قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الإثنين, 28 حزيران/يونيو 2021 09:45

مَفهومُ الحضارةِ وشروطُها عندَ مالِك بنِ نبيّ

كتبه  الأستاذ عُرابي عبد الحيّ عُرابي
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يُعدُّ ابن نبيٍّ أحدَ أهمِّ علماء الاجتماع -بعد ابن خلدون- الذين درسوا نشوء الحضارات و نهوضها و الأمراض التي تصيب حضاراتها من منطلَق استطلاعيٍّ رصينٍ، إلّا أنّه كما لم يغدُ ابن خلدون ظاهرةً في البلاد الإسلاميّة في زمنه؛ فإنّ ابن نبيٍّ قد ناله المصير ذاتُه، و على الرّغم من شهرة الرّجلين و تداول كتبهما إلّا أن المؤسّسات الرّسميّة لم تُولِ أطروحتيهما في دراسة المجتمعات الإسلاميّة كبير اهتمام، و لم تسعَ إلى تناول قراءتيهما بالدّعم و المراجعة و التبنّي.

مفهوم الحضارة:

تشير المراجع اللّغويّة إلى أنّ الحضارة مأخوذة من مادّة (حَضَرَ) و الّتي تفيدُ الإقامة في الحَضَرِ و تضادّ الإقامة في البادية(1)، إلّا أنّ ابن خلدون يشير في مقدِّمته إلى أنّ العمران البدويَّ أصلُ العمران الحَضَريِّ، فجَعَل طور البداوة السّابق على التحضُّر أصلاً له(2)، أما الحضارة في الرؤى المعاصرة فتطلق على معنَيَين، أحدهما موضوعيٌّ مشخَّص، و ثانيهما ذاتيٌّ مجرَّد، و يقصَد بالحضارة بمعناها الموضوعيِّ جملة مظاهر التّقدّم الأدبيِّ و الفنّيِّ و العلميِّ و التّقنيِّ؛ إذ إنَّ مزيّة هذه المظاهر انتقالُها من جيل إلى جيل في مجتمع واحد أو مجتمعات متماثلة، فيقال: الحضارة الأندلسيّة أو الإسلاميّة أو الهنديّة مثلاً، فتنحصر الحضارة ههنا بنطاقها الجغرافيّ و لغاتها المحلِّيّة، أمّا الحضارةُ بمعناها الذّاتيّ المجرّد فتطلق على مرحلة التّطوُّر الإنسانيِّ المقابلة لمرحلة التّوحُّش، أي إنّ الحضارة ههنا تعرَّف بمعناها الغائيِّ فلا مشاحَّة في إطلاقه على أيِّ حضارة و إن اختلفت حدود الزّمان و المكان لاشتراكها في عناصر مُتَّحدة، و قد ترادف الحضارة مفردة الثّقافة، إلّا أنَّهما لا يدلّان على مدلول واحدٍ، فالثَّقافة تطلق عند بعض المفكّرين على تنمية العقل بالفكر، بينما يطلقها آخرون على نتيجة هذه التّنمية، و يقصد بها علماء الأنثروبولوجيا -من طرف آخر- كلَّ مظهر من مظاهر الحياة سواء كان المجتمع في حالة التّخلُّف أو التَّقدُّم، في حين أنَّ الحضارة تُطلَق عندهم على منتجات المجتمعات المتقدِّمة(3)، و ما يهمُّنا في هذا المقام إدراك مفهوم الحضارة عند ابن نبيٍّ و أثر هذا المفهوم في رؤيته لنهضة الحضارة و أفولها.

مفهوم الحضارة عند ابن نبي:

توزَّعت بحوث ابن نبي عن الحضارة في العديد من كتبه و مقالاته الّتي أطَّرها بسلسلة “مشكلات الحضارة” التي شغلت حيِّزًا كبيرًا من مشروعه الفكريِّ، و ذلك كما في “شروط النّهضة” و”مشكلة الثّقافة” و”وجهة العالم الإسلامي” و”ميلاد مجتمع” و”آفاق جزائريَّة” و غيرها، معتمدًا العمق في التّحليل و الاستفاضة في البحث للوصول إلى إبداع نظريَّة متكاملة في فهم الحضارة و أسباب نشوئها و مشكلاتها التي تعترضها فتؤدِّي إلى أفولها.

