قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 08 نيسان/أبريل 2018 11:44

في ذكرى الحملة الصليبية الرابعة ضد بيزنطة: القسطنطينية بين فتحين 1

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(8 أصوات)

هناك من يحاول قراءة التاريخ في لحظات الذروة التي ليست طويلة في عمرها، و لكنها لا تصلح لبناء استنتاجات دائمة عليها، لو أردنا أن نستخلص تعميماً عن علاقة طرفين، لا يجوز أن ننظر إلى هذه العلاقة في ساحة خلاف أو معركة فقط، هناك حياة ممتدة و سنوات و عقود و قرون، لا يجوز أن نبنيها على لحظة عابرة ربما نسيها الزمن و تغير ما حدث فيها رأساً على عقب، لا يجوز أن نترك ثوباً كاملاً و نركز على وصف بقعة صغيرة فيه، و البقع أصلاً تصيب أي ثوب، و دائما يكون قياس الحدث بنظرائه مفيداً للمقارنة.

و قد تعرض الفتح العثماني للقسطنطينية إلى حملات تشويه و افتراء كانت أهدافها أبعد من مجرد إثبات الحقيقة، فهي جزء من برنامج سياسي له خصومات تتعلق بالإسلام أو تركيا أو التاريخ العثماني الذي تؤرق إنجازاته الكبيرة كثيراً من العاجزين عن مطاولتها في عالمنا المعاصر، و حتى نقيس النقد بالظروف الواقعية دون التحليق في سماء الخيال، علينا مقارنة الفتح العثماني بأمثلة مماثلة في التاريخ، و نحن الآن بصدد ذكرى الحملة الفرنجية الرابعة التي استباحت عاصمة المسيحية الشرقية، باسم المسيح، في يوم 12-13/4/1204، بعدما انحرف مسار الحملة عن الأراضي المقدسة في الشام و التي كانت الوجهة التقليدية لحملات الفرنجة منذ انطلاقها سنة 1095، و اتجهت تلك الحملة إلى الاستيلاء على أراض مسيحية نتيجة الأطماع و الأهواء الدنيوية.

1-الحملة الصليبية الرابعة ضد القسطنطينية سنة 1204 و ما تبعها

مما يحسن الاستشهاد به في هذا المجال أن حملات الفرنجة التي سميت حروبا صليبية لإلباسها القناع الديني جاءت بحجة الانتصار لمسيحيي الشرق ضد الظلم الواقع عليهم من المسلمين فكانت النتيجة أن دمرت الحملة الصليبية الرابعة مدينة القسطنطينية عاصمة المسيحية الشرقية سنة 1204 بعدما انحرفت عن مسارها نحو الأراضي المقدسة تلبية لشهوات الأطماع و ارتكب الفرنجة اللاتين جرائم كبرى منها أنهم "في كنيسة آيا صوفيا العظيمة .....أجلسوا مومسا فوق عرش البطريرك (الأرثوذكسي) حيث غنت أغنيات فرنسية فاحشة بينما أدخل آخرون خيولهم و بغالهم إلى الداخل لتبول و تتغوط فوق أرضها، أما في الشوارع فلم يوفروا أحدا، فجردت الراهبات و عرين من ملابسهن، و انتهكت أعراضهن، و أجبرت النساء و الفتيات على البغاء و الفحش بشكل لا يوصف، و حطمت رؤوس الأطفال مثل قشور البيض في ضربها على الجدران و ضربها بأعقاب أحذية الجنود...."[ii].

