قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 22 تشرين1/أكتوير 2014 07:54

"المسألة الطائفيّة وصناعة الأقلّيات في المشرق العربي الكبير"

كتبه  الدكتور عزمي بشارة
قيم الموضوع
(0 أصوات)
قد يَستغربُ حتّى جزءٌ من الباحثينَ المقولةَ التي تفيدُ بأنّ الطائفيّةَ بمعناها المقصودِ في الخطابِ السياسي العربي في عصرِنا ظاهرةٌ حديثة. و لتبديدِ بعضِ هذا الاستغرابِ نقولُ إنّ الطوائفَ و العصبيّةَ ليست ظواهرَ حديثةً، و كلاهما كامنٌ في مفهومِ الطائفيّة، انطلاقًا من ديناميةِ المحايَثةImmanence  الضروريةِ بين الطائفيةِ و العصبية. و لكنّ المقصودَ بالطائفية في الخطابِ السياسي العربي في أيّامِنا سواء أكانَ مفهومًا نحاولُ تأسيسَه و يفيدُ في تحليلِ الظواهرِ الاجتماعيةِ القائمة أَمْ كان حكمَ قيمةٍ تبخيسيًّا معروفًا عن ظاهرةٍ بغيضةٍ، هو أمرٌ مختلفٌ عن التعصّبِ لِجماعةٍ، أيِّ جماعة. و هي بالتأكيد أمرٌ مختلفٌ عن الطائفةِ أَي الجماعة ذاتها، بمعنى أنّها طائفةٌ من البشر، أو فئةٌ من جماعةٍ أكبرَ. و في الدلالةِ القرآنيةِ  لِلَفْظِ الطائفة نجدُ وصفًا لامعياريًّا لفئةٍ هي جزءٌ من كُلّ، كما تُظهِر الآياتُ التي تردُ فيها كلُّها. و لم يكتسِبْ مضامينَ معياريّةً سلبيةً إلّا في القرن الرابعِ الهجري/ العاشرِ الميلادي الذي يَتعارفُ المؤرِّخونَ المعاصرونَ على وضعِه في أساسِ تحقيبِهِم للعصرِ العبّاسي الثاني؛ طردًا مع انقسامِ الخِلافة، و تَضَعْضُعِ سلطتِها العباسيةِ لمصلحةِ إماراتِ الأطرافِ المتغلِّبةِ، أوْ بِما يفيدُ التشرذُمَ مقابلَ الوِحدة.

فالطائفيّةُ التي يجري الحديثُ عنْها هي بالتحديدِ عَدُّ أتباعِ الدينِ، أو المذهبِ المعيَّنِ جماعةً تمثِّلُ امتدادًا أو تواصلًا تاريخيًّا (أي أنَّ لها تاريخًا) و ذاتَ حدودٍ اجتماعيّةٍ، و لها ناطقون باسْمِها (سواءٌ أكانوا علمانيِّين، أمْ رجالَ دِين) يَذودُونَ عنْها و يصيغون مَصالحَها بِلُغةِ التعايشِ و الخُصومةِ مع جماعاتٍ أُخرى. و يخلِقُ هذا تصوُّرًا عَنْ كيانٍ له أُسطورةُ مَنْشإٍ، و سرديةٌ تتراوَحُ بين صَوْغِ مشاعرِ الغُبْنِ و مَشاعرِ الافتخارِ و الكِبْرياء. و لكَيْ يَثبتَ التواصلُ التاريخي، غالبًا ما تُسقَطُ على الماضي مصطلحاتُ الطائفةِ في فهمِ ذاتِها و محيطِها في الحاضر. و هذا ممَّا أصفه باللُّغةِ التاريخيةِ النقديةِ بالمغالطةِ الزمنية، أو اللازمنيّةِ التاريخية.

و الأهمُّ من هذا كلِّه أنَّ سياقَ الطائفيّةِ السياسيةِ بمعناها التحاصصي المحدَّدِ، يرتبطُ بمرحلةٍ تاريخيةٍ جديدةٍ نَشأتْ فيها الدولةُ الوطنيةُ و الجماعةُ القوميةُ، و أصبحَ ممْكِنًا الحديثُ عن عصبيةٍ لقطاعاتٍ فيها تقومُ على الدينِ و المذهبِ، و أَصبحَ يُمكنُ تصوّرُها و المطالبةُ بحصّةٍ في الدولة، حتّى حيثُ لم تنشَأ الدولةُ بَعد، أيْ قبلَ الاستقلال. فتختلِفُ الطائفيةُ السياسيّةُ المعاصرةُ عن الطائفيةِ الثاوِيةِ في نظامِ المِلَلِ العثماني، في أنَّها تقومُ على المحاصَصةِ السياسيّةِ المؤسسيةِ أو شِبْهِ المؤسسيةِ للطّوائف، بينما كان نظامُ المِلَلٍ إطارًا تنظيميًّا قد يَنطوِي على التهميشِ لكنّه لا يَنطوي قَطُّ على المحاصَصةِ و ترسيمِها.

و تَتفاوَتُ هذه السردياتُ بينَ الطائفةِ بوصفِها جماعةً أهليةً مألوفةً للفردِ من بيئتِه المحليّةِ و الطائفيّةِ الأهليةِ المرتبطةِ بها، و الجماعةِ الطائفيّةِ المتخيَّلةِ في مرحلةِ ثقافةِ الجماهير، سواءٌ أَقُصِدَ بها طائفةٌ غيرُ محلّيةٍ في الدولة الوطنية كلِّها أَمْ عابرةٌ للدُّول. و نحن نَتعاملُ عادةً مع الطائفيّةِ السياسيةِ و النّظامِ الطائفي بوصفِهما ظاهرَتيْنِ في إطارِ الدُّول، و ليسَتَا عابرتَيْنِ لها، و لكنّهما قد تُسخِّران الرابطَ الطائفيَّ العابرَ للدولِ لتَوْثيقِ روابطَ تَضامنيّة، أَوْ لغَرَضِ التدخّلِ في دُولٍ أخرى. و يتعلّقُ ذلك باستخدامِ الطائفيةِ في العَلاقاتِ الخارجيةِ التي تنعكِسُ بالضرورةِ على الأوضاعِ الداخلية.

