قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 14 كانون2/يناير 2018 20:35

دروس تاريخية في مدي علاقة العنف بالتراث

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يتناول هذا المقال ظاهرة العنف الداخلي في أمتنا، و ليس العنف الموجه للعدو المحتل الذي لا جدال في وجوب مقاومته رغم كل المحاولات الحثيثة لوصف هذه المقاومة بالإرهاب المذموم، و الانتصار للظالم ضد الضحية، و محاولة تطبيع وجود العدو على أرضنا بإضفاء الصفة المدنية على مستوطنيه و مهاجريه، و تبلغ الوقاحة أيضاً حد ضم جنوده لذلك، هذا المقال يبحث في نقطة أخرى هي مدى علاقة العنف الداخلي في حاضر أمة بماضيها، و هو يتناول ما يتعارف على رفضه من ظواهر العنف الدموي الداخلي مع التسليم ابتداء بهذا الرفض، و محاولة التطرق لظواهر العنف الخارجي ضد مدنيي الأمم الأخرى حيث يختلط الحابل بالنابل و يذهب المطيع بالعاصي، بالإضافة إلى الرد على من يظن أن عفو الضحية و امتناعها عن الرد أثناء العدوان عليها "سيخجل" المعتدي و يوقف عدوانه في مواجهة هذا الاستسلام.

فهل يمكننا الزعم بالفعل أن شخصية أمة ما مطبوعة بهذا العنف الإجرامي لوجود سوابق فتن عنيفة أو حروب أهلية أو عمليات سفك دماء أو ظلم سياسي في تاريخ هذه الأمة و تراثها دون أي علاقة للحاضر بهذا الشأن؟ و إذا كانت جميع تواريخ البشر لا تخلو من هذه الظواهر إلى جانب مظاهر أكثر تنوعاً و سلمية في الحياة اليومية، فما الذي يجعل ظاهرة دموية تظهر على السطح في مكان معين من زمن معين دون بقية مظاهر التراث ؟ و لماذا يولع البعض بعزو أية ظاهرة سلبية في الحاضر إلى جذر في الماضي دون القيام بنفس الخطوة تجاه الإيجابيات؟ و هل من الصحيح أنه لا سبيل إلى الإصلاح إلا بفصل هذه الأمة عن تاريخها و تغيير شخصيتها و ثقافتها، أو حتى جيناتها، المتمسكة بماضيها و كأنه بصورته العنيفة المتخيلة يتحكم بها من القبور بجهاز التحكم عن بُعد؟ و هل يمكننا القول بالفعل إن أي ظاهرة ظالمة هي تعبير عن ارتباط بالماضي أم أن للحاضر دوره الأكبر في توليدها إلى درجة أن حضور الماضي قد يقتصر على الديباجة الإعلامية التبريرية التي تعطي الاطمئنان الذاتي لمرتكبي الظلم بوجود سلف يشرع سلوكهم مع التغطية على الدوافع الحقيقية الحثيثة؟ السؤال ببساطة: ما الذي يصنع العنف، توجيهات الماضي أم ظروف الحاضر؟

  1. درس من التاريخ اليهودي

۞التوراة اليهودية مليئة بحوادث العنف الشديد و القتل الجماعي التي تقص أن بني إسرائيل ارتكبوها و هم داخلون إلى الأرض المقدسة، و كانت المجازر شاملة لا تستثني حتى الحيوانات فضلاً عن النساء و الأطفال، و تتوعد الأوامر الإلهية بالعقاب الشديد لمن يرحم أي نسمة كما يروي الكتاب المقدس، المهم أن هذا التراث كان نائماً و مقتصراً على قصص الأسلاف بعدما قضى الله بشتات بني إسرائيل عقاباً لذنوبهم حسب العقيدة اليهودية التقليدية، و ظلوا بانتظار المسيح المخلّص من نسل دواد ليقودهم إلى الأرض المقدسة ثانية و يسترجع ملكهم حين يأذن الله بذلك، و يحرم أي تدخل بشري في هذه العملية بانتظار الإرادة الإلهية وحدها، و في هذه الأثناء تحولت الجماعات اليهودية في مناطق تواجدها في آسيا و إفريقيا و أوروبا إلى الانغلاق أو ممارسة التجارة أو الربا و ظل اليهود في موقع الدفاع عن النفس نتيجة البغض الذي واجهوه في العالم الأوروبي بصفتهم "قتلة الرب"، أو بصفتهم جماعة وظيفية يكرهها محيطها و يفرغ فيها شحنات غضبه من ظلم السلطات الحاكمة في الأزمات بصفتها المستغِل الذي يسهل مواجهته بدلاً من مواجهة السلطة التي تقبل بتقديم هذا الكبش لفدائها، و شهد تاريخ أوروبا سلسلة معاناة يهودية متصلة في حروب الفرنجة و بعد سقوط غرناطة فلجئوا إلى العالم الإسلامي حيث عاشوا في وضع أفضل و حظوا بالترحيب و الإيواء، إلى أن ظهرت المسألة اليهودية في العصر الحديث في أوروبا نتيجة الاستغناء عن دورهم الوظيفي و ظروف التعثر التي مر بها اليهود في شرق أوروبا حيث اضطربت عملية التحديث، و اضطرارهم إلى الهجرة إلى غرب أوروبا التي تبرمت بهم و بحثت عن وسيلة للتخلص منهم.

