قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 01 تشرين1/أكتوير 2017 07:56

في ذكرى "اكتشاف" أمريكا: دور العامل الخارجي في نهوض أمتنا (2)

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

-انتقاد المركزية الغربية: يرى هنتنغتون أن جميع الحضارات كانت تضع نفسها في مركز العالم، و لكن هذه الرؤية انطبقت على الغرب أكثر من غيره، إلا أن فائدتها أصبحت متناقصة في عالم متعدد،  و هو ينقض فكرة القدرة الغربية الأبدية على الاستمرار في الهيمنة العالمية، و هي الفكرة التي روجها مبهورون بالغرب استناداً إلى قدرته الذاتية على تصحيح أخطائه مما يفتقر إلى الدليل الواقعي، و في سبيل المحافظة على تماسك الغرب يحاول هنتنغتون بسط الواقع أمامه لإرشاده إلى طريق النجاة بحضارته من الانحدار الذي تسير فيه قواه و الذي يسري على جميع الحضارات البشرية و الغرب ليس استثناء كما يظن المعجبون به دون تمعن، و هو يدحض فكرة العالمية الغربية و مستنداتها الهشة كانتشار لغاتها أو بضائعها، و يؤكد عملية صعود الآخرين لاسيما الصين و يصور مكان الغرب المتراجع بين أمم العالم في المستقبل، و قد أدرك ذلك مؤرخون كبار منذ بداية القرن العشرين، مثل أوزولد شبنجلر (1918) مؤلف كتاب "تدهور الحضارة الغربية" الذي دعا إلى التخلي عن الأحادية الغربية لصالح تاريخ متعدد من الثقافات العظيمة، و بعده بعقود انتقد أرنولد توينبي ضيق الأفق و الوقاحة التي صورت للغرب أوهام تفرده و أن العالم يدور حوله، و أن الآخرين إما خاضعون للغرب أو تائهون في رمال الصحراء، و بعد نصف قرن من توينبي دعا فرنان برودل إلى منظار أكثر اتساعاً لفهم الصراعات الثقافية و التعددية الحضارية في العالم، "إن الأوهام و الآراء المسبقة التي حذر منها هؤلاء العلماء، مع ذلك، مازالت تعيش و في أواخر القرن العشرين ترعرعت في انتشار الوهم ضيق الأفق بأن الحضارة الأوروبية للغرب هي الآن الحضارة العالمية للعالم" كما يقول المؤلف، (صدام الحضارات و إعادة بناء النظام العالمي، الدار الجماهيرية للنشر و التوزيع و الإعلان، مصراتة، 1999، ص 126) و هو ما يؤكد وجوب قراءة الرأي العام الغربي بعيداً عن تعميم التوجهات الإنسانية و الأكاديمية المغرية و التي قد تكون محصورة في دوائر ضيقة بغير سلطات في الوقت الذي يحلو للبعض أن يرى الجميع في الغرب بصورة وردية معممة بلا مبرر، و الغريب ليس في وجود ذلك الخطاب العامي رغم تحذير العلماء منه و حسب، بل أن يكون هذا الخطاب العامي الفوقي هو نفسه خطاب النخبة التغريبية المثقفة في المشرق رغم ادعاءاتها الثقافية المتعالية على "الغوغاء" و"الدهماء"، و لكنها في الحقيقة تتبنى خطاب العامة في الغرب و تؤكد فرادة الغرب و وجوب الاقتداء الحرفي بطريقه الأوحد الذي لا راد له، و تغفل عن الخطاب العلمي التاريخي.

2-نقد فكرة "نهاية التاريخ"

يقول هنتنغتون : "إنه من الغرور الصرف أن نعتقد أنه بسبب سقوط الشيوعية السوفييتية، فإن الغرب قد فاز بالعالم لكل الوقت، و إن المسلمين، و الصينيين، و الهنود، و غيرهم سيهرعون لاحتضان الليبرالية الغربية على أنها الخيار الوحيد. إن انقسام الإنسانية في الحرب الباردة قد انتهى، إن الانقسامات الأكثر جوهرية للإنسانية في شكل العرقية، الأديان، و الحضارات تبقى و تولد صراعات جديدة" (ص 144)، و لهذا ليس من الغريب أن يتخلى صاحب نظرية نهاية التاريخ نفسه عن نظريته لما وجد التاريخ يستمر بجريانه و لم يأبه بسقوط الشيوعية و انتصار الرأسمالية لبرهة على أنه حدث قيامي يسجل النهاية السعيدة بانتصار الغرب على العالم، و في الوقت الذي يتخلى فيه المتعصبون في الغرب عن هذه الفوقية، نرى الأتباع في المشرق يصرون على تبني مخلفات سادتهم بالإصرار على أن الحضارة الغربية هي أعلى مراحل الإنسانية و أنه لا راد لقضائها، و يبدو حالهم في النهاية كحال أسلافهم الذين راهنوا على التفوق الأمريكي في فيتنام ثم كان مصيرهم هو محاولة يائسة للنجاة بالتعلق بالطيارة الأمريكية الأخيرة التي غادرت عاصمة جنوب فيتنام سايغون في إبريل/ نيسان/ أفريل 1975 و لم يكن لهم مكان لأن السادة فضلوا نجاة أنفسهم على نجاة ذيولهم و لهذا لم يتردد الأمريكي في لكم العميل الفيتنامي لكي ينجو دونه، فلماذا لا يعتبر ذيول الغرب قبل أن يتلقوا لكمة النهاية؟

3-علاقة التحديث بالتغريب خلافاً لرأي أنصار التغريب

يفرق هنتنغتون بين التحديث الذي هو مجموعة من الإنجازات التقنية كالتصنيع و التحول إلى حياة المدن و تزايد معدلات القراءة و الكتابة و التعليم و الثروة و القدرة على تعبئة المجتمع و توافر جهاز وظيفي معقد و متنوع، و هو نتيجة للتوسع في المعرفة العلمية و الهندسية منذ القرن الثامن عشر مما يسر التحكم في البيئة و تشكيلها، أما التغريب فهو تبني الثقافة الغربية و مؤسساتها و الممارسات الغربية كلية نتيجة الاعتقاد بعالميتها  و تفوقها.

و يرى المؤلف أن الثقافة الغربية ليست مقترنة بالتحديث لأن الغرب كان يملك هويته الخاصة منذ زمن بعيد نتيجة اجتماع عدة مكونات قبل انتقاله للعصر الحديث، و يميز بين ثلاث مواقف من تأثير الغرب على العالم: رفض التحديث و التغريب معاً، و القبول بهما معاً، و رفض التغريب مع القبول بالتحديث.

