قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الإثنين, 16 تشرين2/نوفمبر 2020 15:51

أحوال الفلاحين العثمانيين

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(2 أصوات)

تحدث الكثير من الأدبيات عن بؤس حياة الفلاح في العصر العثماني و الضرائب الباهظة التي كانت تثقل كاهله، و لرؤية الأمر بصورة واقعية بعيداً عن التمجيد أو الانتقاص المخلين نطالع ما قاله المؤرخان جب وبوون في كتابهما النفيس “المجتمع الإسلامي و الغرب” في هذا الموضوع، بعدما شرعا في دراسة العصر العثماني بآراء مسبقة ما لبثت أن تبدلت “تبديلاً تاماً” كما يصرحان بنفسيهما بعد اطلاعهما على وثائق ذلك العصر:
في الأناضول و أوروبا العثمانية “كانت حقوق الفلاحين و واجباتهم متوازنة توازناً جيداً” ص 64.
وقع فقد الحقوق عند عدم الوفاء بالواجبات، إذ كانت حرية العمل ضيقة جداً، و كان الاقتصاد المحلي مكتفياً بذاته و يكاد يستغني عن الأموال، و كان يتم تخطي الميراث بطريقة غير شرعية لو تعرض بقاء الحقول للخطر، و لكن هذه الممارسة كانت قليلة الحدوث، و كان وجود ظاهرة الملك الخاص تعطي الفلاحين قدراً من الاستقلال عن مالك الأرض، و بشكل عام كان الفلاحون تحت رحمة الملاك رغم اللوائح الكثيرة التي تحد من سلطتهم، و كان السباهية أكثر الملاك ارتباطاً بالفلاحين، و قد وجدت عملية الانتقال الطبقي بين الطائفتين.
“و هكذا يبدو أن الدولة كانت تهدف إلى أن تخلع على السباهية و غيرهم من شاغلي الإقطاعات سلطات تكفي لضمان تمتعهم بالموارد التي تقدمها جهود الرعايا- و لكن لا شيء أكثر من ذلك. و الواقع أن النظام الذي اتبعته كان يتسم بحسن التوازن فيما يتعلق بالحقوق و الواجبات التي خلعها و فرضها على كل من شاغلي الإقطاعات و الفلاحين. و لكن كان من غير الممكن استدامة توازنه إلا بالإشراف الجدي من جانب الحكومة المركزية على شاغلي الإقطاعات. و لقد رأينا أن هذا الإشراف الجدي لم يكن فقط يخف باطراد منذ نهاية القرن السادس عشر، حتى تلاشى في مناطق كثيرة في القرن الثامن عشر، بل إن النظام الإقطاعي بأسره قد فسد بسبب التعديلات التي لجأت إليها الحكومة بسبب متاعبها المالية المستمرة” ص 73
في زمن ضعف الدولة ساءت الأحوال في القرن السابع عشر، و لكن الأمر سار في تحسن في القرن الثامن عشر فتحسنت أحوال الفلاحين نتيجة إدخال نظام الالتزام مدى الحياة حيث أصبح الملتزمون يتوخون الحذر في مطالبهم لأنهم وجدوا أن رخاءهم متوقف على رخاء الفلاحين، و كانت مصلحتهم في محصول جيد دفعتهم إلى أن يضربوا إلى حد ما على أيدي من يقومون بأعمال الابتزاز من نوابهم، و كان مسلك الملاك في هذا النظام أبوياً بوجه عام، و لكن ضعف قبضة الحكومة أدى بالتدريج إلى “قتل بطيء و مطرد للأوز سيء الحظ الذي كان يضع بيض الذهب”.
في الولايات العربية “كان وضع الفلاحين إزاء حائزي الأراضي مشابهاً لوضع الرعايا في الرومللي و الأناضول” ص 88، و هي إشارة هامة تتعلق بتشابه الأوضاع العامة في الدولة العثمانية و عدم استغلال مركز لأطراف، و عند الانتقال من التعميم إلى التفاصيل نجد الاختلافات بين الولايات بل بين المقاطعات في الولاية الواحدة، ص 89.
“كانت حقوق و واجبات الفلاح المصري هي ذاتها تقريباً نفس حقوق و واجبات الرعايا الآخرين” ص 90.
“يبدو أن الفلاح المصري كان يستطيع نقل ملكية أرضه مؤقتاً، برغم أنه لم يكن حر التصرف فيها، كما كان حراً في اختيار الحاصلات التي يزرعها دون تدخل من جانب الملتزم…. و من ناحية أخرى لا يمكن أن يوجد شك في كونه مرتبطاً بالأرض، و ذلك برغم أن أي نظام يقوم على رق الأرض مناف لأحكام الشريعة فيما يتعلق بالزراع المسلمين… يبدو أن نظام رقيق الأرض في مصر كان يقوم على عادة قديمة، ثم أخذه العثمانيون عن هذا النموذج بمحافظتهم على الوضع الراهن” ص 90-91.
لم تكن الفوائد التي يجنيها صاحب الأرض كافية للحفاظ على نظام أراضي الوسية لولا فائدته من حيث حيلولته دون تضارب المصالح بين الطرفين، ص 92.
“كانت كل قرية وحدة مكتفية بذاتها، و كانت تحكم حياتها اليومية مجموعة من الطرائق التقليدية، و لم يكن الروتين يتأثر بالأحداث الخارجية، و كانت علاقتها بالحكومة تكاد تقتصر على دفع الضرائب المطلوبة، و كانت تحكم نفسها في الواقع إلا إذا تدخل الملتزمون أو الموظفون العسكريون الآخرون في شئونها” ص 94.