بدايةً يشير ابن نبيٍّ إلى أنَّ الحضارة بما يتعارف عليه علماء الأنثروبولوجيا تعني “كلَّ شكلٍ من أشكال تنظيم الحياة البشريَّة”(4)، و لا يخلو هذا التّعريف من تعميم مُخِلٍّ؛ إذ لا يخلو أيُّ مجتمع من هذه الأشكال و إن تدنّى مستواها، لينطلق ابن نبيٍّ في حفريَّاته في صياغة مفهومٍ للحضارة من خلال بروز المفاهيم التي يتوصَّل إليها مع المجتمعات الّتي تعاني مصاعب التّخلّف و الضّعف و القابليّة للاستعمار، مستندًا إلى فرضيّة عدم إمكان التّوصل إلى بناء هذا المفهوم إلّا بدراسة هذه المجتمعات، فالحضارة تتبع ظروف المجتمع المتخلّف و هي أداته الّتي تعطيها القدرة على النموّ، فتكون بذلك مجموع الشروط المادِّيَّة و الأخلاقيّة الّتي تتيح لمجتمع معين أن يقدّم لكلّ فرد من أفراده في أطوار وجوده المساعدة الضروريّة له(5)، فيكون مفهوم الحضارة بذلك مستندًا إلى ظاهرة مركّبة ترتبط بالفرد فكرًا و تعاملًا.

لقد انطلق ابن نبي في دراسته لنشوء الحضارة من عدة جوانب، كبنية الحضارة و عناصر تركيبها، إضافة إلى وظيفتها الّتي تتعمّق في فهم الغاية التي تؤدّيها بنُظُمها في المجتمعات الّتي تنتشر أفكارها فيها؛ ليتوصّل في النهاية إلى تحليل طرق نشوء الحضارة و تطوّرها و غايتها الرساليّة الّتي تحقّقها(6)؛ لنخلص إلى أنّ الحضارة ليست عبارةً عن وفرة المنتجات الفكرية و المادية و تكديسها؛ إذ إنّ ذلك يتخم المجتمع بالشيئيّة و يسلبه طاقة القيام و يوقعه في خانة التبعيّة و الاستهلاكيّة، بينما الأمر على النّقيض من ذلك؛ لأن للحضارةِ قدرةً على البناء و الإبداع و صناعة الأُطُر الملائمة لذلك، ضمن رؤية شاملة للوسائل و الأهداف.

و يتكوّن مفهوم الحضارة عند مالك من عدة محاور ترتكز على انسجام الجهود الإنسانيّة و تكاملها مع قوانين النّهوض المادّي و المعنويّ و جملة الشروط الخاصّة بالنموّ و الازدهار في شتّى المجالات الفكريّة و الروحيّة و الاقتصاديّة و المادّيّة في الواقع المعاش(7)؛ إذ الغاية من تاريخ الإنسان السّير بركب التقدّم إلى أفضل أشكال الحياة الرّاقية(8)؛ و من ثَمَّ تتطلَّب عمليّة بناء الحضارة أُسسًا فكريّةً معيّنةً  و جهودًا في عالَمَي الأشخاص و الأشياء، و لكنّ ذلك لا يتم إلّا في صورة برنامج تربويّ يهدف لتغيير الإنسان من الداخل وفق شروط معيّنة، حتّى يتمكّن من أداء وظيفته الاجتماعيّة و يحقّق بناء المجتمع المتحضِّر(9).

انقداح الحضارة و أثر الفكرة الدينيّة فيها:

لم يغفل ابن نبيٍّ في نقاشاته و أبحاثه أهمّيّة الدّين في بناء الحضارة، فعدَّه أساس تحريك عجلة التاريخ و نقطة البداية في بناء صرحها؛ لأثره في حركة التّاريخ و دوره في حياة الأفراد و المجتمعات… و يستند مالك في رؤيته هذه على وجود عناصر الحضارة المادّية في عامّة الأمم، و حاجتها لاستثمار هذه الشّروط و التّأليف بينها إلى المحرِّك أو القادح الذي ينسج عملية البناء و التّركيب فيما بينها، و يختار ابن نبيٍّ -في هذا الإطار- “الفكرة الدينيّة” محرِّكة الحضارة  و موقدة انطلاقتها، و لعلّنا نجد تأسيسًا لهذا الإطار عند سابقيه كـ ابن خلدون في نظريّته عن “العصبيّة” و توينبي في نظريّته عن “التّحدي”.