ثم يتحدث عن بعض الجماعات المعزولة التي رفضت التحديث و فضلت الحياة القديمة في العالم الحديث و أنه خيار غير قابل للحياة، ثم انتقل إلى خيار القبول الكامل بالتحديث و التغريب معاً مثل موقف النظام الأتاتوركي، و قال إن هذا الخيار قائم على فرضية أن الثقافة المحلية متناقضة مع التحديث و يجب أن تهجر أو تلغى لأن التحديث شيء ضروري و هو ملازم للتغريب، و لهذا فإن على المجتمعات الراغبة في التحديث ترك ثقافاتها ولغاتها لصالح ثقافة الغرب، و هذا الموقف كان منتشراً بين الغربيين أكثر من انتشاره بين نخب العالم غير الغربي، و مضمونه: لكي تكونوا ناجحين عليكم أن تكونوا مثلنا و هذا هو الطريق الوحيد.

و يحلل المؤلف هذا الموقف فيصفه بأنه صعب و مضن، و أنه باء بالفشل أحياناً نتيجة تدخل الغرب نفسه لتحطيم نهضة خارج حدوده كما حدث في مصر محمد علي باشا، كما أن مجتمعات عديدة في العالم العربي و إفريقيا انتهى أمرها إلى التغريب دون التحديث، و إن الموقف الأتاتوركي بأن المجتمعات غير الغربية (يمكن) أن تتقدم بالتغريب يظل مفتقراً للبرهان، أما التطرف في ذلك و الدعوى بأن التغريب (واجب) للتقدم فهو ليس موقفاً عالمياً.

(الكاتب عموماً عندما يدرج النظام الأتاتوركي ضمن أنظمة التغريب و التحديث فذلك بسبب أن سقف التقدم كما يعرضه منخفض و لا يعني النهوض الشامل بالضرورة وفق نموذج الدول الكبرى مثلاً، و يجادل مفكرون آخرون في مدى فاعلية الخيار الأتاتوركي و يشككون في إنجازاته كونه لم يحدث تلك النهضة المميزة بل إن بروز تركيا قبل سنوات كان مقترناً بالتململ من هذا الخيار).

و لكن ماذا عن خيار التحديث بلا تغريب؟

يقول المؤلف إن التحديث في البداية يؤدي إلى التغريب و لكن الموجة تنعكس مع زيادة التحديث الذي سيؤدي إلى دعم الثقافة المحلية و تقليص التغريب، و يمكن أن يؤدي في النهاية إلى اختلال موازين القوى لغير صالح الهيمنة الغربية مع تزايد تمسك المجتمعات بثقافاتها، و هناك مجتمعات ذرائعية يكون التحديث فيها سهلاً و لكن هذا لا يعني أن المجتمعات التي لديها ثقافات قوية عليها التخلي عن التحديث، (لدينا أنظمة من التي صنفت ضمن الثقافات القوية التي تعترض التحديث قد حققت تقدماً ملحوظاً كالمجتمع الصيني خلافاً "للتقدم" الذي حققه أنصار التغريب الشامل).

"التحديث، بإيجاز، لا يعني ضرورة التغريب. إن بإمكان المجتمعات غير الغربية أن تتقدم و قد تقدمت دون هجر ثقافاتها الخاصة أو تبني القيم و المؤسسات و الممارسات الغربية كلية، إن هذا الخيار (أي التغريب الكلي) يمكن أن يكون على الأغلب مستحيلاً، فمهما كانت المعوقات التي تضعها الثقافات غير الغربية في وجه التحديث فهي لا شيء مقارنة بالعقبات التي تضعها في وجه التغريب، و من السذاجة أن نعتقد، كما يقول برودل "إن التحديث أو انتصار الحضارة سيؤدي إلى نهاية التعددية في الثقافات التاريخية التي تجسدت لمدة قرون في حضارات العالم العظيمة"، و بدلاً من ذلك فإن التحديث سيقوي تلك الثقافات و يؤدي إلى هبوط القوة النسبية للغرب، و بطرق جوهرية، فإن العالم متجه نحو حداثة أكثر مع انخفاض النزوع نحو الغرب. (ص 146-164 مع الرجوع للنصوص في النسخة الأصلية لتعديل الترجمة الضعيفة للنسخة العربية).

و هذه المواقف الصادرة عن منظّر صراع الحضارات مع كل عدوانتيه و تعصبه و كونه لا يعرضها من منطلق السرور بانحسار الهيمنة الغربية، جديرة باطلاع أنصار التغريب الذين مازالوا يعتقدون بأن النقل العام عن الغرب هو الوسيلة الوحيدة للنجاة متناسين حقائق جوهرية لا يمكن التغافل عنها رغم أنهم يكثرون من اتهام خصومهم برفع شعارات عاطفية تجاوزها الزمن فيما هم يرتكبون نفس الخطيئة.

4-جدوى النموذج الأتاتوركي

يتحدث هنتنغتون عن عملية إعادة صياغة الهوية الحضارية و يحدد ثلاثة شروط لنجاحها:

1-      قناعة النخبة السياسية في البلد المتخلف المعني.

2-      انصياع القاعدة الشعبية لهذا الخيار.

3-      احتضان العناصر المسيطرة في الحضارة الغربية لهذا التحول في هذا البلد.