و في حالةِ الطائفةِ بوصفِها جماعةً متخيَّلةً متجانسةً تتّبِعُ مذهبًا أو دينًا تتخيّلُه متجانسًا أيضًا، تُسقَطُ على التبعيّةِ للدينِ مصطلحاتُ القوميّةِ و تعابيرُها و أدواتُها. و تتحوَّلانِ سَويّةً إلى فعلٍ سياسيٍّ في داخلِ الطائفةِ، فينعَكِسُ على مستوى الوِحدةِ الطائفيّةِ، و إشراكِ العامّةِ في السياسةِ عبْرَ الهُويّةِ المشترَكةِ المميّزةِ و المحدِّدةِ التي تجمَعُهمْ بنُخبِ الطائفة. و يَبدو الفِعْلُ في هذه المرحلةِ ثَوْريًّا في بعضِ الحالاتِ، و قَدْ يتجلَّى على شكلِ مَطالبَ مساواتيةِ الطابَعِ داخلَ الطائفةِ، بالتشديدِ على الاختلافِ عن الطوائفِ الأخرى، و المشترَكِ داخلَ الطائفةِ عينِها.

أمّا على مستوى عَلاقةِ الطائفةِ بالدولةِ، و بقيّةِ الطوائفِ في المجتمعِ، فتَظهرُ في الصراعِ مِنْ أجلِ حصّةٍ أكبرَ من الدّولةِ تَرجمةً لوَزنٍ ديموغرافي، أو لقوّةٍ اقتصاديةٍ و ثقافيةٍ، أَوْ تعويضًا لغُبْنٍ تاريخيّ أو غيرِ ذلك. و حين يُستَخدمُ التعويضُ عن الغُبنِ التاريخي أداةً لتحصيلِ امتيازاتٍ (و ليس حقوقًا مُتساوِية)، أو مبرِّرًا للتحالفِ مع قُوًى أجنبيةٍ (و هذا نوعٌ من الامتيازات) تصبِحُ كتابةُ التاريخِ من هذه الزاويةِ مسألةَ مصالِحَ سياسيةٍ و مُيولٍ أيديولوجيةٍ و ضروراتِ ترسيخِ الهُويّة، و باختصارٍ إنّه مسألةٌ خطابيّةٌ (discursive) لِدَواعٍ عمليةٍ أو سياسيةٍ.

لَمْ يَخْلُ عالَمُ الطوائفِ المحلّيةِ من العصبيةِ و مِن أنماطِ الإدارةِ الذاتيةِ الاقتصاديةِ و السياسيةِ المرتبِطةِ بالتنظيمِ التاريخي للاجتماعِ في المدينةِ الإسلاميةِ بصورةٍ خاصّة، أو حتّى بالمجتمعاتِ الريفيةِ أحيانًا، و فِي حالاتٍ مخصوصة. ول ا شكَّ في أنَّ الأهميةَ هنا هي للانتماءِ للجماعةِ الأهليةِ سواء أكانتْ عشيرةً أَمْ طائفةً، أَيْ لنمَطِ الوجودِ الاجتماعي السائدِ ما قَبْلَ الحداثةِ الذي يقومُ مدرسيًّا و بالأَحْرى تنميطيًّا على سيادةِ العَلاقاتِ العموديةِ مقابلَ العلاقاتِ الأُفقية. لكنَّ الطائفيّةَ بمَعنى استثمارِ التَبعيّةِ لدِينٍ أَوْ لمَذهبٍ ديني لتحويلِ أتباعِ هذا الدينِ إلى جماعةٍ تُحافظُ على نفسِها في وجهِ تحدِّي قُطبَي الاندماجِ و التهميشِ بلْ و مخاطرِ الاستئصالِ، اللذَيْن يهدّدانِ الطائفةَ، ثمّ ترجمتِها إلى قوّةٍ سياسيّةٍ لها مطالبُ من الدّولة، هي ظاهرةٌ منسوبةٌ للدّولةِ الحديثة. و لكنّها لم تتشكَّلْ مِن لا شيْء؛ فلِلطائفةِ السياسيةِ و غيرِها بداياتٌ غيرُ مكتَمِلةِ التكوُّنِ في الماضي، و هي بداياتٌ كافيةٌ لتكشِفَ عن بذورِ هذه الظواهرِ قبلَ ذلك بمَراحلَ. و بكلمةٍ لها جذورٌ تتغذَّى ذاتيًّا بنفسِها في الشروطِ التي تستدعِيها.

و تُعَدُّ الجماعةُ  طائفةً أصلًا، أَيْ جزءًا مِن كُلّ، لكنّ الطائفيةَ ناتجةٌ مِنْ أنَّ هذا الكُلَّ الجديدَ مختلِفٌ تاريخيًّا و ينافِسُ الجماعاتِ المحلّيةَ في مَدِّ خطوطِ الانتماءِ إليه و مَساراتِه التي تُمكِّنُه الحداثةُ منها، مثلَ التعليمِ الرسمي، و الخِدمةِ العسكريةِ، و خدَماتِ الدولة، و وسائلِ الاتصالِ الحديثةِ التي تصِلُ الدولةَ مباشرةً بالفرد. أمَّا في الماضي، فلَمْ يُمكِن الكيانيةَ السياسيةَ الإمبراطوريةَ التواصلُ مباشرةً مع القواعدِ البشريةِ المشكِّلةِ للجماعاتِ الأهليةِ، و لا حتّى على مستوَى الوِلاية.