بالطبع لو فتحنا أي كتاب تاريخ عن هذه المرحلة سنجد الكثير مما يقال، فمثلاً يقول ستيفن رنسيمان أحد أشهر مؤرخي الحروب الصليبية تحت عنوان "نهب القسطنطينية سنة 1204" : "ليس لنهب القسطنطينية مثيل في التاريخ" ثم يسرد تفاصيل ما قام به البنادقة و الفرنسيون و الفلمنكيون الذين "اندفعوا كالرعاع المسعورة يجوبون الشوارع...و لم تجر التفرقة بين القصور و الأكواخ فيما تعرضت له من الهجوم و التدمير، و أخذ الجرحى من النساء و الأطفال يلفظون أنفاسهم في الشوارع، و ظلت مناظر النهب و سفك الدماء المريعة مستمرة ثلاثة أيام حتى أضحت المدينة الضخمة الجميلة شبيهة بسوق اللحوم، و هتف المؤرخ نكيتاس في صدق، إن المسلمين لأكثر منهم رحمة"، ثم تحدث عن قيام "الإمبراطورية اللاتينية 1204-1261" في القسطنطينية و انتقال الأقاليم الأوروبية التي كانت تابعة لبيزنطة إليها و تشتت البيزنطيين بين ثلاث إمارات في الأناضول و اليونان برزت من بينها نيقية بصفتها حاضرة الإمبراطورية الشرعية في نظر اليونانيين "على أن الفاتحين المظفرين لم يتبينوا في غمرة فرحهم سنة 1204 ما ترتب على حملتهم من نتائج جوفاء، كما أن معاصريهم بهرهم أيضاً الفتح"، و لكن "لم يرتكب في حق الإنسانية من الجرائم ما هو أشد من الحملة الصليبية الرابعة...و في المجال الفسيح لتاريخ العالم، تعتبر نتائج الحملة الصليبية الرابعة فاجعة في جملتها....و في تلك الأثناء انغرست بذور الكراهية بين العالمين المسيحي في الشرق و الغرب...و ما ادعاه الصليبيون من مفاخرات خادعة، بأنهم أنهوا الانشقاق، و وحدوا الكنيستين، كل ذلك لم يتحقق، بل حدث بدلاً من ذلك أن همجيتهم و وحشيتهم خلفت من الذكرى ما لا يغتفر لهم، و قد يدافع الزعماء المسيحيون فيما بعد عن الاتحاد مع روما، و قد تعلقوا بالأمل في أن الاتحاد سوف يؤدي إلى إقامة جبهة متحدة إزاء الترك، غير أن أقوامهم لن يتبعوهم، فليس بوسعهم أن ينسوا الحملة الصليبية الرابعة"[iv].

أما المؤرخ ول ديورانت فيقول في موسوعته الشهيرة "قصة الحضارة": "و ازداد نهمهم لطول ما حُرموا من فريستهم الموعودة، فانقضوا على المدينة الغنية في أسبوع الفصح و أتوا فيها من ضروب السلب و النهب ما لم تشهده رومة نفسها على أيدي الوندال أو القوط، نعم إنه لم يقتل في هذه الحوادث كثيرون من اليونان، فلعل عدد القتلى لم يتجاوز ألفين، اما السلب و النهب فلم يقفا عند حد...و عانت كنيسة أيا صوفيا من النهب ما لم تعانه فيما بعد على يد الأتراك عام 1453....و بذلت محاولة ضئيلة للحد من اغتصاب النساء، و قنع الكثيرون من الجنود بالعاهرات، و لكن (البابا) إنوسنت الثالث أخذ يشكو من أن شهوات اللاتين المكبوتة لم ينج منها الكبار أو الصغار، و لا الذكور و لا الإناث، و لا أهل الدنيا أو الدين...و لم تفق الإمبراطورية البيزنطية من هذه الضربة القاصمة، و مهد استيلاء اللاتين على القسطنطينية إلى استيلاء الأتراك عليها بعد مائتي عام من ذلك الوقت"[vi].

و تقول برناردين كلتي في كتابها "سقوط القسطنطينية" في فصل "كارثة الحملة الصليبية الرابعة" إنه في يوم 12/4/1204 استباح اللاتينيون المدينة لمدة ثلاثة أيام فدمروا و سلبوا القسطنطينية الجبارة، و استهجن البابا إينوسنت الثالث ذلك لأن اتحاد المسيحية صار آنذاك مستحيلاً إلى الأبد، و قد نسي الصليبيون الأرض المقدسة و يمينهم المقدس (بتحرير القبر المقدس في فلسطين)، و نهبوا الكنائس و ربطوا خيولهم في كنيسة سانتا صوفيا و جعلوا الأديرة مسرحاً للرذائل و عذبوا الرهبان، و اقتلعوا التماثيل و أحرقوا المكتبات و سلبوا قبور الأباطرة و حطموا الرخام و صهروا القطع الفنية، و أشعلوا النار لمدة ثمانية أيام في منطقة قطرها ميلان و نصف "و بهذا الأسلوب تم تسديد ضربة قاضية إلى أجمل مدينة في العالم".