و يذكر أن إعادة تحديد الهوية عملية طويلة و مؤلمة، و لكنها أيضاً باءت بالفشل إلى هذا اليوم، إذ "لعدة سنوات توفر في تركيا على الأقل شرطان من ثلاثة الشروط للدولة التي تسعى لتغيير هويتها الحضارية، فقد كانت النخبة التركية تدعم هذا التوجه بشدة و الشعب مذعن، أما الصفوة في الحضارة الغربية المستقبلة فلم تكن مستجيبة على الرغم من ذلك"، إذ رغم محاولة تركيا لمدة ستين عاماً تحديد هويتها بأوروبا، لم يقبل طلب تركيا بالانضمام للاتحاد الأوروبي منذ 1987 (رغم قبولها في حلف الأطلسي منذ وقت مبكر ليستفيد الغرب من إمكاناتها ضد المعسكر الشرقي و هو ما يوضح مكانة كل من يحاول الانتماء للغرب: مجرد ورقة للاستخدام في المصالح الغربية الحصرية) و لهذا لم تكن تركيا مطمئنة لرد فعل الحلف لو تعرضت لهجوم غير سوفييتي، في حرب الخليج مثلاً، و علم الجميع و صدرت كثير من التصريحات أن سبب رفض أوروبا هو كون الأتراك مسلمين و الاتحاد الأوروبي "ناد مسيحي"، و نتيجة لرفض الأوروبيين انتهزت تركيا تفكك الاتحاد السوفييتي لتنمية الروابط بالأتراك في الجمهوريات السوفييتية السابقة، و ما زالت عضويتها في الاتحاد الأوروبي مرفوضة إلى اليوم (2017)، و يلاحظ المؤلف أنه منذ زمن القيصر الروسي بطرس الأكبر (1689-1725) الذي حاول اللحاق بأوروبا بالتحديث و التغريب معاً، قبلت أوروبا بالإمبراطورية الروسية بصفتها مشاركة أساسية و شرعية في النظام الدولي الأوروبي على عكس الدولة العثمانية (ص 262-281)، و هي قضية يجب أن يستوعبها المقلدون في بلادنا لكي لا يسيئوا القياس و يظنوا أن بإمكانهم أن يكونوا مثل التجربة الفلانية أو الأخرى العلانية و كأن الغرب فاتح ذراعيه للجميع و ينتظر قدومهم لتوزيع هدايا الميلاد عليهم، إن لكل جهة موقفاً غربياً خاصاً بها، فاليابان ليست كالفلبين، و الأفارقة يختلفون عن الهنود الحمر، و أوروبا الشرقية ليست كالمشرق العربي، و كوريا ليست كالعراق، و غزة ليست سنغافورة !

5-علاقة أتاتورك بخلفائه

ظهرت لدى التغريب العربي صرعة الفصل بين النظام الكمالي و حكم خلفائه بدعوى أن حياد تركيا في الحرب الكبرى الثانية في زمن رفيق أتاتورك عصمت إينونو (1938-1950) يتناقض مع انحيازها للغرب و انضمامها للأطلسي فيما بعد، و هذا اختلاق للبطولة في غير موقعها و تجاوز على موقف الحلفاء أنفسهم من النظام الكمالي في نفس تلك الفترة، و تسترسل الفكرة في تخيل التناقض بينه بين خلفائه لتجعل من الحكام الذين انحازوا إلى الغرب كعدنان مندريس و سليمان ديميريل أصحاب هوية إسلامية تخلت عن الإرث الأتاتوركي و هي التي دفعتهم لهذا الانحياز، و لكننا نجد في عرض هنتنغتون وحدة المسار في النظام الأتاتوركي و من جاء بعده، ففي زمن مصطفى كمال سار التغريب جنباً إلى جنب مع التحديث و بعد الحرب الكبرى الثانية "تحركت (تركيا) بسرعة لتحدد هويتها أكثر فأكثر بالغرب" و قامت باتباع نماذج غربية بشكل واضح، فأدخلت التعددية الحزبية و انضمت إلى حلف الأطلسي و صارت تتلقى بلايين الدولارات من المساعدات الاقتصادية و الأمنية الغربية و تلقى جيشها التدريب و العتاد من الغرب و استضافت القواعد العسكرية الأمريكية ثم قدمت في سنة 1987 طلباً للانضمام للاتحاد الأوروبي (ص 271).

إن تلك الحساسية التغريبية ضد أي مسحة إسلامية يستخدمها حاكم لغايات انتخابية يضع التغريب في عداوة صريحة مع جماهير الأمة التي ينظر إليها على كل حال بصفتها "دهماء" و"غوغاء"، و لا يظن أحد أن السبب هو معاداة المصالح الأجنبية كما يبدو في اختلاق البطولات السابق، فالحكم الكمالي لم يكن يوماً ضد هذه المصالح، و إن مقاومة الحلفاء في الأناضول للحصول على الاستقلال شبيهة بكل الثورات التي قامت ضد الاستعمار القديم ثم حكمت نخبها دولاً صارت تابعة للاستعمار الجديد، بل إن أتاتورك دفع للمصالح الاستعمارية ثمن "الاستقلال" و نفذ طواعية ما رغبت به و ما انسجم مع مخططاتها، فخريطة ما بعد الحرب الكبرى الأولى التي أسفرت عن استقلال الأناضول و فرض الانتداب على البلاد العربية ثم القضاء على الخلافة الإسلامية كانت جميعها ضمن رؤية المسئولين الغربيين أنفسهم لعالم ما بعد الحرب و قد تجاوب أتاتورك معهم فتخلى عن الأملاك العثمانية في معاهدة لوزان (1923) و مهد الطريق القانوني لفرض الانتداب عليها و ألغى الخلافة الإسلامية و فرض التغريب العلماني الذي فصل تركيا عن العالم الإسلامي و ألحقها بالغرب فكرياً و خدمه سياسياً و لكنه لم يمكنها في نفس الوقت من اللحاق به عملياً، و لهذا فإن تصويره متناقضاً مع المصالح الغربية لا يتفق مع الحقائق الموضوعية المتعلقة بالمصالح الغربية و بموقف الحلفاء من النظام الكمالي الذي انسجم مع هذه المصالح بطريقة تلقائية، إذ كيف يمكن تصور التناقض في مسيرة الأنظمة المتعاقبة و هي التي سارت على الخطى السياسية و الفكرية التي وضعها المؤسس نفسه و كانت تقبض أثمان مواقفها في كل مرة؟ و كيف يمكن تصور أن هذا النظام تناقض مع الغرب في موقفه من الحرب الكبرى الذي قبض ثمنه من فرنسا التي منحته لواء الاسكندرون؟

6-جدوى الحكم المركزي

يقول هنتنغتون إن القيصر بطرس الأكبر في روسيا أعطى المثل للعلاقة الوثيقة بين تحقيق التحديث و التغريب من ناحية و الاستبداد من ناحية أخرى، و قد تبعه مجموعة من حكام روسيا مثل لينين و ستالين و كاترين الثانية و ألكسندر الثاني، و حتى ثمانينيات القرن العشرين لم يكن أنصار التغريب مع إدخال الديمقراطية إلى روسيا، و كان الدرس المقتبس من تاريخها هو أن مركزية السلطة هي الشرط الأولي للإصلاح الاجتماعي و الاقتصادي، و قد ندب رفاق غورباتشوف إخفاقهم في تقدير هذه الحقيقة في أواخر الثمانينيات (ص 264-265).