“كان من الممكن أن يصبح الملّاك أجراء، و أن يصبح الأجراء ملّاكاً- إلا أن انتقال الأرض إلى الأغراب كان أمراً نادراً” ص 94.
لم تكن الضرائب التي قررها المشرعون العثمانيون ثقيلة في حد ذاتها و لكن مطالب القائمين على الشئون الإدارية و فسادهم كان يثقل كاهل الفلاح.
إن انعدام الصورة الزاهية للحياة في القرية في أي ولاية عثمانية و اتفاق الكتابات الأوروبية و الشرقية على بؤس سكان القرى لا يعني بتاتاً أن وضعهم كان لا يمكن احتماله أو أنه كان خالياً من ضمانات الحياة و الأملاك التي تؤكدها المصادر بوجه عام، و رغم الآثار الضارة لنظام الالتزام فإن العلاقة بين الفلاح و صاحب الأرض كانت ملطفة بما بينهما من فهم متبادل لعلاقاتهما، و يؤكد الجبرتي ذلك بإشارته إلى حرص المالك على راحة فلاحيه و استقرارهم في وطنهم ليحصل منهم المطلوب من المال و ما يقتاتون به هم و عيالهم.
يؤكد المؤرخان جب و بوون أن أهم أوجه النقد التي توجه إلى الإدارة العثمانية الزراعية هي سلبية و ليست إيجابية، أي أن قصورها جاء من عدم تدخلها و ليس من ظلمها، و هذه صورة معاكسة للأدبيات الاستشراقية و توابعها التي صورت حكماً مركزياً يتحكم في دبيب النمل، و يبدو أن حسن نية الحكومة الظاهر في قوانينها الرادعة الموضوعة في مؤلفات الإدارة العامة، كان يشله الضعف و العجز عن منع تعديات الموظفين و إهمال الأعمال العامة اللازمة للرخاء الزراعي، و ترك الأمور تسير وحدها ، و لكن بفضل ما كان للعادات المقررة منذ القدم من سطوة متزايدة، استدام النظام دون أن يؤدي إلى إيقاع الفلاحين في متاعب حقيقية مادامت الحكومة المركزية تفرض كلمتها على شاغلي الإقطاعات و السلطات المحلية و هو أمر تلاشى تدريجياً في منتصف القرن الثامن عشر إلى نهايته.
و عند وضع حالة الفلاحين في مجمل الصورة العربية في العهد العثماني يقول المؤرخان إن تنظيم البلاد العربية بعد الفتح العثماني يجب ألا يقوّم وفق مبادئ أوروبا في العصور اللاحقة، و إن غرضه كان المحافظة على وضع هذه البلاد كما كانت قبل مجيء العثمانيين، و أن هذا النظام كان عملياً بشكل واضح و ليس قاسياً و لا ظالماً، و كان السلاطين أبعد ما يكونون عن إثقال كاهل رعاياهم لقناعتهم بأن قلة الضرائب و بساطة الإدارة في صالح الخزانة و الشعب، و أن الدول العثمانية تمسكت بصرامة بمبادئ الشريعة و تعاليمها و كانت تتوخى المحافظة على مستوى رفيع من العدالة، و إن إجراءاتها كانت تفوق غيرها إيجابية و صلاحية، و كانت القيود الموضوعة على الإدارة المباشرة عديدة.
في مصر ركن السلاطين العثمانيون إلى استمرار السيطرة المملوكية القديمة، و باستثناء أحداث قليلة الأهمية، يتضح أن الإدارة العامة و المالية كانتا نزيهتين لدرجة معقولة و أن الزراع كانوا أقل عرضة للطغيان منهم في النظام السابق أو اللاحق، فالحكومة المركزية لم تكن عديمة الاكتراث بواجباتها إزاء الرعايا، و تمخضت الشكاوى من سوء المعاملة على الإيقاف السريع للحكام المخالفين للقانون، و كانت الإجراءات التي تحطم الاستقرار الاقتصادي في المقاطعات تعاقب بقسوة.
لم تكن الإدارة التركية-المملوكية في مصر بأي حال من الأحوال صورة مجسمة للطغيان القائم على النزوات و المتحلل من المسئولية مما لا نزال ندينه حتى الآن في أماكن عديدة، و في أواسط القرن الثامن عشر كانت مصر قد عاشت لأكثر من خمسة قرون تحت النظام المملوكي و كانت ما تزال أبعد ما تكون عن الانحدار من جديد إلى مستوى الفوضى، و رغم اضمحلال مستواها الاقتصادي في أثناء هذه القرون الخمسة لأسباب خارجة عنها مثل اكتشاف رأس الرجاء الصالح، فإنه لولا الفتح العثماني لربما وقع الانهيار قبل ذلك بكثير، و قد ضمن فرض السيادة العثمانية فترة من الاستقرار النسبي لسكان الولايات العربية حتى بداية القرن الثامن عشر على الأقل بعد مصائب أواخر المماليك و التيموريين و التركمان لأن عبء الضرائب الباهظة خف، و استدام نظام إدارة منتظم لدرجة معقولة، و كان العيب الحقيقي في الحكم العثماني استقراره لفترة طويلة جداً فسحت المجال لزحف الفساد الذي يعدّل بقيام أسر حاكمة محلية جديدة تقوم بعدد من الإصلاحات و تعيد إلى النظام حيويته.