إنّ “الفكرة الدينيَّة” الّتي تقف خلف النهوض الحضاريّ لا تقتصر على مجتمع دون آخر، فسواءً كُنّا بصدد المجتمع الإسلاميّ أو المجتمع المسيحيّ أو المجتمعات الّتي اختفت من الوجود فإنّنا نستطيع أن نقرّر أن الفكرة التي غرست أثرها في حقل التّاريخ ناتجة عن فكرة دينيّة(10).

و لعلّ مردّ هذا عائد إلى أنّ العلاقة الرّوحيّة بين الله و الإنسان تولّد العلاقة الاجتماعيّة و تنشئها، و هي ما يربط بين الإنسان و الإنسان، فنستطيع بذلك النّظر إلى العلاقة الاجتماعيّة و الدينيّة تاريخيًّا على أنها حدَثٌ، و من الوجهة الكونيّة على أنّها تطوّر اجتماعيٌّ واحد(11)، فبضعفِ العلاقة الدينيّة تضعف الشّبكات الاجتماعيّة و بقوّتها تقوى.

و لعلّ أهمّ آثار هذه الفكرةِ عند ابن نبي فهم العلاقة بين قوّة “الفكرة الدينيّة” و ضعفها أثناء نشوء الحضارة و تطوّرها أو أفولها ؛ فيتجلّى ذلك في انتقال العقل بسبب قوة الروح من مرحلة الخمول إلى النهوض و ملء مجالات الحياة بالفنون و العلوم و الصّناعات، إلّا أنه لضعف الروح أمام نهضة العقل تخرج الغرائز عن السّيطرة و تتسرّب من المنافذ التي تتيحها المادّة فيتاح لها التّمدّد إلى أن تصل إلى مرحلة التغوُّل في مواجهة “الفكرة الدينيّة”، فتتوقّف آثار هذه الفكرة في المجتمع و تدخل الحضارة ليل التاريخ مُتِمَّةً بذلك دورتها(12).

إنّ الفكرة (الدينيّة/المعنويّة) التي مثَّلت مبعث الحضارة الإسلاميةَ الدينُ الإسلاميُّ، حيث بدأت دورته بنزول القرآن و تغلغل مبادئه في نفوس المؤمنين به، فشهدنا بعد ذلك حياة المثل العليا، كما شهدنا ظهور علوم جديدة و حركة فكرية لا تضاهى، إلى أن ظهرت حياة التّرف و حبّ العظمة، فبدأت شمس الحضارة تأفل رويدًا رويدًا.

و لعلّ أهمّ ما نستخلصه من كلام ابن نبيٍّ عن “الفكرة الدينيّة” و أثرها في بناء الحضارة كونُ الدين العاملَ الأساسَ الّذي يعَدُّ السرّ الكوني المركِّب بين ثلاثيّة (الإنسان و التّراب و الوقت)، و الباعث لها بقوّة فعّالة في التاريخ(13)، فيشكّل الظّواهر و القيم و المبادئ الاجتماعيّة(14)، و الحضارة من هذه النظرة الفاحصة لا تقوم إلّا في ظلّ وجود شبكة من العلاقات الاجتماعيّة الّتي تشكّل الميلاد الحقيقيّ للمجتمع في التاريخ و بداية إنجازه التاريخيّ على ضوء “الفكرة الدينيّة”(15)، و ما دامت هذه الفكرة مستمرّة في التّركيب بين هذه الفئات الثلاثِ فإنّها ستبقى منتمية إلى كتلة بناء الحضارة في التّاريخ(16)، أمّا إذا صار الإيمان بالفكرة محض جذبٍ فرديٍّ، فإنّه سيفقد إشعاعه، و ستنتهي رسالته التّاريخيّة لعجزه عن دفع الحضارة و تحريكها(17).