موضع الشاهد من هذا الرأي هو الفرق بين الرأي الغربي في مركزية السلطة و رأي التغريب الذي ينحو نحو تجريم أي حكم مركزي في بلادنا باسم نشر الديمقراطية، و يحاول سحب تهمة الاستبداد على كل تاريخنا و تجريم التراث دون الاطلاع على بواعث و ظروف الاستبداد الحديثة التي لا يكون لها علاقة بالماضي، في نفس الوقت الذي يتصرف فيه أنصار التغريب بمنتهى الاستبداد الفكري و القسوة الدموية في معاملة خصومهم، مع احتفاظهم بكل جرأة بكامل الحقوق المكتسبة في الدفاع الحصري عن الديمقراطية، ليس حماية لرأي الشعب الذي هو مجموعة من الغوغاء في نظرهم، بل حماية للمصالح الأجنبية التي لا يروقها استبداد أي حاكم من الحكام حين يخرج عن طوقها، و بهذا يصبح الاستبداد رذيلة لو كان ضد المصالح الأجنبية حتى لو حقق ما حققه بطرس الأكبر لبلاده، و يصبح فضيلة حين يذعن للمصالح الخارجية حتى لو لم يحقق أي إنجاز لبلاده، و لعل هذا هو السر في إطرائهم المستبدين الخاضعين للأجانب، مع محاولة تسويقهم بصفة المستقلين أحياناً، مع الانتقاص من المستبدين الذين خرجوا عن الطوق فعلاً، و حتى لو حقق الحاكم شرط الانتخاب الديمقراطي دون الخضوع للأجنبي فهو منبوذ أيضاً.

●ملاحظات عن التبعية المعاصرة في زمن الانعتاق

إن الزعم بوجوب تخلي الأجيال الحديثة عن معاداة الغرب و نظريات المؤامرات على العرب و المسلمين و جعل ذلك مقياساً لولادة فكر عربي حديث، فيه تجاوز غير مقبول على دروس تاريخية هامة و تجارب مريرة مرت بها الأمة و كان الغرب فيها منذ الحملة الفرنسية على مصر هو المعتدي و بلادنا هي الضحية كما لاحظ مؤرخون غربيون بأنفسهم و كما هو واقع تاريخنا منذ قرنين و نصف، و في هذا الجو تأتي مطالبة الأجيال الحديثة بنسيان هذا التاريخ الدامي و التأقلم مع "متطلبات العصر"، مما يقدم خدمة مجانية للمعتدين الغربيين الجاثمين على صدورنا سواء بدعم المستبدين أو بنهب ثرواتنا بطرق شتى لم تعد تستحي من السرقة العلنية أو بالاحتلال العسكري الذي لم يعد يخجل من العودة إلى أمجاده الاستعمارية القديمة، و كأن الحياة في زمننا تستلزم الاستسلام لهذا الهجوم الذي لم ينقطع، و لكن مثل هذه المطالبة التي تشبه فتاوى الخضوع للمحتلين المستعمِرين لن يكون لها صدى إلا كالصدى الذي أوجدته مناهج "السلام" في أراضي السلطة الفلسطينية و التي حاولت غرس مبادئ "التعايش" فلم يأبه الطفل الفلسطيني الذي رضع هذه الأفكار بزيفها و أجبره واقع الاحتلال و الاضطهاد و القمع على رؤية الحقائق بعيداً عن كل التزييف فأشعل انتفاضة إثر أخرى، و مازال المزيفون عاجزين عن ترويضه لسبب بسيط أن كل كلامهم المنمق لا واقع له كما هو كلام الذين يطالبون بالتخلي عن الإيديولوجيات المعادية للغرب و كأن هذه المعاداة من اختلاق منظّر حالم جلس فوق السحاب الذي أمطر علينا أفكاره الخيالية التي صنعت نهر الجنون الذي شرب منه الجميع إلا أولئك الحكماء الذين يريدون تخليصنا من هذا الوهم، و كأن غربهم ينتظر منذ نهضته أن نقبل التصالح معه لينقل إلينا هذه النهضة فيما تمنعنا أفكار الجنون عن قبول عطيته التعليمية السخية، أو أن أوهامنا تمنعنا من رفض عروضه النهضوية الثمينة، مع أننا لهثنا قروناً خلف تلك الدروس و العروض بنوايا وصلت حد الانبطاح دون جدوى، هم يتحدثون و كأن معاداتنا للغرب ليست وليدة معاناتنا التي امتدت لقرون اكتشف بعدها كثير ممن كانوا ينادون بالأفكار التصالحية أن أعمارهم ذهبت هباء فطلقوا سادتهم الغربيين كما سبق ذكره، و يقول المؤرخون في ذلك إنه حتى فكرة الجامعة الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت رداً على خذلان الغرب للمجتمع الإسلامي الذي أصيب بخيبة أمل و إحباط نتيجة استمرار العدوان الغربي بعدما قدم المسلمون الكثير لإرضاء أوروباً ظناً منهم أنها تهدف إلى نشر قيمها الحضارية و ليس جني مصالحها المادية، و هذا هو حال كل ما يسمونه الإيديولوجيات المعادية للغرب التي نبتت بعد ذلك في بلادنا و التي كانت ثمار القذائف التي أمطرها الغرب على أراضينا، و إنه لمن السخف أن يكون رواج هذه الأفكار و انتشارها و الإجماع الشعبي عليها بلا أسباب وجيهة، أو كما يراه البعض مجرد عدم توازن، و كأن العرب و المسلمون هم الذين أوجدوا هذا العالم غير المتوازن و هيمنوا على علاقاته غير المتوازنة حيث تستهلك النخبة فيه (20%) معظم الموارد (80%).