مِن ناحيةٍ أخرى، إذا كان الكُلُّ هو الأمّةُ الإسلاميّةُ أو مجموعُ المِلّةِ كمَا كانَتْ تُسمَّى في مرحلةٍ تاريخيّةٍ سابقةٍ، فلا يمكِنُ عَدُّ المسيحيِّينَ و اليهودِ طوائفَ داخلَها؛ لأنَّهم ليسوا جُزءًا من كُلٍّ أصْلًا بَلْ همْ "أهلُ ذِمّة"، و هو مصطلَحٌ قابلٌ للتفسيرِ إيجابيًّا و سلبيًّا بحسَبِ المرحلةِ السياسيةِ من الناحيةِ المعياريةِ، لكنّه بوصفِه مفهومًا فقهيًّا أصليًّا هو رَمْيٌ لأهلِ الذِّمّةِ خارجَها. أمَّا إذا كان تعريفُ الكُلِّ قد اختلفَ و أصبحَ مرجعُه اللغةَ و الثّقافةَ أو الدّولةَ الوطنيّةَ التي يُفترَضُ أنَّ المواطنةَ وحدتُها الأساسيّةُ أو غيْرُ ذلكَ، يصبحُ هؤلاء طوائفَ... و قد يصبِحُ المسلمون طائفةً، أو ينقسِمون إلى طوائفَ في سياقِ الصّراعِ على هذا الكُلّ.

و لأنَّ الكُلَّ في الفكرِ القومي أو الوطني هو مرجعُ الشرعيّةِ الجديدُ، سواءٌ أكانَ أمّةً قوميّةً أم دولةً، يصبحُ الانتماءُ له مِعياريًّا، و يصبحُ تقسيمُه أمرًا مَرْذولًا، فهو بحُكْمِ تعريفِه مَسٌّ بالوحدةِ الوطنيّة. و حتّى عندَما يختلِطُ الفكرُ القومي أو الوطني باللبراليّةِ أو بالديمقراطيّةِ الأهليّة، و يصبحُ التنوّعُ داخلَها أمرًا مشروعًا و حتّى مرغوبًا، يَبْقَى التعصّبُ له و تحويلُه إلى سياساتِ هُويّة أمرًا غيرَ مَحمودٍ على المستوى القِيَمي، و على المستوى السياسي.

و لِهذا الحُكمِ المِعياري أَساسٌ في التحليلِ النّظري يتلَخّصُ في أَنَّ تقسيمَ المجتمعِ إلى طوائفَ ذاتِ حدودٍ مرسومةٍ سلَفًا يختلفُ عن تعدّديةِ التيّاراتِ السياسيةِ و الفكريةِ و الأحزابِ، و هي تعدديةٌ متغيِّرةٌ و متبَدِّلة. و إذَا حَلَّ هذا التقسيمُ محَلَّ تنوُّعِ الآراءِ و البرامجِ في صَوْغِ مصلحةِ المجموعِ، تُصبحُ التعدديّةُ الطائفيّةُ عدُوًّا للتعدديّةِ الفِكريّةِ و الحزبيّة، و تُصبحُ الطائفيّةُ خصْمًا للتعدديّةِ السياسيّةِ و للديمقراطيّة. هذا عَدا أنَّها تَقمَعُ حرّيةَ الاختيارِ الفردي؛ باختِزالِها الفردَ إلى تابِعٍ لِطائفة.

بإمكاني التوَسّعُ أكثرَ في هذا الموضوع، و لكنّي أَرى أنَّ الأمرَ غيرُ مُتاحٍ في محاضرتي القصيرةِ هذه، و سوف أَفعلُ ذلك في الدراسةِ المنشورة. و أختمُ هذا البندَ بالذاتِ بالقولِ إنَّه لوْ لَمْ نَكُنْ نعرِفُ بوثوقٍ تامٍّ عَلاقةَ الاستعمارِ بنُشوءِ الطائفيّةِ السياسيّةِ التحاصصيةِ في بلادِنا، و تحويلِ المِلَلِ العثمانيّةِ إلى طوائفَ سياسيةٍ تبرِّرُ تدخُّلَ الأجنبي، و مُواصلةِ ذلك أثناءَ الانتدابِ على بلادِنا في المشرقِ العربيّ في تلكَ المراحلِ، و قيامِ متصرفيّةِ جبل لبنان قبْلَها على أساسِ هذه المحاصَصةِ الطائفيةِ البوَاحِ المحدَّدةِ الحِصصِ و التمثيل، لَكانَ بإمكانِنا الاستعانةُ بالنظريةِ للتأمُّلِ في معنى الطائفيّةِ و نُفورِها من الرابطِ الوطني أو القومي الجامعِ، و تجاوُزِه إلى التعاوُنِ مع خصومِه الدوليِّين، و إعاقةِ تكوُّنِه و لا سِيَّما في مراحلِ نُشوئِه. لَقدْ كانت ذاتَ جذورٍ تاريخيةٍ، لكنَّ الطائفيةَ السياسيةَ بمعناها المعاصر وليدةُ تفاعُلِ المنظومةِ الاجتماعيةِ القائمةِ معَ الاستعمارِ الحديثِ، و طريقةِ بنائِه الدولةَ التي ستَرِثُها الدولةُ الوطنيةُ المستقلّةُ، أو ستَصطدِمُ بها بعدَه.

و لا شكَّ في نفسي و عقلي أنَّ المسارَيْنِ التاريخيَّيْنِ النقيضَيْنِ لتَشكُّلِ الطائفيّةِ السياسيةِ في بلادِنا كانَا نُهوضَ العروبةِ أَوْ ربّما الهُويةَ العربيةَ بالمعنى الثقافي السياسي، قبلَ التحوُّلِ إلى القوميّةِ الأيديولوجيةِ و السياسيّةِ التبريريّةِ السُّلطويةِ لأنظمةِ الحُكم؛ و الدّولةَ الوطنيّةَ و بِناءَ المؤسّساتِ الوطنيّةِ التي تختَرِقُ الجماعاتِ المحليّةَ الأهليّةَ. و ليس صدفةً أنَّ المسارَيْنِ في أماكنِ التقائِهِما أو تقاطُعِهِما أو حتّى افتراقِهما قَدْ شكَّلَا مَصدرًا لا ينضبُ للأفكارِ النهضويّةِ و الإبداعِ الأدبي و الفنِّي، و لمظاهرَ مدنيّةٍ عابرةٍ للطوائف تثيرُ في بعضِنا الحَنينَ، و غالبًا ما تُعَنْوَنُ بتَسمياتٍ لا تَتوخَّى الدقَّةَ؛ مثلَ المرحلةِ اللبراليّةِ، و المرحلةِ القوميّة، و حتى "الزمن الجميل"، و غيرِ ذلك.