عناصر الحضارة عند ابن نبي:

تتركّب الحضارة من عناصر متعدّدة، إلّا أنّ عناصر تركيب الحضارة ليست منتجاتٍ حضاريّةً بالضّرورة، بل هي أصول تفرضها طبيعة المنتجات و شروط الإنتاج(18)، و من هنا فإنّ ابن نبيٍّ يسعى إلى تحليل وافٍ لعناصر الحضارة، داعيًا إلى تناول المسألة كما تتناول المختبرات التّحليلات و التفاعلات الكيميائيّة(19)، و قد توصَّل بعد طول بحث إلى أن عناصرَ البناء الحضاريّة محصورة بالمعادلة الآتية: (منتوج حضاريّ = إنسان + تراب + وقت)(20)، و مجموع المنتجات الحضاريّة بالضرورة ناتج عن مجموع إنسان و مجموع تراب و مجموع وقت(21)، و مهما تكدَّست المنتجات الحضاريّة فلا يشي ذلك بوجود حضارة حقيقيّةٍ، لتأكيده المستمرّ على فهم الحضارة بناءً مركّبًا يشمل العناصر الثّلاثة فقط مهما بلغت درجة تعقيد هذا البناء(22)، كما يلتزم مالك في أبحاثه عن بناء الحضارة و شروط انطلاقها بمحوريّة الإنسان (فردًا و مجتمعًا) فيها؛ إذ يعدُّه المحور الرّئيس في أيّ مشروع حضاريّ، فهو البداية و الغاية، كما أن قوّة فكره أو مرضه دليل على قوّة حضارته و ضعفها؛ إذ إنّ جميع الأعراض التي ظهرت في السّياسة أو في صورة العمران لم تكن إلَّا تعبيرًا عن حالة مرضيّة يعانيها الإنسان الجديد الّذي خلف إنسان الحضارة الإسلاميّة، و الذي كان يحمل في كيانه جميع الجراثيم التي سينتج عنها في فترات متفرّقة المشاكل الّتي تعرّض لها العالم الإسلامي منذ ذلك الحين، فالنّقائص التي تعانيها النّهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرّجل الذي لم يكن طليعة في التّاريخ(23).

إنّ التّراب لا يكون عامل حضارة إلا بتهيئته مادّة المنتجات الاجتماعيّة، و كذا الوقت، فلا يكون عنصرًا في بناء الحضارة إلّا إذا تكيّف مع المجتمع فأصبح زمنًا اجتماعيًّا تجري فيه عمليّات الصناعة و نهضة الاقتصاد و الثقافة(24)، و يضاف الدين إلى هذه العناصر ليكون المركِّب الأساس فيما بينها، و من ثَمَّ فإن رؤية مالك لعناصر الحضارة تجتمع بهذه الثلاثية مع “الفكرة الدينيّة” فيطلق عليها مجتمعة مصطلح “العُدَّة الدّائمة” الواجبة لتحقّق الحضارة(25).

دورة الحضارة:

لم يحصل أن اتّفق المفكّرون على تعريف واحدٍ للحضارة أو عوامل تطوّرها و انتكاسها و العمر المفترض لها، إلا أنّهم عمدوا إلى رسم دوراتٍ يرون الحضارات داخلة فيها، فمن دورة العصبيّة عند ابن خلدون إلى التناقض عند هيجل أو صراع الطبقات عند ماركس أو الأطوار الثلاثة عند دوركايم(26)، و قد استفاد ابن نبي من فكرة دورات الحضارة الّتي بحثها المفكّرون  و علماء الاجتماع السّابقون، فتفحّص مقالاتهم  و نقدها(27)، و استفاض في البحث لتكوين نظرةٍ جامعة في فهم دورات الحضارة، فتوصّل إليها و حدَّد مخصّصاتها و شروطها، و ضبطها بين البداية  و الأفول، محدّدًا المرحلة التي تسبق البداية و المعالم الّتي تسم النهاية(28)، فابتدع ابن نبيٍّ دورة (النهوض و الأوج  و الأفول) بحسب التَّفاعل الذي تقوم به الفكرة الدينيّة مع ثلاثيّته الشهيرة على نحو ما أسلفنا من أنّ الحضارة تبدأ بارتباط فكرة دينيّة معيّنة تنهي سطوة الغرائز الجسديّة و تطلق الروح من سجنها فينطلق العقل معها ليَؤُول الحال مرّة أخرى إلى ارتباط الغرائز بسطوة العقل فخمود الألق الروحيّ و سيطرة المادّة على حسابها(29).