و في ظل هذا الخلل الاحتكاري الذي يفسح لنخبة البشر التحكم بمعظم الموارد الاقتصادية، و لقليل من الدول العظمى بل لدولة واحدة التحكم بقرار العالم السياسي، و لثلة من الدول التحكم بأسلحة الدمار الشامل و فرض إرادتها على أغلبية الشعوب كما يفعل الكيان الصهيوني الحقير ضد إرادة المشرق العربي الإسلامي كله، رغم كل الأحاديث المضللة عن التعددية الإنسانية، نستحضر قول الدكتور عبد الوهاب المسيري عندما قال :"الإنسان الذي لا هوية له لا يمكنه أن يبدع، فالإنسان لا يبدع إلا إذا نظر للعالم بمنظاره هو و ليس بمنظار الآخرين، لو نظر بمنظار الآخرين، أي لو فقد هويته، فإنه سيكرر ما يقولونه و يصبح تابعاً لهم، كل همه أن يقلدهم أو أن يلحق بهم و يبدع داخل إطارهم، بحيث يصير إبداعه في تشكيلهم الحضاري، كما يحدث لكثير من العلماء العرب الذين يهاجرون إلى الغرب" (الهوية و الحركية الإسلامية، دار الفكر، دمشق، 2010، ص 148)، و في ظل الأسوار الاحتكارية العالية السائدة في عالم اليوم، نستنتج بوضوح أنه ليس من المسموح أكثر من العمل داخل هذا النظام العالمي الأحادي الذي ألغى التنوع العالمي ليخدم تلك النخبوية الصارمة رغم كل التحايل الفكري و الخداع الإعلامي و التضليل السياسي الذي أقنع البشرية بأن التنوع الإنساني هو المهرجانات الموسمية للتهريج و الفولكلور و الطبيخ.

 إن تجاوز التجارب التي سبق خوضها و يدعي الحكماء وجوب إعادة تمثيلها و إهمال الدروس الكبرى ممن خاضها سابقاً هو الذي سيكون قفزاً على التراث الحقيقي لتلك المرحلة الليبرالية التغريبية بأحلام وردية جديدة لن تؤدي بنا إلى نتائج مختلفة، و ستدخلنا في السجن القديم الذي بدأ بأحلام التنمية الاستعمارية منذ زمن طويل و لم يحصد أصحابه سوى الخراب و الدمار و التخلف بحجة "التلاؤم مع العصر"، و مازلنا نبعد عن عصرنا كلما غرست هذه الأفكار خنجرها في جسدنا حيث لا يمكن أن يقدم التصالح مع العدو إلا مزيداً من الهزيمة و التراجع في ظل الحلم بالوصول إلى مستوى الاستثنائيين ككوريا، و الحصول في الواقع على فشل الأغلبية كما في إفريقيا و أمريكا اللاتينية، و الغريب أنهم يحشدون هؤلاء الفاشلين ضمن الإجماع العالمي على تبني العلمانية دون الاعتبار بفشلهم المدوي على صعيد التبعية و الفساد السياسي و العنف الداخلي و الفقر و القلاقل الاجتماعية، و هو ما يؤكد طبقية نتائج العلمانية الغربية بين رفاهية و استقرار على حساب غالبية الآخرين و شظف و اضطرابات لحساب أقلية من الآخرين، فهل هذه النتائج المجربة هي التي نرجوها لأجيالنا بدلاً من التعلم من إخفاقات من سبقها؟ و هل إن التهديد و الإغراء بوجوب "التلاؤم مع العصر" يتضمن الدخول إلى هذا العصر بالحصول على مزاياه بالفعل و ضم الجماهير المسحوقة إلى نخبة الخُمس السارق و المرفه من البشرية، و هو ما لم ينجح فيه كثيرون ممن سلكوا هذا الطريق، أم أن الأمر لا يقتصر على تخديرها بكلام منمق و وعود وردية لتظل ضمن الأغلبية المنهوبة في الوقت الذي يظل اللصوص الدوليون يتمتعون بمواردها الغنية و يعطونها بدلاً منها أحاديث مجانية عن الديمقراطية و الإنسانية و الحرية و العلمانية و العقلانية كما كانوا يفعلون منذ بداية النهضة الأوروبية؟ و هو ما بيّن بكل وضوح أن جنة أوروبا لم تتحقق إلا بالاستئثار و أنها غير قابلة للتعميم كما تؤكد الأرقام، و هذا ما على كل الحالمين إدراكه بوضوح، و هذا مجرد سؤال بريء لنعرف هل سنقبض شيئاً من "التلاؤم مع العصر" أم سنظل مجرد وقود لرفاهية أصحابه و نحن مخدرون بالوعود المؤجلة؟

 ما سبق لا يعني بأي شكل من الأشكال استحالة النهوض، فقد كان الحديث فقط عن دور الاستعارة الخارجية و الإذعان في تحقيق هذا النهوض، و لدينا تجارب عديدة حتى في عالمنا الإسلامي تعطي مبشرات بإمكان الصعود، و هي تجارب تدحض دعوى أن عقبات النهوض الداخلية في بلادنا أقوى من العقبات الخارجية، فقارئ التاريخ لا يجد مجتمعاً واحداً في العالم لم يكن فيه عقبات داخلية، و علينا أن نتصور مجتمعنا لو أنه اقتصر على العقبات الداخلية و نتخيل مسار الحوادث التي تدخل فيها أعداء التطور الداخليون لو لم يدخل الخارج للاجتياح غير المسبوق بقواه المسلحة للاحتلال و فرض النهب و الاستبداد و التخلف، ذلك أن الفرق بيننا و بين الذين نجحوا في النهوض لم يكن في خلو مجتمعاتهم من العقبات الداخلية، بل في النجاح بتحييد الأخطار الخارجية إما نتيجة سياسة دولية كما حدث في اليابان أو نتيجة تضافر داخلي كما حدث في الصين، أما في بلادنا فكان الخطر الخارجي حاضراً لتدمير كل المحاولات النهضوية بقوة السلاح سواء كانت محاولات كبيرة أم صغيرة، و إن القفز على هذه السلسلة المتكررة التي لا تخطئها العين المجردة و تصوير الحضور الخارجي مناصراً للتنمية لهو بيع الأوهام المخدرة.