لم تكن الأرستقراطية التركية الحاكمة ظاهرة جديدة في مصر و آسيا العربية، و لم يؤد الفتح العثماني إلى طبع الأراضي العربية بالطابع العثماني، بل على العكس من ذلك نجد أن الحاميات التركية أو البلقانية كانت تتزاوج مع السكان العرب و تنسى لغتها التركية مع مرور الزمن، و من المشكوك فيه أن اللغة التركية قد انتشرت خارج صفوف كبار الموظفين، و كان تدخل الجهاز البيروقراطي يحمي الفئات الشعبية من الزراع و الصناع و التجار، من تدخل الجهاز العسكري في نشاطها و تنظيمها، و كان المجتمع الكبير يتكون من عدد كبير من الهيئات الاجتماعية الصغيرة التي تحكم نفسها بنفسها و تستقل استقلالاً ذاتياً في حياتها الدينية و الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية و تكاد تكفي نفسها بنفسها.
من المهم ألا نحاسب القرون السالفة وفق ميزان أوروبا في القرن التاسع عشر، لأن طبيعة المحكومين قديماً كانت تتقبل صوراً من السلوك صارت مرفوضة فيما بعد، و لهذا يجب أن نبحث عن طبيعة القيم التي سادت في تلك القرون لنستطيع وزن أنظمة الحكم التي سادت فيها بميزانها، و هذا ما أدى إغفاله بالرحالة الأوروبيين إلى الخروج بملاحظات سلبية عند احتكاكهم بالمجتمع الإسلامي إضافة إلى كونهم راقبوه في مرحلة تحلله في النصف الثاني من القرن الثامن عشر[1].
لو اتبعنا مسار المؤرخين و نصيحتهم فإننا لن نحاسب العصر العثماني في القرون السالفة وفق ميزان أوروبا في القرن التاسع عشر، و هو على كل حال ميزان أرهق الآخرين بالتكاليف الذي فرضها عليهم ابتغاء رفاهية أوروبا، و مازال العالم يئن تحت وطأته و يحتكر الغرب موارد العالم تحقيقاً لنفس الهدف، أي أنه ليس من العدل تعميم هذا الميزان إلا لو حققته أمة بمواردها و على حسابها، و هو أمر لم يتحقق حتى اليوم، و لهذا علينا قياس الأحداث بموازين عصورها و ظروفها، و حينئذ سنرى صورة أكثر وضوحاً و إشراقاً مقارنة بالآخرين، و ألا نلوم أمة كانت تعيش على مواردها لهبوط مستوى المعيشة في مراحل تاريخية فيها عن أمم استغلت غيرها فيما بعد، و إذا كان انتزاع الموارد من الفلاح المحلي بالقوة في مراحل تاريخية ظاهرة سلبية فإنها لا تعالج بدواء من أمم مارست القوة الأكثر قسوة في انتزاع الموارد ذاتها من فلاحي و صناع الأمم الأخرى.
الإشارات الهامة في الموضوع: أن الدولة العثمانية أوقفت التدهور السابق، و أنها كانت أفضل من غيرها سابقاً و لاحقاً، و أن مواطنيها عاشوا وفقاً لنفس الظروف و لم تكن منطقة مفضلة على غيرها أو تعيش على حساب الآخرين، و السؤال الآن: ماذا فعل منتقدو العهد العثماني لفلاحي دولهم “العصرية” و”التقدمية” و”الليبرالية”؟[2]، أم أن الباشا العثماني مازال ينهب خيرات بلادهم و يمنعهم بسوطه من قبره عن تحقيق التنمية الموعودة؟

في مجال الزراعة يصور المؤرخ روجر أوين جوانب من الزراعة العثمانية و يدحض فكرة الحالة المزرية التي عاش فيها الفلاح العثماني و التي كررها كثير من الكتاب، و تساءل: “لو كان الأمر كما يقولون، لكان من الصعوبة المطلقة بمكان أن نفسر كيف استمرت ممارسة الزراعة، ناهيك عن إنتاج ما يكفي من الطعام للمدن المتضخمة، و ما يكفي من المواد للصناعة الحرفية المحلية، و ما يكفي من الإنتاج الزائد للمحافظة على مستوى معين من التصدير”[3]، و يصور جانباً من الزراعة في كل من الأناضول التي “كان الجزء الأكبر منها يصدر إلى أوروبا أو إلى الولايات العربية من الإمبراطورية العثمانية “[4]، و سوريا حيث “كان القمح يزرع في كل مكان”، إضافة إلى محاصيل أخرى حياتية و تجارية و ما نشأ عنها من تجارة بينية بين أجزاء الدولة إضافة إلى التجارة مع الخارج[5].
  و نستفيد من باموك أن الدولة العثمانية ظلت متوازنة بين صادراتها و وارداتها من الحبوب إلى أن زاد استيرادها على تصديرها قبل الحرب الكبرى الأولى (1914-1918)، و ذلك لأسباب ليس من ضمنها إهمال الزراعة بل نتيجة شن الحروب ضدها و اقتطاع أجزاء حيوية منها بالإضافة إلى الآثار السيئة لمعاهدات التجارة الحرة [6].