 و كانت مغامرات يوشع بن نون و المجازر التي ارتكبت في فلسطين مجرد قصص مقدسة لا أثر لها في الواقع بعدما قضى الرب بالشتات، إلى أن حركت السياسة العلمانية الاهتمامات الغربية بتوطين اليهود في فلسطين و استخدمت الديباجات الصهيونية المسيحية التي نشأت مع الإصلاح الديني البروتستانتي لتبرير نفسها، و من الملاحظ أن نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر هو أول سياسي أوروبي في العصر الحديث يحيي الآمال الصهيونية رغم كونه وليد الثورة الفرنسية الملحدة التي جاءت من خلفية كاثوليكية و ليست بروتستانتية، أي لم تكن له أي علاقة ثقافية بالصهيونية المسيحية، ثم لحقه الساسة الإنجليز في منتصف القرن التاسع عشر، لتستيقظ الصهيونية اليهودية التي اخترعها ملاحدة استغلوا القراءة الانتقائية للتوراة لإحياء مفاهيم الشعب المختار و أرض الميعاد و العنف المقدس الذي مارسه الكيان الصهيوني بعدما ظل هاجعاً آلاف السنين، و كانت الظروف العلمانية و الحركة الاستعمارية هي التي أحدثت هذا التحول في الدين اليهودي و جذبت إليه جمهور اليهود فغير تراثه و دينه استجابة للحاجات الاستعمارية، و ظل هناك بقايا من المتمسكين بالأصول اليهودية التقليدية (ناطوري كارتا).

لم يكن رد فعل اليهود المتدينين على هذا التحريف الاستعماري الصهيوني هو جلد الذات و المطالبة بتنقيح التوراة و محو آياتها رغم أن الإجرام الصهيوني عاث في الأرض فساداً مستنداً إلى فصول العهد القديم نفسه فأهلك الحرث و النسل في فلسطين، و جلب كراهية اليهود التي لم يعرفها التاريخ الإسلامي بهذه الصورة، بل كان رد فعل اليهود التقليديين هو محاربة الصهاينة الملاحدة الذين استخدموا القراءات الانتقائية للتوراة لتبرير حاجاتهم الاستعمارية التي كان الغرب العلماني هو الذي حركها و مولها لأجل مصالح موجودة سواء وافق التراث اليهودي أم لم يوافق، و لهذا لم تستخدم القراءة الاستعمارية سوى ما يناسبها  و تركت بقية التراث الذي يتعارض مع هذه المصالح في جوهره (حيث وجوب انتظار الخلاص بقرار إلهي دون أي تدخل بشري).

النتائج:  ممارسة العنف ليست بحاجة إلى دوافع تاريخية لأن المجرم سيمارس العنف في جميع الأحوال نتيجة الوضع السائد في محيطه ثم يبحث عن التبرير في أي ذريعة كما يتضح من علاقة الحضارة الغربية العلمانية بتراث التوراة، و العنف موجود في جميع تواريخ البشر، و من الطبيعي أن يصبح مستَنداً لمن يبحث عن مبرر، و لكن وجود العنف في أي مرحلة تاريخية لا يعني و لا يحمل في داخله بذور استمراره و لا وجوب تجديده إلى الأبد إلا لو رأى الأحياء حاجة لهم في إحيائه استجابة لظروف جديدة لا علاقة لها بمن سبقهم لاسيما إذا كانت هذه الحاجات غير شرعية، فهم الذين يملكون قرار اليوم و من العبث تحميل الأموات و التاريخ أي وزر لاحق، و من ثم المطالبة بتنقية تراث أو تنقيحه أو إلغائه، فحتى لو حدث ذلك ستظل دوافع العنف حية ما بقي إنسان مجرم و آخر مظلوم، و لهذا فعلى من يبحث عن جذور العنف أن يلحظ الحاضر الذي يحفز أحياءه على الظلم الذي سيولد الدفاع عن النفس و ليس الماضي و التاريخ الذي لا يقدر جمهور هؤلاء على الإلمام بتفاصيله الدقيقة إلا على سبيل الديباجات الإعلامية التبريرية.

  1. دروس من التاريخ الأمريكي

۞تشير المصادر إلى أن عادة سلخ الرؤوس كانت موجودة بين القبائل الهندية و لكنها لم تكن منتشرة حتى قام الرجل الأبيض بتشجيعها و نشرها بواسطة المكافآت المجزية إمعاناً منه في العمل على القضاء على أعدائه الهنود، أي أن هذه الرذيلة كانت موجودة في التراث الهندي، و لكنها كانت محدودة الانتشار، فتدخل العامل الخارجي لينشرها كونها تؤدي خدمة لمصالح المستعمِرين الذين تناسوا دورهم الخبيث و وصموا الهنود وحدهم بعد ذلك بالتوحش و التخلف و البدائية، و كان الأمريكيون يوجهون الأنظار إلى عنف الهنود وحدهم و يتناسون دورهم الأكبر و الرسمي في العنف الجاري في القارة، و انتشرت هذه التهم لتبرر العنف الاستعماري ضد السكان الأصليين، و لكن المؤرخ المنصف لا يستطيع أن يغفل ذلك العامل الاستعماري عند دراسته تاريخ الهنود الحمر و لا يمكنه أن يلصق هذه التهم بهذا التراث، و في ذلك يقول المؤرخ دي براون: "قد يكون الأوروبيون جلبوا عادة فروة الرأس هذه إلى العالم الجديد أو لم يفعلوا ذلك، و لكن المستوطنين الإسبان و الفرنسيين و الهولنديين و الإنكليز جعلوا هذه العادة شعبية عن طريق عرض مكافآت لفروات رءوس أعدائهم" (ص 24-25).