 و إن الزعم بوجوب سريان الحداثة الغربية في ثنايا المجتمع ليتمكن من النهوض فيه تجاوز مخل على تواريخ الأمم التي نهضت و منها مراحل من تاريخ أمتنا حيث تمكنت بلاد من تحقيق خطوات واسعة دون تبني نظرية داروين و لا الرؤية الغربية لمكانة المرأة أو حتى النظام البرلماني، و سنجد مجتمعات نهضت و هي تحافظ على شخصيتها و لا تذوب في غيرها، و لعل تاريخ العراق المعاصر يقدم دليلاً دامغاً ضد من يجعل العقبات الداخلية هي سبب تعثر النهوض و ينادي بتخلل أفكار الحداثة الغربية في حين كانت القوة الاستعمارية هي التي حطمت هذا النهوض الجزئي رغم استلهامه النموذج الغربي فتغافلت في شيطنته حتى عن تاريخها و الدور الذي قام به الاستبداد النهضوي فيه، و لم تقض على ظاهرة الاستبداد أصلاً و فرضت التخلف و الدموية و النهب و التقسيم و الفساد و الطائفية، ثم نرى من يتجاوز على هذه الحوادث المتكررة و التي لم تدخل بعد في الماضي و مازلنا نعاينها بأعيننا يومياً ليجعل من الحضور الغربي الذي لم ينفصل عن الاحتلال المسلح و الظاهرة الاستعمارية هو بوابة الحداثة و التقدم في بلادنا، و المشكلة أن هذا ليس أول فشل للحل الخارجي و المراهنين عليه، فمنذ بداية الاستعمار كان هناك من يعدنا بالتنمية الاستعمارية لو خضعنا، فلم تتحقق التنمية إلا للمستعمِرين على حساب المستعمَرين، و أدت البنى التحتية في المستعمرات إلى النهوض باقتصاديات الدول الكبرى الاستعمارية دون تحقيق نتيجة مشابهة في المستعمرات التي عانت خسائر النهب و القهر و القتل الذي وصل حد الإبادة في أمثلة عديدة، و لما خرج الاستعمار مرغماً دعم أنظمة استبدادية الجوهر ليبرالية المظهر و استغلها لأجل مصالحه و لم تكن النتائج التنموية أفضل من المرحلة الاستعمارية، و كانت المراهنة على الدولة الوطنية في ظل الاستعمار خاسرة إلى درجة أدت ببعض كبار المراهنين إلى الخروج عن طوق سادتهم و تطليقهم بعد اليأس منهم، و لما جاء الدور على الاستبداديات الديكتاتورية تم دعمها غربياً خشية من الخيارات البديلة، ثم تدخل الغرب نفسه ليعلن فشل هذا الخيار لا بسبب إرهاقه الأمة بوطأته بل بسبب خروج بعضه عن الطاعة العمياء للسادة الاستعماريين، مما أدى بالاستعمار إلى أن يقود نظاماً عالمياً بعد نهاية الحرب الباردة باسم الحقوق و الحريات و حل المشاكل العويصة بالطرق الحضارية و لكن المبشرين بكل ذلك أظهروا فشلهم و فساد البضاعة التي سقطت شعاراتها عند الاختبار الأول في أزمة الخليج 1990 و انتهت صلاحيتها عند الاستعمال الأول في حرب 1991، ثم قادوا حملة جديدة للتبشير بالغزو الأمريكي العسكري 2003 الذي سيعيد الحقوق إلى أصحابها تحت ألوية كاذبة عن الديمقراطية و أسلحة الدمار الشامل، و لما ظهرت الخديعة و افتضحت الكذبة لاموا مجتمعنا المتخلف الذي فشل في انتهاز الفرصة للانتقال من الماضي إلى الحاضر في ظل الاستعمار "المفيد رغم قسوته" و نسوا كل ما أسسه المستعمر من قواعد لحماية مصالحه كالعنف و الطائفية و الفساد و الكذب و التقسيم و العصبية التي قام بها رجاله الأقربون، لينتقلوا إلى عملية نصب جديدة بعد فشل التدخل العسكري و يراهنوا على تربية جيل من العملاء الفكريين الذين يتسلمون الراية النهضوية من الديكتاتوريات فيملئون الأرض قسطاً و عدلاً بعدما ملئت ظلماً و جهلاً، دون الجرأة على مراجعة سجل الخيبات المتراكمة التي تحمل بذور فشلها في باطنها و هي أن الخارج ليس جمعية نهضوية خيرية توزع هدايا النهوض على الأمم المحتاجة بل هو وحش يفترس كل ما ينفعه.

 و في النهاية يريدون العودة إلى النقطة التي هربنا منها و ليخرجوا لنا بنموذج أتاتورك أو بورقيبة، و يتحدثون عن الحل الخارجي بصفته الدواء الشامل الذي ينتظر الطبيب الغربي حقننا به و مازلنا نرفض هذه المكرمة بسبب تعصبنا و جهلنا دون أي مسئولية من الطبيب الملاك الذي مازال واقفاً ببابنا منذ قرون، و يرفضون أخذ العبرة مما فعله ممثل الحضارة الغربية في بلادنا و هو الكيان الصهيوني بالسكان الأصليين بل يرفضون رؤية جرائمه المتصاعدة و يصرون على لوم الضحية و نسبة الفشل إليها و ذلك بعد فشل نبوءتهم الخادعة بزوال أهمية هذا الكيان بعد نهاية الحرب الباردة و سيره في طريق الذوبان، فاتجهوا في انسجامهم مع المصالح الاستعمارية المتجددة إلى تسويق بضاعة كشف زيفها المواطن البسيط و هي "عملية السلام" و التنازل عن حقوق شعب فلسطين (و نسوا أنهم يستمدون شرعيتهم من زعمهم أنهم المدافعون عن حقوق الشعوب في وجه الاستبداد المحلي الذي يشترط ألا يكون سيداً استعمارياً)، و لا يبدو لتنازلاتهم أفق و لا لاستمرارهم في لوم بلادهم في ظل التعنت و العناد الصهيوني، يذكرون العدوان و الحرب و القصف و الحصار و التدمير و التجويع، و مع ذلك، و وفق "اكتشافات" ألمعية رأت ما لم يره "الرعاع و الدهماء" (الذين غرقوا في "أساطير" لا أساس لها عن وحشية الصهيونية التي لم تطلق رصاصة واحدة علينا و لم تدمر بيتاً و لم تهجر أحداً و لم تسفك قطرة دم و لم تسلب أي ملك و لم تعذب أي أسير و لم تجوع أي فقير و لم تمنع الدواء عن مريض و لم تيتم طفلاً و لم ترمل امرأة !) فكيانها جدير بالحوار و لا يعتنق ثقافة الموت و يقبل بالتعايش للمحافظة على مكتسباته (التي كسبها من عرق أبنائه الذين لم يعتدوا على أحد و الراغبين في السلام و أكبر دليل على هذا أنهم هجروا أوطانهم في كل العالم و قصدونا من جهات الدنيا الأربع للتعايش معنا و قاموا بكل ما في وسعهم للبقاء على أرضنا بأمان بما في ذلك الطرد و القتل و السلب و التدمير!) و مع ذلك نحن المذنبون الذين ننقض اتفاقات التهدئة و نقوم باستفزاز الصهيوني البريء الآمن اللاجئ إلى جوارنا و ننادي بالشعارات العاطفية بعيداً عن الواقع "الراشد الرشيد"، و هي اتهامات يتبناها الصهاينة لاسيما اليمين منهم، خلافاً حتى لاستنتاجات شائعة في الغرب نفسه بل بين منصفين يهود بأنفسهم عن أهوال المعتدين الصهاينة، و تصل المأساة ذروتها بالتباكي على المجرم إسحق رابين و ليس على ضحاياه الذين لا ذكر لهم، بل قد تصل الوقاحة إلى تبجيل شخص مجرم و ساقط حتى بين شعبه كرئيس الوزراء الفاسد بنيامين نتنياهو، و هو ما يبين وحدة البرنامج بين هؤلاء الليبراليين العرب و أعداء الأمة في أكثر صورهم تطرفاً، ثم يعيبون على من يتهمهم بالعمالة و الارتزاق، و لا أدري سبب الغضب من هذه التهمة مع أنهم يرون الارتباط بالغرب و تأييد مشاريعه الاحتلالية بل الطلب إليه و تحريضه عليها شجاعة ثقافية، و فكرهم فيه هذا التوحد بالعدو، الذي يعني القبول بواقع احتلال فلسطين و في نفس الوقت رفض واقع احتلال الكويت، تبعاً للإرادة الأمريكية حصرياً فهي الواقع و القضاء و القدر، و لهذا يكون احتلال العراق و ما تبعه من كوارث مليونية مجرد "حملة" و يجب تأييدها بشجاعة لا للقضاء على أسلحة الدمار الشامل و هي الكذبة التي افتضحت، بل للقضاء على "شبهة" هذه الأسلحة لتستمر شرعية الاحتلال حتى بعدما فضح في مركزه، أما أحداث سبتمبر فهي "الكارثة" غير المسبوقة تاريخياً و الموجهة ضد الحضارة نفسها و ليس ضد الولايات المتحدة، رغم ضآلتها مقارنة بما أصاب بلادنا على امتداد قرنين، في نفس الوقت الذي لم يرتكب الاحتلال الأمريكي أي جريمة ضد الحضارة في العراق فضلاً عن أن يكون حطم مهد الحضارة و نهبه، و هو ما كان حديث الكثيرين حتى في أمريكا ذاتها.