و مرَدُّ هذه الدورة برأي الباحث عائد إلى أنّ أيَّ حضارةٍ إنما تنتج عن فكرة جوهرية تطبع المجتمع في مرحلة ما قبل التحضر، و تدفعه لدخول ميدان التاريخ بحضارة واثقة، فقد أخرجت الفكرة المسيحية أوروبا إلى مسرح التاريخ، و بنت عالمها الفكري انطلاقًا منها، إلا أنّها تغيّرت بتغيّر فكرتها مع استعادة عصر النهضة أدبيّات الإغريق و فلسفاتهم الماضية(30)، لتصبح حضارة الغرب بذلك معنيّة بالمادّة لا الرّوح، و لو أردنا دراسة دورة الحضارة الإسلاميّة -في تطبيقٍ لنظريّته- فإننا نلحظ بدايتها مع الفكرة الدينيّة الإسلامية، ففي مرحلة ما قبل الحضارة كانت الجاهليّة تضرب أطنابها على مجتمع الجزيرة العربيّة، فجاءت الفكرة الدينية الإسلامية محرِّرةً الروح من ربقة غرائز الواقع المحيط بها، و دفعت بمعتنقيها إلى طور الأوج، فقام المسلمون بالفتوح و نشر العلوم و تطوير الفنون، لتصل إلى طور الأفول مع نهايات طور الأوج -أو ما سمّاه عصر ما بعد الموحّدين- حيث بدأت قوّة الفكرة الدينيّة في تسيير المجتمع بالغياب و مالت الطّبيعة إلى استعادة غَلَبَتِها على الفرد و المجتمع(31)؛ و هكذا نصل إلى النّتيجة الّتي وصل إليها ابن نبيٍّ من قبل في عدمِ وجود حضارةٍ ما تكاد تشذّ عن هذه الدورة(32).

تعاني الحضارة – لا ريب- من مشكلات عديدة ترهقها و تترابط فيما بينها بوشائج متعدّدة تدفعها إلى النّكوص عن غاية النهوض الروحيّ و السموّ العقليّ إلى غايات المادّة و طغيان الأشياء و الاستهلاك و تصنيم الأشخاص، و ذلك لغياب الفاعليّة المطلوبة من العقيدة و الأفكار و الثّقافة، و هو ما يحتاج بحدّ ذاته إلى توسُّعٍ و تقصٍّ مستفيض يوضّح المقصود بالفاعليّة  و قواعدها و أنواعها و أسباب تخلّفها عن أداء دورها.

ختمٌ و إيجاز:

لا يمكن لشعب أن يفهم مشكلته النهضويّة ما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها؛ إذ الحضارات المعاصرة و الماضيةُ و القادمُة عناصر للملحمة الإنسانيّة منذ فجر القرون إلى نهاية الزمن، فهي حلقات لسلسلة واحدة منذ أن هبط آدم على الأرض إلى آخر وريثٍ له فيها(33)؛ و من ثَمَّ فإنَّ أهمَّ ما يمكننا الختمُ به من آراء ابن نبيّ في الحضارة كونها مفهومًا مركّبًا يتساوق مع الظّاهرة الحضاريّة في نشأتها و تطوُّرها و أفولها؛ إذ هي في فحواها انسجامٌ لجهود الإنسانيّة مع السُّنن الإلهيّة في النّهوض المادّي و المعنويّ في شتّى المجالات الإنسانيّة و العلميّة و الدينيّة، فالغاية من ذلك التقدّم و الارتقاء بالإنسان إلى أفضل أشكال الحياة الممكنة، إلّا أنّ عمليّة بناء الحضارة تستدعي أُسَسًا يحصرها ابن نبي في عالَمَي الأشخاص و الأشياء، إضافةً إلى حاجتها لمحرِّك يعطي العمليّة البنائيّة قوّتها  و استمرارها، و هو ما حدَّده بـ “الفكرة الدينيّة” المنتمية -بضرورة الحال- إلى عالَم الأفكار، مشيرًا إلى أنّ ذلك لا يتمُّ إلّا بتنسيق شاملٍ يهدف لتغيير الإنسان من الداخل وفق شروط معيّنة، تُمكِّنهُ من أداء وظيفته الاجتماعيّة و بناء المجتمع المتحضِّر، و اختلال هذه الشروط عند ابن نبيّ سيؤدّي لطغيان هذه العناصر بعضها على بعضٍ، و انزواء الأفكار المحرِّكة للحضارة مقابلَها؛ مما يُنذر بأفول شمسها و استفحال التبعيّة الفكريّة و الاستهلاكيّة و أمراض عديدةٍ في جَسد المجتمع  و فكرِه.