في حديثه عن خصائص الحكم العثماني في العصر الأول (من الفتح في القرن 16 إلى القرن 19) في البلاد العربية يقول الدكتور محمد أنيس إن ” نظام الحكم العثماني في الشرق الأوسط بصفة عامة كان عملياً للغاية و لم يكن ظالماً أو عنيفاً… و كانت القاعدة أن كل إيالة تعيش على دخلها الخاص و تدفع إلى خزانة الدولة قدراً معقولاً جداً من الجزية و لذلك لم يكن التشريع الضرائبي العثماني مرهقاً لرعايا الدولة. فالسلاطين العثمانيون أدركوا أن الضرائب البسيطة و أساليب الإدارة البسيطة في صالح كل من الحكام و المحكومين ” [7]، و عند مقارنة الضرائب المملوكية و الإيرانية بالضرائب العثمانية نجد أن الضرائب العثمانية كانت ” أخف وطأة ” لسبب واضح هو قلـة الحــروب في الشرق الأدنــى بعدمــا حكمـــت الدولة العثمانية المنطقة بأسرها [8].
و عند حديثه عن المساوئ التي ارتكبها الحكم العثماني كالنزاع بين الأحزاب و تعدي الهيئات المحلية على الحكومة المركزية قال مستدركاً: “و لكن رغم هذا فإن الإدارة العثمانية المالية كانت أمينة إلى حد معقول، كما أن الفلاحين لم يعانوا ما عانوه من حكم دول قبل و بعد العثمانيين”[9].
و رغم حركات التمرد المسلح  و جشع الباشوات و جامعي الضرائب و تمرد بعض القبائل و انتشار المجاعات و الأوبئة في حلب و دمشق “فليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأن التنظيم الإداري في سورية قد تعرض بشكل جدي للانهيار قبل عام 1750 ” [10]، و عند حديثه عن بقية المساوئ كالمحسوبية و الرشوة و بيع الوظائف قال إن مجتمعات الشرق الأدنى كانت على شفا الانهيار قبل دخول العثمانيين مباشرة “إلا أن دخول العثمانيين أخّر هذا الانهيار، فقد سار العثمانيون على نظام ضرائبي مخفف فأنقذوا الفلاحين و التجار و بسطوا حالة من الأمن و الاستقرار تمتع بها الشرق الأدنى حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر “[11]، و يقول برنارد لويس إنه في البلاد العربية “جلب الحكم العثماني السلام و الأمن بعد الكابوس العنيف للحكم المملوكي الأخير”[12].
و يعيد كواترت النظر في الرؤية السائدة عن شيوع الملكيات الكبيرة في آخر عهد الدولة العثمانية،  و يبين أنه رغم أن الضياع الكبيرة صارت أكثر انتشاراً في ذلك العهد، فإن الحيازات الصغيرة سادت ” في كل الأراضي العثمانية ” [13]، و يقدر نسبتها بـ 82% من الأراضي العثمانية الزراعية في الفترة الممتدة بين 1859م إلى 1900م [14]، كما يسرد دور الدولة في محاربة نفوذ الأعيان [15] و تفضيلها صغار المزارعين عليهم [16] و إعاقتها لتكوين الضياع الكبيرة [17]، و ينفي عنها ما كان شائعاً بين دول عاصرتها من منع استخدام الأرض على جماعات قومية أو دينية محددة، إذ فتحت أبواب الزراعة لجميعه الرعايا “و نجد مزارعين من الألبان و العرب و الشراكسة و الأرمن و الدروز و السلاف و الأتراك و اليهود. و قد اختلفت الخلفية الإثنية و الدينية لكبار ملاكي الأرض اختلافاً بيّناً”[18].
هذا بالإضافة إلى انتشار الملكيات الصغيرة و المتوسطة في الدولة [19]، و التي كانت تكوّن مصلحة لها لأنها قاعدتها الضريبية [20]. بالإضافة إلى خطورة تنامي قوة الملاك و كبار التُجار في مواجهة الحكومة المركزية و هو ما أدى إلى استمرار معارضتها الاندماج في السوق الغربية [21]
و يذهب المؤرخ السوفييتي نيقولاي إيفانوف إلى ما هو أبعد من ذلك بالقول إن سمعة العثمانيين كانت “في الأوج عند مطالع القرن السادس عشر، ففي الشرق كما في الغرب على حد سواء ازداد الإعجاب بالعثمانيين و لاسيما في الأوساط الشعبية المضطَهَدة و المستغَلة”، و ينقل عن المؤرخ الروسي كريمسكي من بداية القرن العشرين قوله إنه في البلقان و المجر و أوروبا الغربية و روسيا “برزت مجموعات كبيرة من الناس، كانت بأفكارها و مشاعرها، و بدرجات متفاوتة، لا تخاف غزوات العثمانيين و فتوحاتهم بل تدعو إليها صراحة”، و أما في العالم العربي “فقد وقف الفلاحون إلى جانب العثمانيين”، و مع أن هذا التعاطف الشعبي استند إلى المبالغة في تصور الكمال لدى المجتمع العثماني فإنه “في الواقع، لم تكن النظم العثمانية الاجتماعية الطوباوية (أي المثالية) مجرد سفسطة كلامية، بل كانت أساساً للعمل”، و على أساس الشعارات العثمانية التي تمكنت “و بقدرة سحرية من استقطاب مشاعر الفلاحين و جماهير سكان المدن…بنيت على قاعدتها النظم الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية للباب العالي بخاصة قراءة فلاحية فريدة من نوعها للمبادئ الأساسية للإسلام و أفكاره عن المساواة، و الأخوة بين الجميع، و العدالة الاجتماعية، و الوفاق، و العمل كمصدر وحيد لتلبية الحاجات المادية للإنسان، و إدانة مظاهر الترف و الإثراء، و ضرورة التواضع في العيش و الابتعاد عن الإسراف، و تحاشي استغلال الإنسان للإنسان”، و يؤرخ ذلك إلى مطلع القرن السابع عشر[22].