 نعم إلى جانب هذا التوحد بالعدو فإن فكرهم فيه انفصال عميق عن الحقيقة و دعوة لفقدان الإحساس بالواقع يشبه ما أطلق عليه ماركس أفيون الشعوب، ففي الوقت الذي يتصدرون المشهد للدفاع عن الديمقراطية و حق الشعوب نراهم أول من ينتقصون فهم هذه الشعوب كونها من العامة و الغوغاء لأنهم يعلمون أن برنامجهم لبلادنا الذي هو نفس برنامج سادتهم الكبار، و هو الدول الوظيفية بلا سيادة و المجزأة بلا قوة و العلمانية بلا هوية، لا يحظى بدعم شعوبنا الباحثة عن الانعتاق و حكم الذات و إثبات الوجود، و يتكلمون عنها بفوقية استقواء منهم بإنجازات الدول الكبرى التي يحسبون أنهم ينتمون إليها و يظنونها ظهيرهم و داعمهم، و هم في الحقيقة ليسوا أكثر من أوراق يلعب بها للاستخدام في حسابات السادة و مصالحهم كمن سبقهم من الحكام و النخب.

 و في الوقت الذي ينعون فيه على خصومهم رفع شعارات خطابية و عاطفية لا تتلاءم مع العصر، نراهم يمارسون نفس الرذيلة بالأحاديث المثالية عن الديمقراطية و حقوق الإنسان و المساواة بين الناس مما لا يرى الفرد العادي أي واقع له في سياسة الغرب و تاريخه مع الآخرين، و في الوقت الذي يعدوننا فيه بالتعددية نراهم يحاربون خصومهم بالحديد و النار، و في الوقت الذي يتكلمون فيه عن النسبية تراهم يتبنون حقيقة مطلقة لا شريك لها و يذمون من يفعل ذلك من خصومهم، و في الوقت الذي يتحدثون عن تعدد المسارات نظرياً، يأتون بأحادية حلولهم التي لا بديل عنها، هم جاهزون بالوعود السنغافورية لجميع المحرومين و لكننا لم نجد أي تطبيق عملي سوى فشل يعقب فشلاً، يعدون على خصومهم أنفاسهم و يجعلون من التعثر في فترة حكم وجيزة إخفاقاً مدوياً و ينسون عقود الخيبات التي مرت بها الأمة تحت حكمهم و يحلمون بإعادة استنساخها، و لا يخجلون من لوم ضحايا أسيادهم كما يلوم المشعوذ ضحيته التي لم ترض "الأسياد"، و تبلغ الطرفة أوجها حين الحديث عن العلمانية بصفتها الضمانة الوحيدة و الأكيدة لمنع قيام الحروب الدينية الشرسة، و يستغفلون السامعين الذين لم ينسوا بعد ما حدث في ظل العلمانية في بلادنا من عنف حاد منذ النموذج الأتاتوركي إلى النموذج الأمريكي في العراق مروراً بالنموذج اللبناني، و لا ننسى الكيان الصهيوني و ما أثاره من اضطرابات دموية في المشرق، هذا إذا لم نذكر الإبادات الجماعية و الحروب الاستعمارية و الكونية التي أشعلها النموذج العلماني منذ النهضة الأوروبية، فعن أي ضمانة يتحدثون؟ المهم أنهم في كل هذا مازالوا يتحدثون بلغة مستعارة سادت زمناً ثم بادت و انتهت صلاحيتها عند السيد المستعمر نفسه فصار يتحدث على المستوى الثقافي على الأقل عن المسارات المتعددة و تواضعت مطالبه فلم يعد يتكلم عن هيمنة غربية مطلقة و لا مبادئ موحدة إلا في الإعلانات السياسية الغوغائية، نعم في الخطب الانتخابية نسمع عن العظمة الأبدية للغرب و لكن في كتابات المثقفين و الأكاديميين كلام مختلف تماماً، و لعل الأفكار التي آل إليها أصحاب صدام الحضارات و نهاية التاريخ عبر لمن اعتبر، فلماذا يرفض المتغربون هذه الحقائق رغم أنهم يصورون أنفسهم صفوة الناس و نخبتهم في مواجهة الدهماء و الغوغاء؟