النتيجة: وجود مظاهر عنف في تراث لا يعني أنها صفة غالبة أو مميزة أو أبدية فيه، فيجب البحث عن عوامل استمرار هذا العنف أو إحيائه و انتشاره في عوامل أخرى قد تكون ردود أفعال عشوائية على عنف أكبر يتخذ الصفة الرسمية و القانونية، و لمعرفة مدى الدموية أو السلم في حياة أمة فإن السؤال الواجب هو أين الممارسة العملية للعنف في الحياة اليومية الغالبة؟ و ليس في تجميع لحظات ممارسته في التراث و تركيز العدسات المكبرة عليها.

۞و في تاريخ السياسة الأمريكية كذلك نجد أن اثنين من الرؤساء الأمريكيين الفاعلين أثناء حرب فيتنام كان لهما خلفيات تراثية مضادة لخوض هذه الحرب هما جون كينيدي (1961-1963) ذو الأصل الإيرلندي الكاثوليكي الذي عانى من استعمار الإنجليز قبل كل أمم الأرض، و الرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974) المنتمي إلى مذهب الأصدقاء أو المهتزين (Quakers) الذين يرتجفون عند ذكر الله و يحرمون العنف و الحروب بكل أشكالها، و مع ذلك اتبع هذان الرئيسان سياسات ولدت كثيراً من العنف في هذه الحرب الإجرامية الظالمة.

النتيجة: ممارسة العنف الظالم ليست بحاجة إلى دوافع تراثية و قد توجد استجابة لدوافع آنية تخالف كل التاريخ و التراث.

  1. تساؤلات التراث الإسلامي

إذا كانوا يزعمون أن التراث هو الحاكم و المسيطر على حياة المسلمين اليوم فلماذا لا نرى إلا مقتطفات من هذا التراث موجودة في واقع المسلمين اليوم؟ فخلافاً للعنف الداخلي، لماذا نجد أمة "اقرأ" لا تقرأ مع أن هذا الأمر هو الذي أسس تراث الإسلام، و نزل قبل أن ينزل الأمر بأي قتال؟ و إذا كان التراث هو الحاكم فلماذا تفرق المسلمون شيعاً و أحزاباً و دولاً متناحرة مع وجود التشديد القوي في النصوص المؤسسة على فكرة الوحدة؟ و لماذا حكم المسلمين من حذر النبي صلوات الله عليه من تسلطهم و وصفتهم الأحاديث النبوية الشريفة بصفات البغي و الأثرة و أن هلاك الأمة على أيدي سفهاء غلمانهم؟ و إذا كان التراث هو الحاكم، فلماذا يسود التعامل الربوي في حياة المسلمين الاقتصادية رغم التشديد على حرمته؟ و لماذا حصرت الأوقاف في وزارات هزيلة اليوم بعدما كانت الحياة الاجتماعية تقوم عليها؟ و إذا كان الماضي هو الذي يحكم فما بال الحاضر قد فرط ببلاد المسلمين خلافاً لأي أمر ورد في التراث؟ و أين في حياتنا اليوم ما ساد في تراثنا من تعايش اجتماعي بين أنواع مختلفة من المكونات الدينية و القومية و الثقافية؟ و إذا كان السلف قد عُرفوا بحرصهم الشديد على النظافة التي هي من الإيمان أصلاً، إلى درجة أنها كانت من التهم التي توجه إلى بقايا المسلمين في الأندلس و تودي بهم إلى وسائل التعذيب الوحشية وسط قذارة الأوروبيين، فما بال الخلف قد تناسوا هذا التراث و أصبحت حياتهم مليئة بمظاهر البعد عن النظافة و الغرق في القذارة؟ و لماذا يسود الاعتقاد بالتنجيم مع وجود النهي الشرعي الحاسم عن تصديق المنجمين؟ لماذا وسط هذا العزوف عن إيجابيات التراث ننسب العنف وحده في حياتنا اليوم إلى هذا الموروث و نزعم أنه الحاكم الأعلى في حياتنا اليوم؟ فما دام الأمر فيه هذا الاجتزاء ألا نعود بذلك مرة أخرى إلى الواقع الذي فرض هذا الاجتزاء فأقام البعض و هدم الآخر من مكونات التراث؟