و عندما نجح اليونانيون باستعادة سيادتهم على القسطنطينية سنة 1261 "لم تكن هناك طريقة يستطيعون بها إعادة الإمبراطورية إلى سالف مجدها فقد كانت القسطنطينية المنهكة التي أفقرها النهب أشبه ما تكون بامرأة عجوز ذهب شبابها إلى الأبد...لقد فقدت القسطنطينية روعتها إلى الأبد..و قد كان الساسة المغامرون الذين ضعضعوا الإمبراطورية سنة 1204 مسئولين بصورة مباشرة عن سقوط القسطنطينية بعد مئتي عام و عن القضاء على المسيحية في الشرق"[viii].

و يقول المؤرخ برنارد لويس: "كانت القسطنطينية، قبل قرنين و نصف من فتحها على أيدي الأتراك، قد عانت غزواً أشد عنفاً من جانب الغزاة الغربيين"[x].

2-الفتح العثماني سنة 1453 و ما تبعه

كما اطلعنا على الغزو اللاتيني للقسطنطينية و ما ترتب عليه و أثره على السكان اليونانيين، سنطلع على نفس النواحي الثلاث فيما يتعلق بالفتح العثماني، ليتبين سبب تسمية الأول بالغزو و الثاني بالفتح:

تقول الموسوعة البريطانية "بدأ الهجوم النهائي في يوم 29 مايو (أيار/ ماي) 1453...و لمدة ثلاثة أيام تركت المدينة للنهب و القتل، و بعدها استعيد النظام بأمر السلطان"، و تحت عنوان "قرون من النمو" تقول: "عندما استولي على القسطنطينية، كانت مهجورة تقريباً، و لكن محمداً الثاني أعاد إسكانها بنقل السكان إليها من مناطق مفتوحة أخرى مثل البلوبونيز و سالونيكا و الجزر اليونانية، و بحلول سنة 1480 ارتفع عدد السكان إلى ما بين 60 ألفاً و 70 ألفاً....و نقلت العاصمة إلى القسطنطينية من أدرنة في سنة 1457...و بعد محمد الثاني، دخلت القسطنطينية في عهد طويل من النمو السلمي الذي كان يقطعه الكوارث الطبيعية...و كرس السلاطين و وزراؤهم أنفسهم لبناء السبل و المساجد و القصور و المؤسسات الخيرية بما جعل مظهر المدينة يتحول كلياً بعد مدة وجيزة، و إن أكثر العهود تألقاً في البناء التركي هو عهد الحاكم العثماني سليمان العظيم (1520-1566)"[xii].

أما عن الرأي الآخر الأكثر تمسكاً بالتنظيم في الفتح فيستعرضه المؤرخ المعروف ستانفورد شو: "ما إن دخل العثمانيون المدينة فإنهم تقدموا ببطء و نظام، مطهرين الشوارع من بقايا المدافعين، و بينما يسمح القانون الإسلامي بالقتل و النهب في المدينة نظراً لمقاومتها، فإن محمداً وضع قواته تحت سيطرته الصارمة، فقتل البيزنطيين الذين أبدوا مقاومة شرسة فقط، و فعل ما بوسعه لبقاء المدينة سليمة لتصبح مركز دولته العالمية...و قد جعل الفتح العثمانيين ورثة لتقاليد إمبراطورية حيث أصبحت المدينة المفتوحة مرة أخرى عاصمة لدولة واسعة...و كانت الخطوة التالية لمحمد هي استعادة إسطنبول عظمتها الماضية، لقد اختفى معظم سكان المدينة و ازدهارها الاقتصادي قبل الفتح بزمن طويل، و كانت قد أصبحت فقيرة و مقفرة فيها حوالي 60 ألفاً أو 70 ألف نسمة، و حاول محمد قدر الإمكان تجنب النهب الواسع فور الفتح، و لكن كثيراً من السكان هربوا خوفاً و لم يبق فيها أكثر من عشرة آلاف نسمة عند الشروع بإعادة البناء، و لذلك كانت المهمة الأولى هي إعادة الإسكان في المدينة، فصدرت فرمانات تكفل حياة و ممتلكات جميع السكان الذين يعترفون بالسلطان و يدفعون الضرائب بغض النظر عن دياناتهم، و قد أراد محمد أن يجعل عاصمته عالماً مصغراً من كل أعراق و أديان دولته، و عندما لم يكن التشجيع كافياً، يتم اللجوء إلى سياسة التوطين بالقوة لجلب المهاجرين من الأناضول و البلقان مع تقديم هدايا من الممتلكات إضافة إلى إعفاءات ضريبية لتمكينهم من استئناف أعمالهم و استعادة الحياة الاقتصادية في المدينة، لقد جاء المسلمون و الأرمن و اليهود و اليونانيون و السلاف و غيرهم من كل أرجاء الدولة....و نتيجة ذلك عادت إسطنبول مزدحمة بالبشر مرة أخرى في غضون فترة وجيزة، و ترافقت إعادة الإسكان في المدينة مع أعمال البناء"[xiv].

و يتحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى قائلاً إنه رغم فتح القسطنطينية عنوة فإن السلطان لم يتردد في استعمال سلطاته العرفية لإصدار أوامر تخفف من حدة إجراءات الفتح و تمهد لتعمير المدينة، فقد جعله الفتح إمبراطوراً لروما و وريثاً شرعياً للأراضي التي خضعت في الماضي للأباطرة، و لهذا كان يريد اتخاذ المدينة قاعدة لإمبراطورية عالمية و إعادة بنائها و إغراء سكانها الفارين بالعودة إليها، و كرس بقية حياته لهذه المهمة، فشيدت المدارس و المكتبات و التكايا و المؤسسات الخيرية و صارت المدينة عاصمة للدولة و مركزاً للحياة الإسلامية بل أبرز مركز ثقافي في العالم الإسلامي، و ظلت كذلك إلى نقل العاصمة إلى أنقرة في القرن العشرين، و أبقى السلطان كثيراً من المسيحيين و اليهود فيها و أرغم جماعات من مختلف شعوب الدولة على السكنى فيها، و أصبحت المدينة تعج من جديد بالحياة و النشاط، و نظم السلطان أوضاع اليونانيين المقهورين و استمال الكنيسة و جعل البطريرك على رأسها و خلع عليه صلاحيات شبيهة بصلاحيات بابا روما فتمتع بسلطة لم يمارسها سابقوه في العهد البيزنطي، و حافظ المسيحيون على عقيدتهم و مارس اليونانيون التجارة فحصلوا على ثروات طائلة و استقروا حول البطريركية في حي الفنار، و بفضل ثروتهم و براعتهم اعتمدت عليهم السلطات العثمانية في الاتصال بالدول الغربية فتبوؤوا مركزاً رفيعاً في الدولة "و نخلص من ذلك إلى أن الحكم العثماني كان أحسن من سابقه بالنسبة لليونانيين" لأن العثمانيين كانوا أفضل من الطغاة البيزنطيين، حيث كانوا بوجه عام جادين و أمناء و مستقيمين، و كانت حيويتهم في تسيير شئون الدولة "أعجوبة العالم"، فقد كانت حكومتهم قوية و مستقيمة، و سياستها المالية معقولة، مع سيادة الأمن و النظام، "و من المسلم به أن الإمبراطورية العثمانية كانت طيلة القرن الذي تلا سقوط القسطنطينية تحظى بحكم أفضل مما ترزح تحته معظم أوروبا المسيحية، كما أنها كانت أكثر من أوروبا رخاء، على حين أن رعاياها –مسلمين و مسيحيين- كانوا يتمتعون بقسط من الحرية الشخصية و من نتاج كدهم يفوق ذلك الذي ينعم به رعايا الدول الغربية"، و رغم تعرض بعض سكان البلقان للظلم فإن اليونانيين المتعلمين من سكان المدن الكبرى، لاسيما الفناريون، كانوا أسعد حالاً، فقد اتجه العثمانيون إلى مصالحتهم بعد الفتح فحصلوا على ثقة الحكام بالتدريج، و أحرزوا نفوذاً في الكهنوت و الأدب و التعليم و القانون المدني، و سمح العثمانيون للمحاكم الدينية بالفصل في الأحوال الشخصية المتعلقة بالمسيحيين، و في النهاية أحرز الفناريون نفوذاً سياسياً، فكان تراجمة الباب العالي و الأسطول و حكام رومانيا من الفناريين[xvi].

