تأمل في الرسم أدناه:
انظر للتداخلات بين الأسهم، ثم انظر لبداية كل سهم و نهايته، تجد أنّ التداخلات بين الأسهم عبارة عن التقاءات سطحية و ليست تقاطعات حقيقية، فلا تخفى على الناظر اليَقِظ معالم الحدود الواضحة بينهما مهما تشابكت ظاهرًا، ثم تلك التداخلات -على كثرتها- لا تجعل الأَسهُم كِيانًا واحدًا مندمجًا، و لا تؤدي لاتفاقها أبدًا في منبع البداية و لا وِجهة النهاية، بل إنّ كلّ سهم نَبَع من مُنطلق مغاير تمامًا للآخر، لمُنتهى مخالف تمامًا للآخر.
هذا تمثيل تصويريّ لخلاصة العلاقة بين التصوّر الشرعي للوجود كما أراده خالقه - جلّ و علا - و أخبر به، و مختلف التصورات البشرية و الفلسفات الوجوديّة المُبتَدَعة أو المُحرَّفة من المخلوقين، وحدها عقيدة الإسلام لله تنزّلت رأسًا من السماء، بينما كل التصورات البشرية على اختلافها نَبتَتْ فرعًا من الأرض ، و بناء على اختلاف المنشأ، تتباين الوجهة التي ينتهي لها كلا التصوّرين، و الغاية أو المآل اللذان يدفعان لهما معتنقهما.
https://basaer-online.com/wp-content/uploads/2020/09/lines.jpg 499w" sizes="(max-width: 292px) 100vw, 292px" style="padding:0px;margin:5px auto;outline:none;list-style:none;border:0px none;box-sizing:border-box;max-width:100%;height:auto;vertical-align:middle;clear:both;display:block;opacity:1;transition:all 0.4s ease-in-out 0s">
و في عصر العلم السيّال أو السيولة العلمية هذا، ابتَلَعنا خِضَمٌّ عاتٍ من المستوردات الثقافية المنهالة علينا من الشرق و الغرب، خاصة في ظلِّ سطحيّة علمنا بديننا و هشاشة بِنيَتِنا الإيمانية و هُلاميّة تصوّرنا المُسلِم للوجود، و انبهارًا ساذجًا بالالتقاء السطحي أو التّماسِّ العابر في بعض مفاهيم و اصطلاحات و أفكار، بين ما نعلمه من تصوّر الإسلام و ما وصلنا من التصورات البشرية، فتوهّمنا أنّ ذلك التماسّ يعني تقاطعًا مُشتركًا و مساحات تماثل حقيقي، و مع استمرار انهمار المستورد الدخيل و ازدياد الجهل بالأصل الأصيل، أخذت تَرِقُّ في عين الناظر المسلم و فهمه معالم الحدود الفاصلة بين الكِفّتين، ثم تنطمس و تتلاشى شيئًا فشيئًا، حتى بدا له أخيرًا ألَّا كبيرَ فَرقٍ بين تشريع السماء و تشريع الأرض! فصار الإسلام في تقدير المسلم المعاصر عامّة لا يعدو ثقافة من بين ثقافات أخرى، واعتقادًا من بين اعتقادات عديدة ، تتشارك كلها في "فكرة الإله" بشكل ما، و تدعو لمكارم الأخلاق الفطريّة و العمومية بين كل البشر بدرجة ما، و تشجع على الوئام الحضاري و السلام الكوني لحدّ ما، و تقرّ الحقوق العالمية لكل الناس... إلخ، فلا بأس في هذا الثراء الفكري و التنوع الثقافي، و كلّ ينتقي ما يعجبه بأريحية و بساطة!
و حقًا! لا إشكال في ذات التشابك الثقافي و التداخل الحضاري مع التصوّرات الأخرى، لكن الإشكال كلَّ الإشكال في ذات انطماس معالم الفروق بين الكِفّتين كما ذكرنا، و أعظم مكامن القلقلة و الخلل هي في أن يستقر مثل ذلك المنظور الوجودي غير المسلم عند الناظر المسلم! فكأنّ العمى و الإبصار عند المسلم سِيّان! لذلك يكون تأثر المسلم المعاصر غالبًا بأيّ آخَرٍ من أيّة مِلّة أو ثقافة تأثّرًا غير سَوِيّ، و أَخْذُه عنه غير صحيح، بل و تأثراً مُضِرًّا له؛ لأنه يزيده التباسًا في الفهم عند محاولات الأسلمة الهزيلة للثقافات المستوردة، و تَخبّطًا في التطبيق عند محاولات التوفيق الحائر بين متناقضات سببها اختلاف المنطلق و افتراق المنتهى.
وأُولى مبادئ إصلاح هذا الخلل البدء من المنطلق والانطلاق من الجذور، وترك منهجية الردود على الشبهات المعجونة نهاية، لمنهجية تصحيح التصورات المُعوَجّة بداية ، و ذلك بفهم التصور الشرعي للوجود أوّلًا على وجهه كما أراده و أراد به خالقه، بما ينفي ثلاثة أرباع ذلك العجين و الاعوجاج، الناشِئَيْن من الجهل و سوء الفهم حقيقة ليس إلا، ثم يكون بعد ذلك البناء على التصور الصحيح من أصوله، و التوسّع في مختلف الوجهات و المعارف على بصيرة و بَيِّنة، تؤهِّل صاحبها للانتفاع و الإفادة مما لدى الغير، دون أن يتزعزع تصوّره الأصلي أو تنطمس هُوّيته الأصيلة.