و لَمْ يُثبِتْ لَنا أحدٌ من المشكِّكينَ في تعارُضِ هذَيْنِ المَسارَيْنِ مع الطائفيةِ حتّى الآن أنَّ الإنسانيّةَ اكتشفَتْ بديلًا عن الثقافةِ القوميّةِ الجامعةِ و أساسُها اللغةُ المشترَكةُ، و الدّولةِ الوطنيّةِ و قوامُها المواطنةُ بِما فيها الحقوقُ السياسيةُ و الاجتماعيةُ، بوصفِها أدواتٍ في الاندماجِ تخترِقُ انقسامَ المجتمعِ إلى جماعاتٍ عشائريةٍ أو جهويّةٍ، أو طوائفَ تبعيةٍ دينيّةٍ و مذهبيّةٍ تُدارُ علاقاتُها بالتعايُشِ و الاحتِرابِ، و قد تتحوَّلُ إلى أساسٍ للصِّراعاتِ السياسية. و المُلفِتُ أنَّ خُصومَ العربيةِ و العُروبةِ يُعجَبون بالرابطِ القومي الثقافي و حتّى السياسي عندَ الآخَرين... و مِنْ غرائبِ العصرِ أَنْ ينقسِمَ العربُ العراقيّونَ إلى طوائفَ، في حينِ يُصِرُّ الأكرادُ في العراقِ نفسِه على تشكُّلِهم القومي الكُردي المتجاوِزِ للوطنيَّةِ العراقية. و في الحالةِ السوريّةِ كان الأكاديمي و المناضِلُ الوطني السوري العضوُ الدائمُ في الكُتلةِ الوطنيةِ السوريةِ إدمون رباط يوضحُ منذُ عشرينيّاتِ القرنِ العشرين للجميعِ أَنَّ سورية دونَ العروبةِ هيَ طوائفُ و أقلّياتٌ، و أَنَّ العروبةَ هيَ طريقُ بنائِها كدَوْلة.

هذا واضحٌ بالنّسبةِ إلَيَّ أكثرَ مِن أَيِّ وقتٍ مَضى، و سبقَ أَنْ خصَّصتُ له كتابًا كاملًا هو "المسألةُ العربية". قَدْ يُقالُ لي إنَّ الحَلَّ هو الديمقراطيّةُ و اللبرالية و حقوقُ المواطِن. و أقولُ لا أتحدَّثُ عن الحُلولِ، بَلْ عن السِّياقِ التاريخي و الأُطرِ التي تُصبحُ فيها هذه حُلولًا ممْكِنةً؛ فالديمقراطيّةُ و اللبراليّةُ كلٌّ على حِدَة، و لِقاؤُهما سويّةً في الديمقراطيّةِ اللبراليّة غيْرُ ممكِنٍ خارجَ سياقِ الثّقافةِ التي تَجمعُ الناسَ و تَبْنِي "نحن" عابرةً للجماعاتِ المحليّةِ و الطوائف تُتيحُ التعدّدَ داخلَها بدَلَ الانشطارِ في حروبٍ أهليّة؛ و لا خارجَ الدّولةِ الوطنيّةِ الحديثةِ و أساسُها المُواطنة. و أَيُّ بحثٍ جدِّي عن صعودِ الطائفيّةِ السياسيةِ في منطقتِنا لا بُدَّ أَنْ ينتهيَ بسَطرٍ أخيرٍ طويلٍ عريضٍ هو أنّ الطائفيّةَ السياسيّةَ رَفَعَتْ رأسَها في بلادِنا و ازدَهرَتْ معَ فَشلِ هذَيْنِ المَسارَيْن في العقودِ الخمسةِ أو الستّةِ الأخيرة.

و يَبدو أنَّ العروبةَ - و أَرغبُ في الإلحاحِ هنا على ذلك - ليستْ نقيضَ الدولةِ الوطنيةِ في المشرقِ العربي، بل هي من أُسسِ وِحدتِها، و أَنَّ  بديلَها هو التمزُّقُ الطائفي بَلْ و الاجتماعي و المناطقي و ليس الوطنيّة. فالعروبةُ و الوطنيةُ مُتكامِلان. ليست القوميةُ العربيةُ هي التي قَوَّضت الوطنيةَ في المشرِقِ العربي بَل الاستبدادُ الذي استَخدمَ الأيديولوجيةَ السياسيةَ القوميةَ لخِدمةِ سَيطرتِه و نُظُمِه السياسيةِ، و فَرَضَها على العربِ و غيرِ العربِ، و أجَّجَ الطائفيةَ، و مَنَعَ تكوُّنَ المواطَنةِ بوصفِها انتماءً للدولة، و مركبًا حقوقيًّا لا يُجبَرُ الفردُ على المرورِ عبْرَ  الطائفةِ أو العشيرةِ أو الولاءِ للسُّلطانِ لمُمارستِه.

و ما الأدبياتُ العربيةُ التي يمكنُ تصنيفُها نقديةً إلَّا سيْلٌ مِن معالجاتٍ لا تتوقَّفُ بتسمياتٍ مختلفةٍ لِفشَلِ هذَيْنِ المسارَيْن. و لَنْ أتطرّقَ هنا إليها. و لكنّي أتوقَّفُ عندَ ملاحظتيْنِ أراهُما مهمّتَيْن:

أُولاهُما، إنَّ القوميةَ العربيةَ على الرغم من عُبورِها الطوائفَ و تبنِّيها خطابًا يسمِّيهِ البعضُ علمانيًّا بهذا المعنى الفريد، كمُضادٍّ للطائفيةِ بالدولة (و هو ليس المعنى الصحيح تاريخيًّا و مفهوميًّا للعلمانية)، فهي غالبًا ما تملّقَت التديُّنَ الشعبيَّ (و هو نمطُ التديُّنِ الأكثرُ عُرضةً للتطيِيف)، و اتّخذتْ مواقِفَ ضِدَّ الأقلّياتِ الدينيةِ، و لا سِيَّما أثناءَ صراعِها مع الإسلامِ السياسي، أوْ ارتكزَتْ إلى أقلّياتٍ طائفيةٍ، و لا سِيَّما في حالةِ حَمْلِها أيديولوجيةً تبريريةً بواسطةِ العسكرِ الذين تحدَّرُوا مِن الرّيف و استنَدُوا إلى قواعِدِهم الاجتماعيةِ فيه، و هُمْ في الحُكْم.