الهوامش:

([1]) ينظر لسان العرب، جمال الدين، ابن منظور، دار صادر، بيروت، ط3، مادة: حضر.

([2]) ينظر مقدمة ديوان المبتدأ و الخبر في تاريخ العرب و البربر و من عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، أو ما يعرف بـ تاريخ ابن خلدون، عبد الرحمن ابن خلدون، تحقيق خليل شحادة، دار الفكر، بيروت، ط2، 1988، (ج1/ 152-153).

([3]) ينظر المعجم الفلسفي، جميل صليبا، دار الكتاب اللبناني، بيروت، د. ط، 1982، (ج1/ 475- 477) و ينظر المعجم الفلسفي، د. مراد وهبة، دار قباء، القاهرة، 2007، (280) مادة “الحضارة”.

([4]) آفاق جزائرية، مالك بن نبي، مكتبة النهضة الجزائرية، د.ط.ت، (30).

([5]) ينظر المصدر السابق، (46، 47)، و ينظر الظاهرة الغربية في الوعي الحضاري، د. بدران بن الحسن، سلسلة كتاب الأمة، العدد 73، ط1، 2000، (69، 70).

([6]) في مفهوم الحضارة، د. بدران بن الحسن، مجلة نوافذ: اتجاهات فكرية، 25 /12/ 2003.

([7]) ينظر البناء الحضاري عند مالك بن نبي، د. جيلالي بوبكر، دار المعرفة، الجزائر، د.ط، ت، (38).

([8]) ينظر ميلاد مجتمع، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، ط2، 1974، (16).

([9]) ينظر مشكلات الحضارة عند مالك بن نبي، محمد عبد السلام الجفائري، الدار العربية للكتاب، تونس، 1984، د.ط، 125، و يقارن بالمصدر السابق، (39).

([10]) ينظر ميلاد مجتمع، (52).

([11]) ينظر المصدر السابق نفسه.

([12]) ينظر المصدر السابق، (101-104-105).

([13]) ينظر ميلاد مجتمع، (74).

([14]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1985، (27).

([15]) حديث في البناء الجديد، مالك بن نبي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا، بيروت، د.ت.ط، (100-101).

([16]) ينظر شروط النهضة، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1986، (86).

([17]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، (27).

([18]) ينظر تأملات، (196).

([19]) ينظر آفاق جزائرية، (69).

([20]) ينظر تأملات، مالك بن نبي، ترجمة عبد الصبور شاهين، دار الفكر، بيروت، د.ط.ت (197).

([21]) ينظر المصر السابق نفسه.

([22]) ينظر المصدر السابق، (198).

([23]) ينظر وجهة العالم الإسلامي، (36).

([24]) ينظر آفاق جزائرية، (74).

([25]) ينظر شروط النهضة، (92).

([26]) أي المرحلة اللاهوتية، ثم الميتافيزيقية، ثم الوضعية.

([27]) ينظر شروط النهضة، (93-99).

([28]) ينظر شروط النهضة، (98، 99).

([29]) ينظر شروط النهضة، (105).

([30]) مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ترجمة: بسام بركة، أحمد شعبو، دار الفكر، دمشق، 2002، (41).

([31]) ينظر شروط النهضة، (102-104).

([32]) ينظر السابق، (79).

([33]) السابق (19، 20).

مجلة مقاربات – العدد الثالث

الرابط :  https://binbadis.net/archives/12035

قراءة 651 مرات آخر تعديل على الإثنين, 28 حزيران/يونيو 2021 16:36

أضف تعليق


كود امني
تحديث