الحياة هي الذكريات، بل إنما الإنسان ذكريات؛ برهان ذلك - كما ذكر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله -: أن أحدنا لو جُرِّد من ذكرياته، لأصبح و ما لحياته معنًى، و لا لوجوده اعتبار!
و حين أعود بذاكرتي إلى سِنِي عمري التي مضت - بخيرها و شرها، بفرحها و ترحها، بسرائها و ضرائها - أحسُّ و كأنني بنيان شيدتْه الليالي و الأيام، و كلُّ لَبِنة في هذا البنيان إنما هي لحظة أو موقف أو مشهد أو أي ذكرى من هذه الذكريات، التي عملت في نفوسنا و مشاعرنا عملها في وقتها، لكنها صارت من بعد شيئًا منا و فينا، نعود إليه فنذكره: نندم عليه آسفين، أو نَحِنُّ إليه ممتنِّين، أو يعود هو إلينا فيهيج علينا الأحزان، أو يبعث فينا المسرَّات، فنأسى أو نبتسم في هدوء!
و حين أفكر في هذا الأمر جليًّا، أخلُصُ إلى القول: بأن هذا الأمر داعٍ من أكبر الدواعي إلى إتقان العمل، و الصبر على الواجبات، و تحمل المسؤوليات؛ كي نستطيع بذلك تكثير صفحات النجاح و الفلاح و السعادة في كتاب حياتنا، و نقلل ما استطعنا - و لا مفرَّ- تلك الصفحات التي عنوانها الفشل و الحزن، و تفاصيلها التقصير و التفريط، أو الطيش و الغفلة، أو أي شأن نحن الملومون فيه، و التهمة ثابتةٌ!
ثم لو كانت فصول هذا الكتاب متناثرة لا يربط بينها رابط، و لا يؤثِّر في لاحق منها سابقٌ، إذًا لهان الأمر جدًّا و لقلَّ شأنُه، لكن الأمر ليس كذلك.
لننظر إلى الحزن مثلاً؛ فإن الإنسان - كما يقول الرافعي -: إذا حزن استدعى كلَّ أحزانه، و كأن حزنًا واحدًا لا يكفيه! لهذا صرتُ أعوذ بالله من حزن جديد يضاف إلى أحزاني و يأبى على النسيان، يزيد في وجعي مع كل حزن يأتيني، مع أني أعوذ بالله من كل حزن؛ لأنَّ أحب شيء إلى الشيطان - كما يقول ابن القيم -: أن يحزن العبد المؤمن؛ ليقطعه عن سيره، و يوقفه عن سلوكه، و الحزن يضعف القلب، و يوهن العزم، و يضر الإرادة.
ثم إني لا أظن أن الأمر مقتصر على هذه الذكريات؛ لأن الذاكرة - كما يقول العقاد -: ذاكرة مستبدة، تحفظ و تنسى على غير قانون ثابت؛ إذًا فتفاصيل حياتنا تغير فينا و تبدل من حيث أدركنا ذلك أم لم ندرك، و من ذا الذي يصفو له حال؟!
أخيرًا، و حتى يكون القول تامًّا لا مدخل لأحد عليه، و لا موضع غمز و لا همز - أقول: من الناس من لا يلتفت إلى ماضٍ و لا ينظر إلى وراء، تراه مشغولاً بحاضره و حاضره فقط! لا يقف طويلاً عند فشل و لا يعوِّلُ على نجاح، يقبل على كل أمر بنفس جديدة، لا تقلقه خيبة مضتْ، و لا تخوفه عثرة انقضت، كأنما هو متفائل كل حين و على كل حال.
و في تقديري: لعل هؤلاء في راحة و اطمئنان، و ربما كانوا هم أجدر و أقوى على السعي و العمل و المثابرة، و لعل هذا ما جعل ابن حزم يقول: "و إن حنيني إلى كل عهد لي ليغصني بالطعام و يشرقني بالماء (و قد استراح من لم تكن هذه صِفته)".
و مع ذلك أقول ما قال رب العزة سبحانه: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الأعراف: 54]؛ فهنيئًا لأناس الروحانية الفياضة التي تملأ عليهم نفوسهم فيحيون حياة غير الحياة، تملك عليهم أحاسيسهم بألوان و معانٍ، لكلٍّ عَبَقُه، و لكلٍّ لذَّتُه، و هنيئًا لأناس عزيمتهم و جَلَدُهم و ما يوفقهم الله إليه من إنجاز ربما عجز عنه سواهم و ما استطاعوا معه صبرًا.
لماذا أقول ذلك؟!
تسألني؟!
إذًا تسألني عن السعادة!
لأن السعادة هي جنة الرضا في قلب المؤمن، و لأن الناس جميعًا - و إن تفاوتت بهم الطبائع و الصفات - ساعون في طلب غرضٍ واحد و استحسانه - على رأي ابن حزم - و هو: طرد الهمِّ.
ثم أختم بقوله رحمه الله - و راجعه؛ فإنه نفيس، و فيه مزيد إيضاح -: "بحثتُ عن سبيل موصلة على الحقيقة إلى طرد الهم الذي هو المطلوب للنفس... فلم أجدْها إلا التوجه إلى الله عز وجل بالعمل للآخرة...، و وجدت العمل للآخرة سالـمًا من كل عيب، خالصًا من كل كدر، موصلاً إلى طرد الهم على الحقيقة".