و لَمْ يَكْتفِ عديدٌ من مثقَّفِي الاستبدادِ العربِ بهذا، بل عَدُّوا تأييدَ الاستنادِ إلى طائفةِ الأقلّيةِ علمانيةً، و نَقْدَها تجاوزًا للعلمانيّة. لقَد أصبحَتْ طائفيةُ الأقلياتِ تُعَدُّ علمانيّةً، أمَّا تحيِيدُ الدولةِ في الشأْنِ الدينيّ فلَمْ يَلْقَ الاهتمامَ اللازِمَ، و لا سِيّما أنَّ العلمانيةً غالِبًا ما تَعْنِي في عُرفِهم تقديسَ المستبِدِّ و دولةِ الاستِبْداد. و في المقابِلِ وقَعَ عديدٌ مِنْ مُناهِضي الاستبدادِ في وَهْمِ الاستغناءِ عن الديمقراطيةِ و شَرطِها الأساس حكْمِ القانون، و المساواةِ أمامَ القانون، و الحقوقِ المدنية، و الاستعاضةِ عنها بطائفيةِ الأغلبية، بوصفِها شكلًا من أشكالِ الديمقراطيةِ التي أصبحَتْ مثلَ جرابِ الكردي مع الاحترامِ للأكراد.

و ثانيتُهما، إنَّ الدولةَ الوطنيةَ فشِلَتْ في بناءِ الأُمّةِ المواطنيةِ لأسبابٍ عديدةٍ تَفاوتَتْ بينَ الدكتاتورياتِ العسكريةِ التي حمَلَتْ غالبًا أيديولوجيةً قوميةً عربيةً، و الأنظمةِ الملَكيةِ التقليديةِ، و اشتركَتْ في الاعتمادِ على الولاءِ للحكمِ أساسًا للامتيازاتِ من جهةٍ و القمْعِ من جهةٍ أخرى، و ليس على المواطنةِ أساسًا للحقوق.
(2)

و يَنقسِمُ التحدِّي الكبيرُ الذي وضعَتْه ظروفُ المشرقِ العربي الكبيرِ التاريخيّةُ أمامَ الباحثينَ العربِ في موضوعِ الطائفيةِ، إلى اثنَيْنِ برَأْيِنا: أَوَّلًا، رَصْدُ تحوُّلِ الطائفةِ الاجتماعيّةِ إلى طائفةٍ سياسيّةٍ تَتخطَّى تمييزاتِ نظامِ المِلَلِ و سياساتِه؛ و ثانيًا، رَصْدُ عمليةِ تحويلِ الجماعاتِ أو الدياناتِ و المذاهبِ "الأخرى" و تَفكيكِها إلى أقلّياتٍ قياسًا بأكثريةٍ طائفية... أَوْ حتّى تصرّف الأكثريات بعقليةٍ طائفية. فهذا لمْ يَكُنْ قائمًا دائمًا. و هذه عمليةُ تحويلٍ تاريخي طويلةٌ و مُعقَّدةٌ للجماعاتِ إلى أقلّياتٍ فيما يَشرحُه مفهومُ (minorization) بِما هيَ عمليةٌ في فَهْمِ تحوُّلِ الجماعاتِ الأكبرِ ديموغرافيًّا مِنْ ناحيةِ الحجْمِ إلى أقلّياتٍ بالمَعنى العددِي في مَنظورِ الديموغرافيا التاريخيةِ، و التي يُبرهِنُ التاريخُ أنَّها تَتحوَّلُ غالبًا إلى ديموغرافيا جهويةٍ و جبليةٍ "منعزِلة". و ثمّةَ صيرورةٌ أخرى في تحويلِ المواطنينَ إلى أقلّياتٍ مِنْ دونِ تَغيُّرِ وزْنِهم الديموغرافي، و ذلك بالتعامُلِ معَهم بتصنيفِهم بحسبِ انتماءَاتِهم الدينيةِ في الخطابِ السياسي السائد. هذا وحدَه كفيلٌ بتحويلِهم مِنْ مواطنينَ إلى أقلِّيات.

بإمكانِنا نظريًّا تَخيُّلُ طائفةٍ اجتماعيّةٍ لها بنيةٌ و وظيفةٌ و حدودٌ على مستوى المجتمعِ الأهلي، و هي وظيفة مشروعة، و قد تكون ضرورية في حالات. و لَيس بالضرورة أن تَتحوّلَّ إلى طائفةٍ على المستوى الوطني، ثمّ إلى قوّةٍ سياسيّةٍ ذاتِ مظالِمَ و مطالبَ متعلّقةٍ بها، و أخرى متعلّقةٍ بمشاركتِها في الحُكمٍ، و تغييرِ نظامِ الحكم ليس إلى نظامٍ أعدلَ، بل إلى نظامٍ يَضمَنُ مشاركتَها مقياسًا وحيدًا للعدالةِ التي تَفهمُها.

و البنَى و الوظائفُ و الحدودُ الاجتماعيّةُ للطوائفِ معروفةٌ في سياقِها الاجتماعي التاريخي، سواء على مستوى الحمايةِ و التضامنِ، أو على مستوى الطقوسِ و الشعائرِ التي تُعيدُ إنتاجَها، أوْ على مستوى مَنْعِ الزّواجِ المختلطِ مع الطوائفِ الأخرى، و حتّى التخصّص بوظائفَ اقتصاديّةٍ معيَّنةٍ في بعضِ الحالاتِ بحَسبِ علاقتِها بمسائلَ مثلَ ملكيّةِ الأرض و الحِرَفِ و التجارةِ، و غيْرِها. كَما أنَّ الطائفةَ الاجتماعيّةَ بحُكمِ تعريفِها برأيِنا ذاتُ طابعٍ محلِّي. تكمن المشكلة في تحوِيلِها إلى طائفةٍ تتجاوَزُ حدودَ الجماعةِ المحليةِ، فهذه غالبا  تترافق معَ نُشوءِ أَدواتِ بناءِ الجماعةِ المتخيَّلةِ، كمَا في حالةِ القوميّة. و تُرافَقُ عادةً ببَدْءِ نُشوءِ المجتمعِ الجماهيري بأفرادِه المُتذرِّرينَ، أَي المتحرِّرينَ مِن التبعيّةِ لِلْجماعةِ العضويّة.