و إذا كانت الأسئلة السابقة تعم جميع المسلمين، ففيما يختص بمن يؤخذ عليهم دعم العنف اليوم و في نفس الوقت يسجل عليهم التعامل مع الكيان الصهيوني، كيف يمكن أن نوفق بين إلصاقهم بالتراث و هذا السلوك العميل غير القابل لأي انسجام مع أي جزئية في التراث؟ كيف يمكننا أن نعزو سلوكاً ينسق مع عدو الأمة التاريخي، لأي آية أو حديث في تراث الإسلام؟ كيف يمكننا أن نزعم أن من يقوم بهذا هو ممن يعيشون في ماض كان يحرم أي تخاذل من هذا النوع؟ فإذا كان العنف من التراث قد أحيوه، فلماذا أماتوا مقاومة عدو الأمة؟ و إذا كانوا متمسكين بحرفية النصوص كما يزعمون أو كما يشاع عنهم، فلماذا تمسكوا بنصوص عنف في جهة معينة و غفلوا عما ورد بشأن اليهود و تجاوزوه؟ هنا نكون قد عدنا ثانية للواقع و متطلباته و لم يعد التراث هو المتحكم الآلي الشامل، عن بُعد، بواقعنا.

يقول الدكتور فؤاد زكريا في أحد مقالاته القديمة إن التراث كان حياة كاملة لشعوب سبقتنا و كانت حياتها تموج بشتى التيارات المتصارعة و المتعارضة، و الكتابات التي خلفها السلف تعبر عن خصوبة تلك الحياة الكاملة، و لكن هناك من ينتقون من تراثها ما يناسب أفكارهم و يحجبون كل ما يتعارض معها، و يقدمون ذلك على أنه هو التراث و يعرضونه بطريقة أشد سلبية من تلك التي كتبه بها أصحابه أنفسهم، و إذا كان الأمر يبدو ظاهرياً كأن هناك من يقوم بإحياء التراث، فالحقيقة هي أنهم يلوّنون هذا الماضي و يعيدون تكوينه وفق أهوائهم تبعاً لأساليبهم في الانتقاء و التقديم، و يمكن لغيرهم أن يقدموا وجهاً آخر مختلفاً كل الاختلاف لهذا التراث، و بهذا يتبين أن من يزعمون نصرة التراث ليسوا في واقع الأمر مجرد عارضين لأفكار من سبقهم كما يحاولون تسويق أنفسهم، بل هم أصحاب دعوة يسقطونها على التراث بطريقة تعجز عن أن تجعل منه منبعاً يحيي واقعنا.

و يتبين من كلام الدكتور أن القضية كلها متعلقة بمتطلبات الواقع التي يمكنها تحريف الماضي، كما يمكنها فرض نفسها في هذا الواقع بتبريرات أخرى تصلح لتشريع مصالح هذا الطرف المعاصر أو ذاك، و لهذا فإن الحرب على التراث و محاولة تغيير ثقافة أمة هي تغميس خارج الصحن في أفضل الأحوال، و لن تجدي مادام الواقع مفعماً بإثارة المحفزات على العنف الذي يتخذ الصورة العشوائية في مواجهة عنف الكبار المنظم و الطاغي و قد يصبح في خدمتهم بهذه العشوائية، و في أسوأ الأحوال فإن الحرب على التراث محاولة مسخ للأمة لتفقد ذاكرتها و من ثم شخصيتها و استقلالها الحضاري و تصبح تابعة لغيرها تستمد منه القيم و الأحكام و طريقة النظر إلى الأمور لتسهل بعد ذلك عملية السيطرة عليها و نهبها باسم محاربة العنف و الحقيقة أن المراد هو إسكات المقاومة و تدجين المعارضة.

  1. مثيرات العنف الخارجي

و السؤال بعد كل هذه الدروس من وحي المعالجات الإعلامية الازدواجية لربط صفة العنف الإرهابي بانتماء مرتكبه، حيث يوصف بذلك إذا كان مسلماً و يحجم الإعلام عن أي اتهام مهما بلغ حجم الجريمة ما لم يكن مرتكبها مسلماً، فلماذا لا يبحثون عن عوامل إحياء ممارسة العنف في الواقع، و إذا فعلوا و تساءلوا ببلاهة: لماذا يكرهوننا؟ كانت الإجابة أشد بلاهة: لحسدهم حريتنا ! فهلا بحثوا بين ثنايا هذه الإجابة عما وفر لهم حريتهم من موارد الآخرين حيث يعيش خُمس البشرية باحتكار و نهب أربعة أخماس موارد الأرض و هي كفيلة بتوفير أشد أنواع الرفاهية و منها ترف الحرية و توفيرها يتطلب اتباع سياسات دموية عنيفة تترك غالبية الناس في العوز و الفقر و البؤس و الحرمان؟ و هو ما يستثير ردود الأفعال من نفس جنس الأفعال، و إذا كانت الدول العظمى و الصغرى تمارس العنف المنظم ذا الآثار الأكثر عمقاً ضد أعدائها، فما الغريب لو أدى ذلك الهجوم الكاسح إلى التحريض على ممارسة نفس الظاهرة في الاتجاه المعاكس و التي غالباً ما تتسم بالعشوائية الساذجة التي يمكن تحويرها في النهاية و توظيفها في مشروع العنف الاستعماري؟ كيف يمكن تدجين أمة لقبول تعرض مدنها كاملة للقصف الوحشي و التدمير الدموي و الاجتثاث من الجذور دون أن يتحرك أحد بأي اعتراض في مجتمع دولي منافق، ثم لو تعرض مبنى للهدم في العواصم الكبرى التي تمول القصف و الدمار نجد العالم كله يسرع لتقديم آيات الولاء و الطاعة و الاستنكار و الأسف و تصبح الحادثة تاريخاً فاصلاً كالهجرة النبوية و ميلاد المسيح يؤرخ بها ما قبلها و ما بعدها؟ لماذا يعطى الحق لطرف كي يقتل و يقصف و يدمر و يحرق ثم يسلب من الضحية حق الشعور بالألم وحده؟ أليس من الأجدى لمن يبحث عن السلام في العالم أن يوجه خطابه أولاً إلى القوي المتمكن المعتدي أن يكف عن عدوانه قبل أن يطلب إلى الضحية الضعيفة التي لا تستطيع الكثير، فقدان الشعور و الإحساس بالآلام التي تصيبها؟ و لماذا لا يوجهون الأنظار إلى مواريث الآخرين المليئة حياتهم بممارسة العنف الجماعي و السياسي المقدس و يقتصرون في الأحيان الفردية على الأسباب الجانبية كالاضطرابات النفسية ثم يركزون على المسلمين وحدهم و تراثهم؟