و يقول المستشرق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام": "و لم تكد حاضرة الإمبراطورية الشرقية القديمة تسقط في أيدي العثمانيين سنة 1453، حتى توطدت العلاقات بين الحكومة الإسلامية و الكنيسة المسيحية بصفة قاطعة و على أساس ثابت"، و قد حرم السلطان محمد الفاتح اضطهاد المسيحيين تحريماً قاطعاً، و زاد من توقير رئيس الكنيسة عما كان يلقاه في زمن الأباطرة المسيحيين، و لقي الأساقفة الإغريق رعاية بالغة جعلتهم في أسقفياتهم كما لو كانوا عمالاً من الأتراك على الأهالي الأرثوذكس، و نتيجة للحماية التي حصل عليها الإغريق في الحياة و المال بالإضافة إلى التسامح، صاروا يسرعون في الموافقة على تفضيل سيادة السلطان على أي سلطة مسيحية، و كان الفتح العثماني يلقى الترحيب من جانب اليونانيين و يعد تخليصاً من حكم الفرنجة و البنادقة الظالم المستبد الذي حول الشعب إلى حالة عبودية يرثى لها، و مع كون الأتراك غرباء فقد آثر اليونانيون التركي الكافر على الكاثوليك الهراطقة "إيثاراً مطلقاً"، و بعد فتح القسطنطينية بقرن وجدنا مجموعة من الحكام الصالحين استطاعوا بالإدارة الحازمة نشر الأمن و النظام في كافة المقاطعات، و تنظيم الشئون المدنية و القضائية بطريقة رغم أنها لم تحقق المساواة التامة بين المسلمين و المسيحيين فقد جعلت اليونانيين "أحسن حالاً بكثير مما كانوا عليه من قبل"، كما كانت الولايات التركية "أحسن حكماً و أكثر رخاء من معظم جهات أوروبا المسيحية"، و كان الجمهور المسيحي العامل في الزراعة ينعم بحرية و بنصيب من عمله في ظل حكومة السلطان أكثر ممن يعيشون في ظل كثير من الحكام المسيحيين في نفس الزمن، و ازدهرت كثير من المدن الكبرى ازدهاراً كبيراً بعدما خلصها الفتح العثماني من الطغيان البيزنطي، و اضطرت الدول الأجنبية إلى فتح موانئها للتجار اليونانيين عندما أصبحوا يبحرون في ظل الراية العثمانية، فحصلوا على احترام و تقدير كان الكاثوليك يرفضون منحه للكنيسة الأرثوذكسية، و حتى في إيطاليا كان هناك من "يتطلعون بشوق عظيم إلى الترك لعلهم يحظون كما حظي رعاياهم من قبل بالحرية و التسامح اللذين يئسوا من التمتع بهما في ظل أية حكومة مسيحية".

و كانت التجاوزات على العدالة ضئيلة في القرنين الأولين، و حتى في زمن التراجع لم تكن معاناة المسيحيين تفوق معاناة المسلمين، و لم تقع التجاوزات نتيجة سطوة السلطة المركزية، فقد كان سلطانها الفعلي ضئيلاً على أرجاء الدولة العثمانية، و إن الذين اعتادوا على الحديث عن "الرجل المريض" في العصور الأخيرة، يصعب أن يدركوا المشاعر التي ولدتها الدولة العثمانية في نهضتها الأولى نتيجة التفوق الأدبي للعثمانيين في ذلك الزمن، إذ "بينما كان في المجتمع المسيحي في ذلك الحين ما يدعو إلى الصد و النفور، كان في أخلاق الترك ما يبعث على التقريب و الاجتذاب، و كان تفوق العثمانيين في عصورهم الأولى إذا ما قورن بانحطاط زعماء الكنيسة المسيحية و معلميها، لا بد أن يؤثر بطبيعة الحال في العقول الزاهدة التي سئمت الأطماع المنبعثة من الأنانية"، و كتب كثير من الكتاب المسيحيين الذين لا يحبون العثمانيين، المدح و الثناء على فضائلهم التي أبهرت معاصيرهم حتى في المجال العسكري حين كان سكان البلاد التي يمر بها الجيش العثماني لا يشكون من الخسارة أو سوء المعاملة.