في ظروفِ نُشوءِ مجتمعِ الجماهير، لا يُمكنُ إعادةُ إنتاجِ الطائفةِ بأدواتِ الانتماءِ إلى الجماعةِ المحليّةِ فقَط، و تَنْشَأُ هنا حالاتُ أَدلجةِ الطائفةِ بواسطةِ إعادةِ إنتاجِها جماعةً متجانسةً عابرةً للمكانِ و الزّمانِ، و تدبيرِ ذلك بأدواتِ الاتّصالِ و التنظيمِ الحديثة، و يَرتبِطُ هذا غالبًا بدَوْرٍ سياسي و وظيفةٍ سياسية، لا سِيَّما أنَّ الجماعةَ المتخيَّلةَ قائمةٌ على أساسِ التبعيّةِ لمذهبٍ أو لدينٍ تُنافسُ طوائفَ أخرى، و جماعاتٍ متخيَّلة مثلَ القوميّةِ و الحزبِ السياسي و الأيديولوجياتِ على أنواعِها. برَأْيِنا، يمكِنُ بسهولةٍ مراجعةُ ذلك تاريخيًّا في كيفَ تَحوّلَت الطوائفُ المحليّةُ في البلداتِ أو المدُنِ، إلى طوائفَ ذاتِ طابعٍ قُطْري (و أحيانًا قليلة متجاوزٍ للدول) في تيّاراتٍ مذهبيةٍ سياسيّةٍ ترْعاها دُوَلٌ إقليميةٌ في بعضِ الأحيان؟ و متى؟ و لماذا؟ و ليس بالضرورةِ أن يكونَ هذا التتابعُ النظري تاريخيًّا؛ فمَجْرى الأمورِ التاريخي مختلفٌ عن النظري، و لا توجدُ فيه نماذِجُ نقيّةٌ عن الطائفيّةِ الاجتماعيّةِ أو السياسيّة. فهذه وظائفُ انفصلَتْ تدريجيًّا، و لم توجَدْ في الواقعِ التاريخي نماذجُ نقيّةٌ قائمةٌ بذاتِها.

يمكنُنا رَصْدُ نشوءِ المذاهبِ الإسلاميةِ تاريخيًّا بسهولة. و ثمّةَ دراساتٌ متقدّمةٌ في هذا الموضوع. و لكنّ مهمّةَ رَصْدِ تَحوُّلِ أتباعِها إلى طوائفَ اجتماعيّةٍ منفصِلةٍ ذاتِ حدودٍ ثابتةٍ نسبيًّا هي مهمّةٌ أصعَبُ في التاريخ، مثلًا في تاريخِ بغداد في القرنِ الرابعِ الهجري بصورةٍ خاصّة، و مِنْ ثَمَّ في تبريراتِ الصراعِ العثماني - الصفَوي الطويلِ، و آثارِه، و ما صاحبَه من تسنينٍ و تشييعٍ بقوّةِ السَّيف. و لكنّني أَدعو إلى تأَمُّلٍ نقدي في فكرةِ تحوُّلِ هذه الطوائفِ إلى جماعاتٍ ذاتِ وظيفةٍ سياسيّةٍ تَطمحُ للمحاصصةِ و تَعملُ من أجْلِها؛ لأنَّ السياسةَ في ذلك العصرِ لمْ تكُنْ وظيفةً قائمةً بذاتِها، و لا كانت الدّولةُ قائمةً كوظيفةٍ منفصلةٍ عن المجتمع. و لكن يصحُّ هذا إذَا كان المقصودُ الصراعَ على الاعترافِ بحقِّ تفسيرِها النصّ، و حقِّها في مُمارسةِ عاداتِها... و الأهمُّ مِن هذا و ذاك الصراعُ على السُّلطان، أَوْ على الحُظْوَةِ لديهِ و القُربِ منه.

و مع ذلك، يُمكنُ ملاحظةُ بداياتِ هذا التحوُّلِ في نُشوءِ الدّولةِ الفاطميّةِ كمرحلةٍ أُولى، و تحوُّلِ أهلِ السنَّةِ و الجماعةِ مِنْ جماعةٍ من العلماءِ المعارضينَ للمعتزلة أو للتصوُّف أو لغيرِها من "البِدَع" إلى "فِرقةٍ ناجِيَة"، أَوْ تعبئةِ العامّةِ كمِلّةٍ مستنفرةٍ ضدَّ الدّولةِ الفاطميّةِ تارةً أخرى. و يُمكنُنا أنْ نُحدِّدَ بدقّةٍ متى نَشأَ المذهبُ الإثنَيْ عشري و تحوَّلَ إلى مذهبٍ فِعلًا في التاريخِ أيضًا في المرحلةِ التاريخيّةِ نفسِها. و لكِنْ، يَصعُبُ أكثرَ تحديدُ متَى تَحوَّلَ أتباعُه إلى طائفةٍ. و يُمكنُنا القوْلُ إنّه تَبلوَرَ أوّلًا مذهبًا ضدَّ الإسماعيليّة و ليس ضدَّ السُنّة، و لكنَّ تحوُّلَه الرئيسَ بوصفِه طائفةً جَرى بين مدٍّ و جزْرٍ، و تحوّلاتٍ كبرى ذاتِ علاقةٍ بالتغيُّراتِ السكّانيةِ و الجغرافية، و لكنَّه صعدَ على مسارِ التطيِيفِ بمَعنى تحويلِه إلى ممارساتٍ يمكنُ لجماعةٍ كبيرةٍ من البشَرِ الالتزامُ بها في خِضمِّ الصراعِ بين الدّولةِ العثمانيّةِ و الدّولةِ الصفَويّةِ على العراق. و هذا هو الأخطرُ و الأكثرُ تأثيرًا، على الرغم من فُصولِ السّلامِ و المُعاهداتِ الدوليةِ بين العثمانيِّين و الإيرانيِّين.