يؤكد تلك العبثية الإصرار على تبجيل أنظمة لم تقدم على مستوى النهوض شيئاً لمجتمعاتها أكثر مما قدمته على مستوى التلاؤم مع مطالب الغرب المهيمن فشغلت شعوبها في قضايا اجتماعية جانبية و صرفت الانتباه عن مشاكل رئيسة كتفتيت بلادنا و نهب ثرواتها و استغلال طاقاتها و احتلال أراضيها في الوقت الذي كانت تركز قراراتها على محاربة هوية الأمة و شخصيتها و تجسيد أخطار موهومة لا وجود لها مثل الخطر المزعوم من الصيام على الإنتاج أو من الحرف العربي على التقدم ثم تم خوض حروب عبثية بل دموية لفرض لبس القبعة الأوروبية و هو ما يشي بمدى الإسفاف الذي وصلت إليه الأنظمة التغريبية كنظام أتاتورك و نظام بورقيبة التي تحظى بألقاب الحداثة و التقدم دون أن نرى أثراً نهضوياً يستحق الإشادة مع أن درجة الاستبداد الكمالي لم تكن تقل عن درجة الاستبداد في نظام البعث العراقي، و لكن إصرار الحداثيين على مدح أتاتورك و ذم صدام يؤكد أن الغاية لم تكن تحقيق النهوض بقدر ما كانت الانسجام مع المصالح الغربية التي خدمها النظام الكمالي و أسس لهذه التبعية دون نهوض حقيقي، بل كان النهوض عندما تململت تركيا خارج عباءته، و خرج عن طوق تلك المصالح النظام البعثي مع تحقيق نهوض ملحوظ، و كان التراجع الملحوظ فيما بعد من نصيب الحقبة الأمريكية، و هو ما يوضح لنا حقيقة حملة إعادة الاعتبار لمرحلة السيادة الليبرالية دون النظر إلى مآلاتها و آراء من جربوها، و أنها لن تحقق اليوم النهوض الذي عجزت عنه بالأمس.

 و يؤكد ذلك أن أول ما تريد علمنة بعض البلاد العربية إنجازه ليس علاج المشاكل السياسية من استبداد و فساد و تبعية و خيانة و استسلام، و الاقتصادية من بطالة و ركود و اعتماد على الخارج و تبديد ثروات و نهب موارد، بل إن ما تريد هذه العلمنة الموعودة إنجازه هو تكريس تلك العيوب بموافقة الدول الكبرى و لذلك يدفع الثمن من التطبيع مع الصهاينة و السماح بلبس البكيني، و كأنهم يعترفون بأن علمنتهم ليست سوى خيانة و سفالة، و ذلك استمراراً لجهود ركزت على الانفتاح الاجتماعي غير المنضبط إلى درجة تبجيل المستبدين الطغاة بسبب قرار تعيين امرأة في منصب أو تغيير قانون أحوال شخصية، و منهم من يكتفون بانسجام الطغاة العتاة مع المظلة الأمريكية الغربية ليتم تبجيلهم و توقيرهم حتى لو أوغل الطاغية في الرجعية، دون النظر إلى واقع التردي و الخيانة و النهب و الفساد، و هي إشارة واضحة إلى أن المطلوب ليبرالياً من دولنا هو تنفيذ أوامر السادة في الغرب فقط، و لهذا طبلوا و زمروا لطغاة دمويين و نسوا كل الشعارات الوردية لا لشيء إلا بسبب الحزازات الفكرية و الحزبية، و لهذا ليس من العجيب أن يضرب بعض الشباب أنفسهم بالأحذية بعدما رأوا نتيجة تأييدهم هذه البرامج، و قد أسف بعضهم حتى لقد جعلوا من ظهور و نجاح إحدى رائدات الرقص الشرقي "ظاهرة وطنية" لأنها "حررت" الرقص من "استعمار" الأجنبيات، و زعموا أن الفرح عم بذلك كالفرح الذي عم بإنشاء بنك مصر بصفته ظاهرة استقلال اقتصادي، إذ كذلك تم تحقيق "الاستقلال" في الرقص الشرقي الذي حصل على "احترام اجتماعي" غير مسبوق (شاكر النابلسي، تهافت الأصولية، المؤسسة العربية للدراسات و النشر، بيروت، 2009، ص 246)، هذه العبارات تلخص برنامج "الحقيقة" التي يدافع عنها التغريب في مواجهة "الرعاع"، و لم يحقق و لم يعد ينادي إلا بهذه "الوطنية و الحرية و الاستقلال" بعيداً عن برامج الصناعة و الزراعة و التجارة للتنمية و الاكتفاء و تحقيق القوة السياسية و العسكرية و اكتساب مكانة بين الأمم بالوحدة على غرار بقية الكبار، هذه كلها أحلام بعيدة عن تصوراتهم، يختزلون التقدم في نظرية دارون و التعري، و لهذا لم يكن من الغريب أن تكون أولى إنجازات الاحتلال الأمريكي "المحرر" بعد الدمار و النهب هو تنصيب ملكة جمال للعراق قبل تنصيب رئيس له، بالإضافة إلى تحطيم لقاحات مرض شلل الأطفال الذي قضي عليه حتى في ظل الحصار، و بالطبع تلك الجرائم ليست ضد الحضارة، ما هو ضد الحضارة هدم البرجين في نيويورك فقط، هكذا كانت استعارة التبعية و هكذا ستبقى دون أي إنجاز مفصلي يطور بلادنا، و مع ذلك يشكون من الغوغاء و الدهماء و يتصنعون الحكمة و الفلسفة دون مضمون.

●الاستنتاج

إن تجاربنا و تجارب غيرنا، المستمرة منها و التي صعدت ثم تعثرت، تؤكد فكرة تعدد المسارات النهضوية خلافاً لفكرة الطريق الأوروبي الحصري من جهة و أهمية تطويع أي استعارة خارجية لمتطلبات الأحكام الداخلية من جهة أخرى لأن دلائل إيجابيات الذوبان في الخارج أقل كثيراً من دلائل الهلاك و الدمار.

قراءة 2049 مرات آخر تعديل على الجمعة, 06 تشرين1/أكتوير 2017 07:46

أضف تعليق


كود امني
تحديث