و يؤيد كلام برنارد لويس ما قاله إيفانوف و يتحدث عن الهجرة بصفتها اقتراعاً بالأقدام و كانت وجهتها الدولة العثمانية في القرنين الخامس عشر و السادس عشر، أي من الغرب إلى الشرق و ليس العكس الذي يحدث في أيامنا، و لم يكن اللاجئون المسلمون و اليهود هم وحدهم المستفيدين، بل استفاد المسيحيون من أصحاب الانشقاقات الدينية و السياسية، و لم يكن كل أولئك أيضاً هم المستفيدين الوحيدين من الحكم العثماني “إذ أن الفلاحين في المناطق التي غزيت قد تمتعوا، بدورهم، بتحسن كبير في أوضاعهم، فقد جلبت الحكومة الامبراطورية العثمانية الوحدة و الأمن مكان الصراع و الفوضى، كما ترتبت على الغزو نتائج اجتماعية و اقتصادية هامة”،  و يقول إن الإمبراطورية العثمانية كانت ذات سحر قوي إضافة إلى كونها عدواً خطراً “فقد كان المستاؤون و الطموحون ينجذبون إليها بالفرص التي تتاح إليهم في ظل التسامح العثماني، و كان الفلاحون المسحوقون (في أوروبا) يتطلعون بأمل إلى أعداء أسيادهم” و حتى القرن التاسع عشر “كان الأوروبيون الذين يزورون البلقان يعلقون على أوضاع فلاحي البلقان الحسنة و على رضاهم عن هذه الأوضاع، و كانوا يجدونها أفضل من الأوضاع السائدة في بعض أنحاء أوروبا المسيحية، و كان الفرق أوضح بكثير في القرنين الخامس عشر و السادس عشر”…و يقارن بين الحكم العثماني و الحكم الأوروبي بقوله: “و عندما انتهى الحكم العثماني في أوروبا، كانت الأمم المسيحية التي حكمها العثمانيون عدة قرون لا تزال هناك، بلغاتها و ثقافاتها و دياناتها و حتى إلى حد ما بمؤسساتها، كل هذه الأمور بقيت سليمة و جاهزة لاستئناف وجودها الوطني المستقل، أما إسبانيا و صقلية فليس فيهما مسلمون أو ناطقون باللغة العربية”[23] (و القصد أن غير المسلمين عند انتصارهم لم يكن سلوكهم كالمسلمين الذين حافظوا على بقاء رعاياهم غير المسلمين)، و يستنتج كواترت من تتبع الحالة الاقتصادية في البلقان عشية انفصال بلاده عن الدولة العثمانية و تردي أحوال هذه البلاد بعد انفصالها، أننا لا نستطيع أن نعزي ظهور الحركات الانفصالية في البلقان إلى تردي أحواله الاقتصادية في ظل العثمانيين[24].
و يؤكد أندري كلو ما سبق بالقول إن “دهاء العثمانيين كان يتمثل في حكمهم الناس بالعدل و الاعتدال”، و إن أقنان أوروبا لم يكونوا يخفون أحياناً ترحيبهم برايات النبي (عليه الصلاة و السلام)، لأن “حال الفلاح في الإمبراطورية العثمانية أحسن من حال سكان الأرياف في أوروبا، و يشهد على ذلك أولئك الغلاظ الشداد في بلاد النصارى الذين يهربون إلى دار الإسلام بعد إحراق الدور و الضيعات، انتقاماً من ظلم سيدهم، و تشهد على ذلك حفاوة الأهالي عند اقتراب جند السلطان”، و في المجر كان القرويون في بؤس شديد دفع كثيراً منهم لانتظار الأتراك و عدهم محررين، و إن الاحتلال التركي يسّر على السكان في البلقان و بلغاريا ما كانوا يلاقونه من جبروت الإقطاعيين البلغار و الصرب و ظلم الهيئات الدينية[25]، و في تقديمه لكتاب كلو عن السلطان سليمان القانوني يقول الأستاذ البشير بن سلامة إن السلطنة العثمانية اشتهرت بالنزوع إلى العدل و كان شعار السلاطين هو: “لا دولة بدون جيش، و لا جيش بدون مال، و لا مال بدون رعايا راضين، و لا رعايا بدون عدل، إذ بدون عدل لا وجود للدولة”، فكان العدل قضية عملية محورية ترتبط بسيادة الدولة[26] و ليست مجرد شعار نظري.
و يؤكد بيري أندرسون أن الدولة العثمانية لم تحاول فرض الإسلام على المسيحيين في البلقان، و أن الفلاحين البلقانيين “وجدوا أنفسهم فجأة و قد تحرروا من الخضوع المهين و الاستغلال الأرستقراطي في ظل حكامهم المسيحيين، و انتقلوا إلى وضع اجتماعي كان في معظم النواحي أكثر راحة و حرية منه في أي مكان في أوروبا الشرقية آنذاك”، و أن الحكم العثماني قضى على طبقة النبلاء المحلية و أزال لعنة الحروب الأرستقراطية المتواصلة في الريف[27].