أمّا المرحلةُ الثالثة، فهي مرحلةُ التنظيماتِ و بَدْءُ تحويلِ أهلِ الذّمّةِ إلى جُزْءٍ من كُلٍّ بالمعنَيَيْن، طوائفَ و مواطنين جزئيًّا في الوقتِ عينِه، ثمّ تدخُّلُ الاستعمارِ لحمايةِ ما أصبحَ يُعرفُ فجأةً بالأقلّياتِ (بلغةِ الأوروبيِّين) و قيامُه بمَأْسسةِ المحاصَصةِ الطائفيةِ في إدارةِ مجلسِ جبل لبنان إثْرَ مذابحِ عامِ 1860.

و في هذه المرحلةِ يَندرجُ تحوُّلُ الطوائفِ الاجتماعيّةِ من جبل لبنان إلى نوْعٍ من الطوائفِ السياسيةِ معَ إعادةِ تعريفِ الغربِ أو استغلالِه لنظامِ الامتيازاتِ و لحمايةِ الطوائفِ في المراحلِ الأخيرةِ من تاريخِ الدولةِ العثمانيةِ، ثمّ تَسْيِيسِها تمامًا في النظامِ الطائفي السياسي الوحيدِ في المنطقةِ العربيّةِ في لبنان منذُ نشوءِ نظامِ المتصرفيّة و حتّى الآن، على الرغم مِنْ أنَّ الدستورَ اللبنانيَّ الراهنَ المنبثِقَ عن اتّفاقِ الطائف يقومُ على ضرورةِ إلْغاءِ الطائفيةِ السياسية، و لكنّه يُعيدُ إنتاجَها. و حتّى في التاريخِ اللبنانيّ ما بعدَ الاستقلالِ بعدّةِ سنواتٍ كان التوزيعُ الطائفيُّ عرْفًا، و كان يمكنُ لمسيحي أرثوذكسي مثلَ حبيب أبو شهلا في عامِ 1947 أنْ يشغَلَ منصبَ رئيس مجلسِ النوّاب، لكنّ الدولةَ اللبنانيةَ مَأْسسَت المحاصَصةَ الطائفيةَ في بناءِ أجهزتِها، كمَا مَأْسَست تشكيلَ المجالسِ الطائفيةِ ذاتِ السلُطاتِ في نطاقِ طوائفِها بأَعلى بكثيرٍ ممَّا مارسَتْه سلطاتُ الانتدابِ الفرنسي التي زَرَعت عمليةَ المَحاصصةِ الطائفية.

و يمكنُ مراجعةُ تاريخِ الطوائفِ و الطائفيّةِ في العراق و الاستنتاجُ بسهولةٍ أنَّه ليس له تاريخٌ في الطائفيّةِ السياسيّةِ، على الرغمِ من أنَّه لَمْ يَخْلُ مِن الخصومةِ الطائفيةِ، و أنَّ تحويلَ الطائفيّةِ الاجتماعيّة إلى طائفيّةٍ سياسيّةٍ هو مِنْ نتائجِ التدخُّلِ الأميركي في العراق و ضَرْبِ الدّولة، و التدخُّلِ الإيراني في المعارضةِ العراقيةِ قبلَ ذلك، و بعدَه في النظامِ الذي قامَ بعدَ الاحتلال. و لمْ يتحوَّل النظامُ العراقيُّ إلى نظامٍ سياسيٍّ طائفيٍّ دستوريًّا، بَلْ حصلَ ما هو أَسوَأُ؛ فالنظامُ الطائفيُّ الدستوريُّ يَمنَعُ التحوُّلَ الديمقراطي، و يصلبُ المحاصصَةَ لتصمُدَ في وَجْهِ المتغيّراتِ حتّى الديموغرافية، و لكنَّه يضمَنُ على الأقلِّ تمثيلَ الأقلّياتِ و حقوقَها، و غالِبًا ما يحمِيها التوافقُ الطائفيُّ المنظَّمُ إلى أَنْ تَثبتَ هشاشتُه؛ ففِي العراقِ جرَى تبنِّي نظامٍ ديمقراطي مِنْ حيثُ الشّكْل،  فرضه الاحتلال و فرض معه تنظيم السكّانِ سياسيًّا على أساسٍ طائفيٍّ ، و تعامُلِ الدولةِ معَهم على الأساسِ نفسِه، ما جعَلَ الديمقراطيةَ أداةً في تطيِيفِ الدولةِ و أجهزةِ القمْعِ مع تهميشِ الطوائفِ الأخرى. و هذا بالطبعِ أَسوَأُ مِن النظامِ الطائفي. إنّها سياسةٌ طائفيةٌ تُسخِّرُ الديمقراطيةَ الشكليّةَ و لا تقدِّمُ أيَّ حمايةٍ للأقلّياتِ على أنواعِها. و في العراقِ اعترف مجلس الحكم بالكردِ كقوميةٍ مع أنَّ معظمَهُم سُنّةٌ، بينَما عُدَّ العربُ شيعةً و سنَّة.
(3)

يُثْبتُ تاريخُ المشرقِ العربي أنَّ التديّنَ السياسي، بغَضِّ النظرِ عَنْ نُشوئِه، إذَا وقعَ في مجتمعاتٍ متعدّدةِ الطوائفِ و تُعانِي أصلًا مِنْ عدمِ استقرارٍ في هُويّتِها الوطنيةِ أو القوميةِ، فإنَّه يَؤُولُ بالضرورةِ إلى طائفيةٍ سياسيةٍ، حاملًا معه فكرَه السياسيَّ الديني، سواءٌ أكانَ سلَفيًّا أَمْ أصوليًّا أَمْ إصلاحيًّا... و يَستخدِمُ الطائفيّةَ في التحشيدِ خلْفَه. و في حالةِ السلفيّةِ الجهاديةِ التي امتدَّتْ مؤخّرًا إلى دولِ المشرقِ و الْتقَتْ مع صعودِ قوّةِ الطائفيةِ و تراجُعِ الدولةِ الوطنيةِ و ضعفِها في زمَنِ الثّورات، و لا سيَّما حيثُ ارتبطَتْ وحدةُ الدولةِ بالاستبدادِ، وقَعَ لقاءٌ شديدُ الانفجارِ بين السلفيّةِ الجهادية و الطائفيّة.