  1. المزيد من الانبطاح: محبة العدو و مسالمة ظلمه

و هناك من يذهب أبعد من ذلك في خلط الأوراق بين العدو المسلح و المدني المحايد، و من الطريف أن نسمع أحياناً دعاة السلام في معسكرنا وحده و هم يعلموننا دروساً في المحبة و نبذ الكراهية المتأصلة في ثقافتنا و المتغلغلة في حياتنا اليومية: من ضرب الأب ابنه إلى حمل السلاح و تجييش الجيوش ضد الأمم الأخرى، و تستمر المحاضرة الأخلاقية في اللطم و التطبير كوننا نفتقد المثاليات الملائكية السائدة في عصر الإنسانية، هذه اللغة ينشرها من لا يعملون بها، لفرض الاستسلام على الضحية بدلاً من أن تقاومهم و هم يقومون بذبحها، و لهذا يتوجه الخطاب دائماً للمظلوم الواقع تحت الاضطهاد الذي مازال مستمراً بوجوب الصفح مع أن البديهة وجوب مخاطبة القادر و ليس العاجز، و نجد أمثلة مضحكة عن شخص اكتشف "إنسانية" عدوه في شطيرة قدمها له و هو في طريقه للقيام بعملية فدائية بعدما احتل وطنه و شرد شعبه و سفك دماء أهله و اعتقل أبناءه و صادر ممتلكاته، و صار مطلوباً إلينا أن نبيع وطننا بشطيرة (!) أو أن نفعل ما قام به أحدهم من العفو عن دماء أبنائه كرمى لعيون أعدائه الذين مازالوا يلغون في الدماء غير آبهين بسذاجة ضحاياهم القانعين بإطراء من هنا و تقريظ من هناك مع بعض الوهج الإعلامي كأمثلة تعجب العدو و لكنه لا يقتدي بها، و لو كان هؤلاء الدعاة منصفين لعلموا أن القضية ليست صلحاً بين عشيرتين على دماء طال زمنها و بعد عهدها و يتطلب العقل العفو عنها حقناً للمزيد من الدماء، و أن حروب الاستعمار و الاسترقاق و الإبادات و الأفيون و النهب و الاحتكار و الاحتلال و الاقتلاع و التهجير مستمرة إلى يومنا هذا منذ بدايات النهضة الأوروبية، و لما اقتصر حديثهم على الفتوحات الإسلامية كجذر ثقافي بطريقة غير علمية تفترض وجود لغة العصافير و موسيقا السلام في غير زمنها مع تركيز الاهتمام على الماضي دون الحاضر المليء بمظالم الأقوياء في الوقت الذي يلومون مقاومة الضحية بعدما تراجعت بل انكفأت فتوحات ماضيها، و أن لعبة لوم الضحية سواء في ماضيها أو في حاضرها لن تحقق سوى تبرير مزيد من العدوان، و لكن كيف يدينون سادتهم الإنسانيين الذين علموهم هذه الخدعة و أعطوهم هذا الأفيون ليخدروا به الأمة التي تقاومهم؟ إن سؤالي لدعاة المحبة الإنسانية و الموسيقا العالمية: من هم الذين يطبقون هذه الوصفة السحرية؟ و هل يكفي أن نعجب ببعض المهووسين الذين يقاومون مظلمة ما، كجدار الفصل العنصري، بالعزف على البيانو أو الجيتار، في الوقت الذي تقوم فيه دولهم بتكديس كل أنواع الأسلحة المدمرة و المحرمة لدى الصهاينة؟ فلماذا نخضع نحن لهوسهم في الوقت الذي لا يؤثرون هم على سياسات دولهم أنفسها؟ و ما هو المراد من قيام فلسطيني ساذج بنشر هذه الدعوة في الوقت الذي يمعن فيه عدوه القوي بممارسة كل أشكال الظلم و الاضطهاد ضده؟ و هل يراد من الضحية وحدها أن تحب في الوقت الذي يذبحها فيه الأقوياء؟ و أن تطبق وصفة لا يطبقها أحد من العالمين أم أنها ترى الأقوياء يطبقون وصفة الحب هذه، و أين تم هذا التطبيق بالضبط؟ و في الحالين نحن في مصيبة كبرى تحاول اقتلاع عوامل المقاومة من ثقافتنا و شخصيتنا من أجل أوهام لا دليل عليها.