و يشير ستانفورد شو إلى نفس الحقيقة حيث يقول عن حروب السلطان مراد الثاني (1421-1451) إن اندفاع السلطان داخل أوروبا أفاد من التوترات الاجتماعية و الدينية و الاقتصادية التي كانت تمزق المجتمعات الواقعة في أراضي أعدائه، فقد قدم لفلاحي البلقان المطحونين ما يرقى للثورة الاجتماعية التي حررتهم من سادتهم الإقطاعيين، و قد أدت الصراعات على السلطة في السابق إلى القضاء على السلطة المركزية و تغول سلطات الإقطاعيين الذين أرهقوا أتباعهم بثقل الضرائب و العمل الإجباري، فلما وصل العثمانيون و أسسوا إدارتهم أصبحت الأرض كلها ملكاً للسلطان و تأسست رقابة مباشرة على الإقطاعيين و تم إلغاء الالتزامات المالية و العمل الإجباري و تم فرض ضريبة معقولة بدلاً مما سبق، و لهذا كانت الجماهير البلقانية فاترة العزيمة في دعم سادتها و الصليبيين ضد المسلمين [28].
●الفلاح الفلسطيني بين الاستقرار العثماني و الاقتلاع الصهيوني المدعوم من العالم الغربي: فوائد عن الحياة في القرية الفلسطينية من كتاب “كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل” للدكتور وليد الخالدي:
التعايش المشترك في كثير من قرى فلسطين التي جمعت أكثر من طائفة، لاسيما من المسلمين و المسيحيين، في القرية الواحدة، و قد نجد التعايش يقترب من المناصفة، و قد تميل الكفة لصالح العدد المسيحي، و قد يكون المسلمون ثلثين و المسيحيون ثلثاً، و قد يكون بأقلية مسيحية تبلغ العشر مع غالبية إسلامية تبلغ تسعة أعشار، و قد تكون الغالبية العظمى من المسلمين مع أفراد قلائل من المسيحيين.
عمّر و سكن بعض القرى الفلسطينية لاجئون من شرق و غرب أطراف الدولة العثمانية التي تعرضت للاحتلال الأجنبي، فنجد قرى معمرة بالشركس و أخرى بأهل البوسنة و غيرها بمهاجري الجزائر.
التعليم بدأ في العهد العثماني بكثير من المدارس الابتدائية في القرى قبل أن يقوم الانتداب بذلك، إذ تتردد هذه العبارة بكثرة تحت العديد من أسماء القرى: “كان في القرية مدرسة ابتدائية رسمية للبنين شيدتها الدولة العثمانية في سنة 1882” أو قبل ذلك “في سنة 1880” أو بعد ذلك “في سنة 1884” أو “في سنة 1885” أو “في سنة 1886” أو “في سنة 1887” أو “في سنة 1888” أو فيما بعد “1897” أو “1900”، و بعض القرى يذكر الكتاب مدارسها العثمانية بلا تاريخ، و تلك التواريخ المتتابعة تدل على نمو التعليم باطراد حتى و الدولة شمسها تميل للأفول.
حياة القرى اليومية كانت تسير بصورة طبيعية بدفع الضرائب للدولة عن المحاصيل المتنوعة التي تنتجها، و نجد هذه العبارة تتكرر هي أو مثلها في عشرات القرى: “و كانت تدفع الضرائب على عدد من الغلال كالقمح و الشعير و الزيتون، بالإضافة إلى عناصر أخرى من الإنتاج و المستغلات كالماعز و خلايا النحل و معصرة تستخدم لعصر الزيتون أو العنب”، و يجب أن نتذكر أن هذا الاستقرار امتد قروناً في ظل سيادة دولة لم تكن تتدخل في الحياة اليومية، و في هذا تقول الدكتورة نجلاء عز الدين: “و عندما انتقلت فلسطين و سائر سورية إلى الحكم العثماني في القرن السادس عشر، ظلت حياة الشعب سائرة على وتيرتها الأولى دون أن تتغير، وفقاً للتقاليد الموروثة. فبقيت اللغة العربية و الثقافة متماسكتين، و استمرت وحدة البلاد مع البلدان المحيطة بها. و كانت سلطة الأتراك ظاهرة في المدن الكبيرة فقط، أما في القرى فقد كانت وهمية ضئيلة، و عند نشوب الحرب العظمى الأولى لم تكن فلسطين مستعمرة، بل كانت ولاية تابعة للدولة العثمانية. و كانت تتمتع بقسط من الحكم الذاتي، أكبر مما أتيح لها فيما بعد، في عهد الانتداب الإنجليزي. فكانت ترسل ممثليها إلى مجلس المبعوثان في الآستانة. و لم تكن ثورة العرب على الأتراك أثناء الحرب ناجمة عن ضغط