قبْلَ حصولِ هذا اللِّقاءِ، حادَتْ الطائفيةُ الاجتماعيةُ و السياسيةُ المتولِّدةُ عَنْ تهميشِ الغالبيةِ في ظلِّ استبدادٍ في مجتمعٍ متعدِّدِ الطوائفِ، بالنضالِ التحرُّري عن هدفِه الأصلي، و هو التحرّرُ من الاستبدادِ و إقامةُ نظامٍ سياسي يحفظُ حقوقَ الناسِ المدنيةَ و كرامتَهم و حرياتِهم. و لكنَّ السلفيةَ الجهاديةَ في حالةِ السياسةِ الطائفيةِ، لا تُهمِّشُ عنصرَ التحرّرِ في النضالِ ضدَّ الاستبدادِ و حَسْب، و لا تَحْرفُ النضالَ الثوريَّ عَنْ هدَفِه الأصلي من أَجلِ التحرُّرِ من الاستبدادِ إلى نزعاتٍ طائفيةٍ و حَسْب، و لا تَكتفي بالمطالبةِ الطائفيةِ بإشراكِ الطوائفِ المضطَهَدةِ بحصّةٍ أكبرَ، بَلْ تذهبُ إلى نَفْيِ الآخرِ و تكفيرِه. و ليس ذلك من شروطِ اللُّعبةِ الطائفية.

إنَّها لا تَعترفُ بالطوائفِ الأخرى أصْلًا، بل تجرِي عليها أحكام أهلِ الذّمّةِ في أَسوَإِ تفسيراتِها الفقهيّةِ و السلوكيةِ و أفظَعِها، مستلهمةً مِن أسوإِ المراحلِ في تطبيقِها في التاريخِ الإسلامي، و التي غالبًا ما تنسب إلى أكير الحكَّامِ تَقْوى في خِطابِ الجماعاتِ الإسلامية، و أكثرُهمْ تقرُّبًا من العلماءِ المتشدِّدينَ و العامّةِ بحْثًا عن الشرعيّة. (عمر بن عبد العزيز، و المتوكّل، و فتاوى ابن تيمية في مذبحة كسروان في عامِ 507ه/ 1305م، و تعصّب سياسات سلاطين المماليك ضدَّ الجماعاتِ الأخرى مسيحيةً و إسلامية).

يُضافُ إلى ذلك أَنَّ الطائفيةَ ترتبطُ تاريخيًّا بموجبِ تحليلِنا برَسْمِ حدودِ الطوائفِ و استقرارِها ثمّ سَعْيِها لتحصينِ منزلةٍ و مكانةٍ وحصّةٍ ضمنَ الكُلِّ الجديدِ ألَا و هو الدولةُ الوطنيّةُ، و لَوْ على حسابِ حقوقِ أفرادِها. أمَّا هذا النمطُ الهَجينُ من الطائفيةِ و السلفيّةِ الجِهاديةِ، فتقليد مشوه مسيس للفتوحاتِ و حملاتِ الدعوةِ ونشْرِ الدين. و هذا ليس مرتبِطًا بالضرورةِ بالطائفية. هذا إذا استثنينا تركيب الظاهرة سياسيا من قبل عوامل سياسية. و على كل حال اجتذبت هذه الظاهرة الفظيعة من الاهتمام الإعلامي و المخاوف الحقيقية و المضخمة ما غطى على جرائم أفظع بكثير (كما و نوعا، إذا صح هذا التصنيف) ارتكبها الاستبداد.

كمَا أنَّ هؤلاء قَتلوا مِنْ السنة في سورية و العراق، أي "طائفتِهم" المفترَضةِ المتخيَّلةِ، أكثرَ ممَّا قتَلُوا مِن أبناءِ الطوائفِ الأخرى؛ فَهُمْ تكفيريّونَ و ليسُوا طائفيِّينَ فحَسْب. إنَّهم يمثِّلون نُكوصًا إلى مرحلةِ ما قبلَ الطائفيةِ التي نَعرِفُها إلى مرحلةِ الحروبِ الدينية. هذا إضافةً إلى أنَّهم لا ينتَمونَ لأَيِّ حدودٍ معروفةٍ لطائفةٍ، بل يمثِّلونَ إِحياءً كارثيًّا مشوّهًا لمَفهومِ الأمّةِ و الخِلافةِ، ما قبْلَ الدولة، و ما قَبْلَ حتّى الطائفيةِ المعترِضةِ على الدولة. و لا يُمكنُ أَنْ تنتهيَ هذه الردَّةُ الكبرى عن التمدُّنِ العربي إلّا بِمَأْساة.

و هي تثيرُ نقاشًا مستمرًّا بخصوصِ تشويهِها الإسلامَ الحقيقيَّ. فهَلْ مِنْ شيءٍ اسمُه الإسلامُ الحقيقي؟  لا شكَّ في أنَّ كلَّ ممارسةٍ يقومُ بها تنظيمُ الدولةِ الإسلاميةِ في العراقِ و الشامِ يوجدُ لها سنَدٌ في كتاباتِ السلَفِ، و في ممارساتِ بعضِ السلَف. مع أنَّه سنَدٌ انتقائيٌّ و استنسابيٌّ و استدعائيٌّ خارجَ تاريخِه بكلِّ تأكيد.. و برَأْيِي، فإنَّ مسألةَ ادِّعاءِ الإسلامِ الحقيقيِّ هيَ في الأصلِ زائفةٌ؛ لأنَّها تخلِطُ بينَ الدّينِ - بالأحرَى فَهْمِ الدّين - و التديُّنِ، قَدْ وصلَتْ معَ "داعش" إلى نهايَتِها القُصْوَى الكارثيَّةِ، و ليس لدَيَّ شكٌّ في أنَّه سوف تَجرِي بعدَها مُراجعاتٌ علَنيّةٌ لأُمورٍ كثيرةٍ كان مَسكوتًا عَنْها في تاريخِنا.
 
المصدر:
 
قراءة 2205 مرات آخر تعديل على الإثنين, 27 تموز/يوليو 2015 17:27

أضف تعليق


كود امني
تحديث