لقد كان "الإبريق الأسود" Black Kettle زعيم قبيلة الشايان Cheyenne الهندية الحمراء أكثر زعماء الهنود مسالمة في تاريخ الحروب الهندية و أكثرهم تعرضاً لعدوان البيض كذلك، مات تحت سنابك الجيش الأمريكي في مجزرة واشيتا (1868) Washita بعد أربع سنين من مجزرة أخرى تعرضت لها قريته المسالمة و هي تحت حماية الجيش الأمريكي الرسمية عند نهير الرمل (1864) Sand Creek في زمن "المحرر العظيم" أبراهام لنكولن.

عندما نقرأ التاريخ نوفر على أنفسنا السير في رحلات بائسة من الشقاء و الخسائر، و إذا كانت حضارة الغرب توصف بأنها حضارة التصحيح الذاتي للأخطاء فإنها هي نفسها التي تثني على نهج الاستسلام و تعلي من شأن المنادين به و تفتح لهم أبواب الشهرة الإعلامية بحجة "التسامح" مع أن التاريخ لم يسجل حادثة واحدة دفع فيها هذا التسامح عدوان المعتدين، فلماذا لا نتعلم من الأخطاء و نصحح المسار؟ فهل يظن أي عاقل أن استسلام الضحية سيؤدي إلى "خجل" المعتدي و تراجعه؟ و لكنهم يشجعون هذه الميول فينا و لا يعملون هم بها رغم أنهم الطرف الأقوى القادر على فرض إرادة التسامح الذي يمتدحونه، و لكن لماذا لم يستعملوا هم هذا التسامح في حل أي مشكلة واجهت مصالحهم في بلاد المشرق منذ الحملة الفرنسية على مصر و عمليات احتلال بلادنا و الحرب الكبرى و هدم الخلافة و العدوان الثلاثي و حروب الخليج منذ 1941 إلى اليوم؟ فهل نحن بحاجة إلى مزيد من "الأباريق السوداء"؟

  1. استنتاج: هدف التغيير الثقافي

إنه من غير المقنع أن يقوم الغرب بمحاولات حثيثة لتغيير ثقافة المسلمين لنزع جذور العنف فيما يزعم، مستخدماً في ذلك خلط الأوراق بين برم الأمة ممن يستخدمون العنف داخلها و برمه هو ممن يقاوم هيمنته، مع محاولته وضع القسمين في سلة واحدة دون القيام بنفس التغيير الثقافي على الجانب الصهيوني في نفس المجال بل دعمه و مؤازرة أطماعه، و لم يعد سراً ما تبثه مناهج الصهاينة من كراهية و تحريض، دون أن نذكر جذور العنف في الدول الكبرى التي هي الأصل الذي ينتخب ما يرضيه من العنف و يجرم ما لا يرضيه، و يمكنها أن تفرض إرادتها بقوة النفوذ، "سلمياً" كما فعلت الولايات المتحدة في جعل القدس عاصمة لابنتها الصهيونية المدللة، و إذا رفض المظلوم هذا الافتراء بإمكاناته المحدودة، صار هو العنيف الإرهابي، و من ثم فإن الاقتصار على أحد الجانبين بوجوب تغيير ثقافته، مع دعم عدوانية و جشع و نهم الطرف الآخر بقوة النفوذ، يبين بوضوح أن القضية لا تتعلق بتجفيف منابع حزب أو تنظيم معين، بل باجتثاث حوافز المقاومة نفسها في الأمة كلها لاسيما أن تهمة العنف الإرهابي تطال المجرم و المقاوم على السواء و تهدف إلى التسوية بينهما كما يتضح ذلك يوماً بعد يوم في برامج من يزعمون مناهضة الإرهاب، و لم تعد الأنظمة العميلة تخجل من الانصياع المذل للأوامر الأمريكية بالتخلي عن أقدس المقدسات بذريعة أحط من الذنب و هي وأد المقاومة و عدم منحها فرصة الانتعاش كما بينت التسريبات الإعلامية، فإذا تذكرنا باع الغرب الطويل في دعم ظواهر عنف معينة كان يسبغ عليها أوصاف المدح و الثناء و الغزل الأعمى بوصفها "قتالاً لأجل الحرية" عندما كانت تخدم مشروعه فيسهب في منحها التسهيلات من كل الأصناف قبل أن يزعم الانقلاب عليها، و كان في نفس ذلك الوقت و مازال يعادي بقوة مظاهر مقاومة مشروعه الاستعماري و الصهيوني، لعلمنا ما هو الأصيل و ما هو الطارئ في توصيفاته الإرهابية، و لأدركنا أن مشروعه الثقافي يستهدف المسخ و ليس التمدين، كما حدث في أمم قبلنا، في آسيا مثلاً، هيمن عليها الاستعمار الأمريكي و حولها إلى بؤر دعارة ممسوخة لا تزيد عن كونها مصدراً للرذيلة و العمالة الرخيصة التي تنظر بعين التقديس إلى النموذج الأمريكي الذي لم ينعم عليها كما أنعم على اليابان مثلاً، لضرورات معينة، و ترك تلك البلاد خانعة ذليلة، و صار أقصى ما يتمناه أبناء هذه الدول أن يتشبهوا بالمظهر الأمريكي دون أي مضمون حضاري، و لا تملك زعامة هذه البلاد سوى ذم النموذج الكوري الشمالي، بحسد مكشوف، كونه "أحمق"، و بالفعل فقد ترك "العقلانية" للمستسلمين الذين لا يحترمهم أحد، و لا يمكنهم الحصول على مكانة إلا في ركاب الأقوياء مثل جزر ميكرونيزيا التي تدمن تأييد القرارات الأمريكية في الأمم المتحدة، أو الدول التي أيدت اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، و هذا الاستسلام بخنوع هو ما يراد لنا أيضاً.