الحكم التركي، بقدر ما كانت منبثقة عن رغبة طبيعية قوية في الاستقلال و في العمل على بعث التراث العربي بحرية و انطلاق” [29]، و لا شك أن هذه الصورة الحقيقية تختلف عن صور المسلسلات التي تظهر العساكر الانكشارية تنهب القرى و تسلبها بكل وحشية كلما مر الجنود رائحين أو غادين، و غياب سطوة الدولة العثمانية كان خلافاً لوضع الهيمنة البريطانية بعده و التي قامت بإنجازات على الأرض الفلسطينية و لكن لصالح مشروع الوطن القومي اليهودي، و لهذا تميزت هذه الحقبة بشدة القمع الذي طال الفلسطيني عموماً و الفلاح خاصة، و لم تعمر السيادة البريطانية أكثر من ثلاثين عاماً انتهت بعدها إلى طريق مسدود و خلفها الاحتلال الصهيوني الذي اقتلع الشعب الفلسطيني من جذوره و لم يقتصر الأمر على عدم الاستقرار الذي ميز الحقبة البريطانية، و يلاحظ الدكتور وليد الخالدي أنه من بين قرى فلسطين المحتلة عام 1948، تم تدمير 418 قرية و تهجير سكانها الذين بلغوا حوالي 390 ألف نسمة هم أكثر من نصف اللاجئين الذين تركوا ديارهم في حرب النكبة، و هكذا تم تهجير مجتمع زراعي عميق الجذور، و نجت 100 قرية أخرى من التدمير و التهجير و لكن 80% من أراضي هذه القرى الناجية تمت مصادرتها لصالح الصهاينة، و قد لقي ما لا يقل عن 13 ألف فلسطيني حتفه في النكبة، و على الرغم من كون الفلسطينيين ضحية فما زال الغرب يكيل لهم تهم العنف و الإرهاب و العدوان، و يهلل للصهاينة نجاحهم في تجريد سكان الريف الفلسطيني و المدن الفلسطينية من ممتلكاتهم بصفته انتصاراً لجوهر الديمقراطية التي ما كان للصهيونية أن تنتصر دون انتهاكه، مع وجود بعض وخز الضمير بين الحين و الآخر [30]، بل إننا نجد من أبناء بلادنا من يبهرهم النموذج الصهيوني الذي اقتلع معظم الفلاحين الفلسطينيين و لا يعدون ذلك ضمن نقائصه الفاضحة في نفس الوقت الذي يعيبون فيه وضع الفلاح العثماني و مستوى المعيشة في الدولة العثمانية انتصاراً للنموذج الغربي في الوقت الذي يعترف فيه من المؤرخين الغربيين بما سبق ذكره و ما يلي تحت عنوان “الشرق فوق الغرب”:
“و من المثير أن الأبحاث الأخيرة تبين “عكس” ادعاء مركزية أوروبا المألوف، و أن مستوى المعيشة في تركيا العثمانية و نسب الرواتب الحقيقية لم تنخفض عن مثيلاتها في أوروبا في أي وقت قبل القرن التاسع عشر”[31].

♦و على فرض التسليم بكل ما يروى من سلبيات مع مبالغاتها حتى دون تمحيص علينا التدبر فيما يلي:
سؤال روجر أوين عن استحالة الاستمرارية لو كان السوء كما صوروه، و الحياة اليومية كما عرضتها أدبيات كثيرة مثل كتاب الدكتور وليد الخالدي عن القرى الفلسطينية قبل النكبة “كي لا ننسى” الذي فصل في أوضاع القرى الفلسطينية قبل تعرضها للنكبة سنة 1948 حيث نرى سير الحياة الاعتيادية التي قطعها المحتل الصهيوني ثم نرى بكل صلافة من يبكي على وضع الفلاح في زمن العثمانيين و يقبل بل يمدح الوجود الصهيوني الذي ألغى الحضور الفلاحي للشعب الفلسطيني، و بهذا يتبين أن القضية الفلاحية تستخدم مجرد ذريعة للجرح حين يلزم و يخمد خنجرها عند وجوب الإغضاء عنها.
إذا سلمنا بسوء وضع الفلاح في هذا العصر، فمتى كان وضعه حسناً و مقبولاً لدى الناقدين؟ و ما علاقة هذا الوضع المقبول بأوضاع عصره؟ و هل تحسن فيما بعد؟ أي هل صار في أي وقت وضعاً جيداً؟
إذا كان لم يتحسن إلى الآن و هو مظلوم “عبر العصور” فكيف نطالب عصراً تقدم على من سبقه و لحقه بالخروج عن مسار التاريخ؟
هناك دلائل إيجابية على مستوى وضعه النظري كما يقول المؤرخون عن التشريعات العثمانية التي استهدفت إنصافه فيصبح البحث الآن هو طريقة تفعيل هذه النظرية و البناء عليها ما دام التصميم الوحدوي سليماً نظرياً على عكس الأوضاع في بقية العصور.
