتحوَّل حياته إلى صورة من صور البهيمية أو النباتية، و التي ليس فيها إلا تنفُّس و نمو و تكاثُر، فلا معنى و لا هدف.
و من هنا نعرف كم حجم المعاناة التي يعيشها أصحاب المبادئ و القِيَم في مجتمعات و أوساط تستهين بتلك المبادئ و تحكم بالعقوبة - و لو بطريقة غير مباشرة - على أصحابها، و هذا يعمِّق المأساة و يعوق التغيير.
الرابط : https://wefaqdev.net/art6415.html