فإذا سلمنا جدلاً بأن للعنف ضد الأمم الأخرى في أي مكان شعبية ما في وسط المجتمع الإسلامي اليوم تختلف عن شعبية التنظيمات المسلحة التي وجدت و مازالت توجد في كل بقاع الأرض، و عند الأمم المتقدمة و المتخلفة، كمنظمات بادر ماينهوف و الجيش الأحمر و الألوية الحمراء و حتى لو كانت بمستوى سريان عنف التفوق الأبيض في أمريكا و منظماته التي تتخلل المجتمع الأمريكي منذ الكوكلاكس كلان و شبيهاتها، نسلم بذلك و لا بأس، فأين علينا البحث عن السبب، هل في ثقافة الماضي التي لا يحسن كثير من ممارسي العنف مجرد قراءتها ؟ أم في أحوال الإذلال التي تخضع لها أمتنا منذ أكثر من قرنين و مازالت تخيم بظلالها على أوضاعنا اليومية و تنبه الفرد العادي أينما ولى وجهه في صباحه و مسائه و تسير من سيء إلى أسوأ؟ ثم أليس من بديهيات البشر أن يقاربوا أي مظهر عنف فردي في الحياة اليومية بعلاج أسبابه المباشرة سواء كانت عدواناً على النفوس أو الأموال أو الأعراض قبل الدخول في افتراضات و متاهات وجود عقد نفسية عميقة الجذور في نفسية أحد أطراف أي نزاع؟ و إذا كانت العقد النفسية تصيب الأفراد و يفترض أن تؤدي إلى التعاطف معهم و علاجهم بما يجعلهم شخصيات قويمة منتجة، فهل من المقبول اتهام أمم كبرى بهذه الانحرافات و بما يؤدي إلى عكس ذلك أي إلى نشر النفور منها تمهيداً لقهرها و تحويلها إلى حالة العجز كما فعل الاستعمار بالأمم التي أوقف نموها و نهب مواردها و عطل طاقاتها؟ أليس هذا هو نفس النمط الاستعماري الاستشراقي الذي كان يلقي بالتهم السلبية العامة على أمم كاملة لشيطنتها و تشريع الانقضاض عليها و سلبها مع الادعاء بأنه يأخذ بأيديها نحو التمدن في اعتراف واضح بواجبه الفطري نحوها و لكن دون القيام به؟ فلماذا تصر السياسة الغربية على القفز على حقائق بديهية في الحياة اليومية و تحميل الظواهر الطبيعية، الناتجة عن عدوانها الكاسح، أعباء غير طبيعية؟ و لماذا تصر على لوم الآخر، و غالباً هو الضحية، بدل القيام بشيء من التنازل و سؤال النفس عما أجرمه القوي في حق الضعيف؟