"و أصبح الدين الإسلامي في ذلك الحين الملجأ الطبيعي لأفراد الكنيسة الشرقية"، رغم أن العثمانيين عموماً لم يجبروا أحداً على اعتناق الإسلام، و كان جمهور المهتدين "من العلماء على اختلاف طبقاتهم و مناصبهم و حالاتهم"، و ليسوا من بسطاء الناس، و يقال إن المهتدين الجدد كانوا معظم أصحاب الجاه و السلطة في القصر السلطاني حتى قبل فتح القسطنطينية، و كسبت المعاملة الإنسانية كثيراً من الداخلين في الإسلام في الوقت الذي أخفقت فيه وسائل العنف، و هي ملاحظة تؤكد معلومات الكاتب عن كون التحول إلى الإسلام لم يتم بمجرد الانتصار العسكري (مسألة هامة للرد على دعاوى الانتشار بالسيف) و تساءل كثير من الشعوب المسيحية في ظل الحكم العثماني كيف انتشر الإسلام بهذه الصورة العجيبة لو كان أساسه باطلاً؟[xviii]، و لكننا نجد مرجعاً لا يقل قوة هو "تاريخ الحضارات العام" الذي وضعه أساتذة من السوربون يقول إن الدولة في عهد الفاتح لم تكن قد بلغت بعد العهد الذي كان السلطان فيه يلازم دار الحريم قط "فالفاتح و القائد المظفر الذي كانه محمد الثاني، لم يُعرف عنه مغامرات عاطفية"[xx]، و سواء صحت الرواية الأولى عن الفتح العنيف أم الثانية عن الفتح المنضبط، فالجميع متفقون على حسن العاقبة خلافاً لسوء عاقبة الغزو الصليبي الفرنجي، يقول المؤرخ دونالد كواترت: " شرع محمد بعد هذا الفتح المبين بإعادة المدينة و تجديدها لاستعادة أمجادها الغابرة، ففي سنة 1478 ارتفع عدد سكان المدينة من 30 ألفاً إلى 70 ألف نسمة"[xxii].

أما المؤرخ فيليب مانسل فيصور دخول السلطان محمد الفاتح مدينة القسطنطينية وسط طريق من الموت، و أحل المدينة للسلب و النهب، و ينقل عن مراقب من البندقية أن الدم تدفق خلال الشوارع مثل مياه المطر بعد عاصفة و طفت الجثث فوق الأنهار، و يقول إن الجنود العثمانيين أُعطوا حق استعباد حوالي ثلاثين ألفاً من أهل المدينة، و أُعمل السيف في آلاف غيرهم"، و يتبع ذلك بالقول إن السلطان الفاتح و خلفاءه نظروا إلى أنفسهم على أنهم ورثة الإمبراطورية الرومانية و الأباطرة الحقيقيون الوحيدون في أوروبا، و كما أوجد الهابسبورغ فيينا كذلك أوجد آل عثمان القسطنطينية التي ضمت لاحقاً أكثر من سبعين قومية، فغدت التعددية جوهرها، و بعد الفتح جمع السلطان فيها أناساً من كل أرجاء آسيا و أوروبا، و نقلهم بكل عناية و سرعة، و كانوا من كل الأمم، خاصة المسيحيين، لأن ولعه كان شديداً بالمدينة و بتأهيلها و إعادة ازدهارها، و في السنوات التالية للفتح ظلت المدينة خراباً، فاستورد السلطان الأتراك و اليونانيين، و مع اتساع الدولة "نقل الفاتح يونانيين أكثر و أكثر بالقوة إلى القسطنطينية و وطن مزارعين عبيداً يونانيين تحرروا إبان القرن التالي، في القرى خارج المدينة لضمان تزويدها بالمؤن الغذائية..لم تكن هناك حواجز بين اليونانيين و الأتراك الذين عاشوا معاً"، و كان الفاتح الحاكم الأكثر استنارة في زمانه و من علامات أصالته الفكرية أنه أعاد البطريركية المسكونية التي كانت تترأس الكنيسة الأرثوذكسية منذ القرن الرابع رغم قدرته على ترك الكرسي شاغراً حتى يختفي كما حدث في كثير من الأسقفيات الأخرى في الأناضول، فعين بطريركاً و كاهناً أعلى للمسيحيين و أعطاه حكم الكنيسة و سلطة لا تقل عما كان لأسلافه في عهد الأباطرة بالإضافة إلى حقوق و امتيازات أخرى كثيرة، و نقل البطريرك مقره على منطقة الفنار التي كانت منطقة يونانية بعدما وُطن فيها الكثير من الأسرى اليونانيين، كما جلب السلطان الأرمن الذين كانوا متميزين في الملكية و الثروة و المعرفة التقنية و التجارة و الكفاءات الأخرى، كما جلب الإيطاليين من المدن المتفرقة، و اليهود الذين كان تاريخهم في القسطنطينية استثناء سعيداً في التاريخ اليهودي وسط بحر المآسي حيث المذابح و الغيتو و محاكم التفتيش الأوروبية


قراءة 2951 مرات آخر تعديل على الأحد, 15 نيسان/أبريل 2018 09:45

أضف تعليق


كود امني
تحديث