و هل يراد إقناعنا أن تغيير ثقافتنا هدفه اقتلاع هذه المظاهر العنيفة التي يظل حجمها معزولاً في تاريخنا الطويل أم اقتلاع هذا التاريخ نفسه الذي عاشت به أمتنا حياة طبيعية مكرمة كبقية الأمم ما يزيد عن ألف عام، تضمنت مقاومة عز نظيرها لعاديات الزمن و مظالم الأيام و تكالب الأعداء، و تحويلها إلى قطيع من الأتباع فاقدي الذاكرة الذين يملى عليهم الأمر و النهي ليتقبلوه بلا أي مرجعية معيارية مستقلة؟ و لماذا يصرون على أن المشكلة عندنا، دون أي تنازل من جانبهم عن كل سياسات و إجراءات الظلم و النهب دون القدرة على مجرد افتراض القاعدة المستمدة من العلم الذي يتباهون به على العالم و هي أن لكل فعل رد فعل مساو له في المقدار و مضاد له في الاتجاه؟ أو على افتراض أن سياساتهم يمكن أن تكون خاطئة فضلاً عن كونها مظالم كبرى تستدعي التصدي و المقاومة، و أنه من الطبيعي في ظل التخبط الأمي السائد في بلاد لم تأخذ فرصتها للتطور الطبيعي و لم تعط فسحة للتنفس، أن تنحرف مظاهر المقاومة يمنة و يسرة، هذا مع زعمهم نسبية الأحكام و قولهم بالحلول الوسطى و دعوتهم لتفهم الرأي الآخر و وضع النفس في مكان الخصم، و لكنها جميعها شعارات للاستهلاك يطلب إلى الخصم تطبيقها لشل مقاومته و إرادته بالميوعة الثقافية دون أي أثر مشابه لها على ذات المتحدث بها، و لقد رأينا في تاريخنا المعاصر أن كل ما قدمه الاتحاد السوفييتي من تنازلات للمعسكر الغربي في زمن البيروسترويكا و الجلاسنوست أي "إعادة البناء" و"المصارحة أو الشفافية" التي وصلت حد تفكيكه و إنهائه من الوجود، لم يقابله سوى العنجهية و الغطرسة من الجانب الأمريكي الذي انتهز الفرصة للاستفراد بالعالم و فرض قانون رعاة البقر و لم يستغل هذه الفرصة التي قدمها زوال الخطر السوفييتي عليه للتهدئة و السير على خطى مماثلة، و التنازل عن سياسات الحرب الباردة السابقة، لصالح البشرية كلها و مواردها و بيئتها و مستقبلها بل لصالح كوكب الأرض المهدد كله، ليكون ذلك درساً للجميع من موقع القوة في التعامل مع العالم وفقاً لشعارات الديمقراطية و الحرية و الإنسانية و العقلانية التي طالما ضللوا السوفييت بها حتى ابتلعوا الطعم و صدقوها بانتظار الفردوس الأرضي الذي لم يأت به الأمريكي رغم كل ذلك، بل ازداد تطرفاً و عسكرة و ظلماً، و ظل يخترع الأعداء تباعاً من طواحين الهواء لتبرير سياساته التي لم تتبدل تبعاً للتنازل السوفييتي، و تبين بالفعل قول زهير :"و من يصنع المعروف في غير أهله، يكن حمده ذماً عليه و يندم"، فدخل العالم في دوامات جديدة من الصراعات الدموية تبعاً لقانون الفعل و رد الفعل، و هو ما يجعل أي تنازل بعد ذلك تدعو أمريكا أي طرف لتقديمه ليس سوى فرصة تتحينها للانقضاض عليه كما حدث للعملاق السوفييتي، فما بالنا بأي صغير في الساحة العالمية؟ و هذا درس لكل دعاة التنازل أنه لن يأتي لهم بالمن و السلوى كما لم يأت لمن كانوا أقوى منهم، فأين سيكون مصيرهم هم؟ فخلاصة الدرس في منتهى الوضوح: حتى زوال الخصم من الوجود لن يشبع النهم الغربي و لن يدفعه إلى تغيير سلوكه الجشع و لو خلت الدنيا من كل خصومه فهذا لن يخفض درجة توتره بل سيخلي الساحة لطمعه و تسلطه و توحشه.

المراجع

1-   الكتاب المقدس: أي كتب العهد القديم و العهد الجديد و قد ترجم من اللغات الأصلية، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، 1985.

2-   الدكتور جورجي كنعان، وثيقة الصهيونية في "العهد القديم"، 1977.

3-   الدكتور جورجي كنعان، أمجاد إسرائيل في أرض فلسطين، دار الطليعة، بيروت، 1978.

4-   دي براون، تاريخ الهنود الحمر، دار الحوار، اللاذقية، 1982، ترجمة: توفيق الأسدي.

5-   رجاء جارودي، فلسطين أرض الرسالات الإلهية، دار التراث، القاهرة، 1986، ترجمة: دكتور عبد الصبور شاهين.

6-   موقع "سكاي نيوز عربية"، رئيس الفلبين: زعيم كوريا الشمالية "أحمق"، الأربعاء 2 أغسطس 2017 - 17:18 بتوقيت أبوظبي.

(https://www.skynewsarabia.com/web/article/969404/%D8%B1%D9%8A%D9%94%D9%8A%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%B2%D8%B9%D9%8A%D9%85-%D9%83%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%94%D8%AD%D9%85%D9%82)

7- الصفحة الرسمية للإعلامي معتز مطر، معتز مطر يثبت بالدليل صحة تسريب مفيد فوزي عن القدس، 8 يناير 2018، 1:21 صباحاً.

https://www.facebook.com/matar.page/videos/1041001889372438/

8-   عبد الوهاب المسيري، موسوعة اليهود و اليهودية و الصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 1999.

9-   عز الدين أبو العيش، لن أكره: رحلة طبيب من غزة على طريق السلام و الكرامة، دار بلومزبري-مؤسسة قطر للنشر، الدوحة، 2011.

10- الدكتور فؤاد زكريا، محنة الثقافة عند الشباب العربي، مجلة "العربي" الشهرية، عدد 232، وزارة الإعلام، الكويت، مارس (آذار) 1978، ص 16-21.

11- محمد شعبان صوان، أمريكا الإسرائيلية و فلسطين الهندية الحمراء، دار الروافد الثقافية، بيروت، و دار ابن النديم، الجزائر، 2016.

12- نعوم تشومسكي، فيتنام و الثقافة السياسية الأميركية: العودة إلى كاميلوت، مختارات، بيروت، 1995، ترجمة: مي النبهان.

13- يوسف أيوب حداد، هل لليهود حق ديني أو تاريخي في فلسطين، بيسان للنشر و التوزيع و الإعلام، بيروت، 2004.

قراءة 2036 مرات آخر تعديل على الجمعة, 19 كانون2/يناير 2018 17:01

أضف تعليق


كود امني
تحديث