الفلاح كان مظلوماً في بقية العصور التي حصلت على المديح و الإطراء (زمن الفراعنة الذي وصف بالأسطوري رغم تجبر الفرعون و ظلمه: إذا كنا لا نطالبه بالخروج عن زمنه فلماذا نطالب غيره؟، الحملة الفرنسية التي سفكت دماء المصريين فاحتفي بها شعلة التنوير، محمد علي الذي وصف برائد النهضة رغم قسوة عهده على الفلاح المصري الذي هربت أعداد كبيرة منه إلى الجوار الشامي الذي ثار بدوره على حكمه لما وصل إليه، و ورثته المستقلون الذين بنوا قناة السويس بدماء الفلاحين و وضعوا حياتهم رهينة لتحكم الدائنين الذين امتصوا دماءهم و عرقهم ثم وصفوا بحكام مصر الحديثة، الاحتلال البريطاني الذي وصف بأنه تقدم بمصر رغم أنها شهدت في زمنه توسع الملكيات الكبيرة في الأراضي التي استُغِل الفلاح فيها استغلالاً بشعاً لصالح طبقة الباشوات أعوان الاحتلال، حكم الدولة الوطنية المستقلة و زمن العسكر الذي طبق الإصلاح الزراعي أولاً ثم انقلب عليه و ألغاه و صار الفلاح فيه إلى اليوم في بؤس شديد مع بقية شرائح الشعب باستثناء طبقة المستفيدين منذ زمن الانفتاح)، فإذا كانت كل تلك العصور التي ظلم فيها الفلاح قد حصلت على تقدير و لو لجوانب أخرى فمن حق العصر العثماني أن يحصل على نصيبه المنصف من التقدير أيضاً، و في التجارب العالمية لم نر من يشطب تجربة الثورة الأمريكية التي اضطهدت الفلاح العبد الإفريقي، و لا من شطب الثورة الفرنسية التي اضطهدت فلاحي المستعمرات، و لا الثورة الصناعية في بريطانيا التي اضطهدت الطبقة العاملة و عمالة الأطفال و تسببت في استغلال و اضطهاد حرفيي و فلاحي المستعمرات، و لا التنمية الاستعمارية التي حفرت قناة السويس بدماء و أرواح عشرات الآلاف من الفلاحين، بل وجدنا كل تلك المظاهر تحظى بالتبجيل و التكريم لنتائجها الإيجابية الأخرى، فليس من الإنصاف جعل ظاهرة واحدة هي الفيصل في الحكم على مرحلة تاريخية ممتدة بالإغضاء عن سلبيات البعض و تضخيم سلبيات الآخرين مع وجود الإيجابيات العديدة ككل المجتمعات البشرية.
في أي مرحلة تقدم كجانب إيجابي سنرى جوانب سلبية أخرى ربما أكثر ضخامة، مما يعني أننا لن نحصل على الكمال، و إذا كانت السلبيات في نواح فلن يوافق المستفيدون الكثيرون من إيجابيات كثيرة على التعميم، و الدولة العثمانية قدمت جوانب إيجابية كثيرة لمصر خاصة (ذكرها كثير من المؤرخين لاسيما د. عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم الذي فصل وضع الفلاح أيضاً) و يجب وضعها في كامل الصورة دون الطلب إليها أن تكون إيجابية في كل النواحي أو في ناحية لم تتحسن إلى اليوم، مع أنها قدمت فيها إيجابيات كما يذكر المؤرخون (تحسن الوضع بعد الفتح العثماني إلى القرن السابع عشر، نصرة فلاحي شرق أوروبا و تحسين أوضاعهم، تقويم المؤرخ إيفانوف للبريق الفلاحي للعثمانيين، التنظيمات و القوانين الإيجابية التي انتهكها الإداريون المحليون).
فائدة وضع الصورة المتكاملة أنها تعطي الانطباع العادل و لهذا لم يتردد من ذكروا هذه الأوضاع الفلاحية بالتفصيل مع مجمل التاريخ العثماني مثل الدكتور عبد الرحيم وجب و بوون عن مدحها و نفي الافتراء عليها.
ليس من حق مرحلة لاحقة أن تلوم مرحلة سابقة في جانب لم تقم هي بتطويره، فإذا كان المنتقد غاضباً من ضرائب المماليك مثلاً فبأي حق يصمت عن بؤس هذا الزمن و كيف نصدق دعاواه و هو يشارك في اضطهاد فلاحي و فقراء وقته مبخراً للظلم و الظالمين.
ليس الهدف من البحث عودة الدولة العثمانية فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء بل الاعتبار بمزايا الوحدة التي قدمت الإيجابيات في كثير من المجالات و البناء عليها و ليس الوقوف عندها.

الهوامش

[1] -هاملتون جب و هارولد بوون، المجتمع الإسلامي والغرب، دار المعارف بمصر، 1971، ترجمة: الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى، ج 2 ص 5-110.
[2] -دأب أحد المثقفين العلمانيين في زمننا على نقد الدولة العثمانية و السخرية من أحوال الفلاحين فيها و الضرائب التي فرضها المماليك عليهم، ثم وافق بإغراء شعارات واضحة الزيف على تولي حقيبة وزارية في نظام انقلابي قمعي قتل و نهب شعبه و اضطره إلى حياة الفقر و التشرد فلم ينبس ببنت شفة ضد معاناة فلاحين و لا غيرهم من شعب أصبح غارقاً في الفقر المدقع و يؤثر أفراده ركوب أمواج البحر أو قذف أبنائهم القصر لتجار الهجرة في مستقبل المجهول و الموت بحثاً عن بصيص آمال بحياة الكفاف على أرصفة أوروبا، و هو ما يوضح زيف شعارات الازدهار و التقدم و الحرية التي يلوح بها التغريب و أنه لا مانع لديه من ارتكاب أسوأ من الاستبداد و الاضطهاد و القتل و النهب الذي يعيبه في أنظمة التراث في سبيل الوصول للسلطة و ارتكاب ما يحلو له من ممارسات قمعية باسم التنوير الذي لا ينير إلا درب الفقر و العوز، و هو وضع ليس خاصاً بشخص واحد و لا اتجاه واحد بل شمل أركان اليمين بل و أركان اليسار الذين احترفوا النقد و الجلد و التغني بالثورات و الشعوب فإذا بهم أعدى أعدائها و أشد أنصار الاستبداد حماساً ما دام مع هواهم، و لا عجب أن ترى اليساري فيهم يطبل ويزمر لعتاة اليمين المتصهين.
[3]-روجر أوين، الشرق الأوسط في الاقتصاد العالمي 1800-1914، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1990، ترجمة: سامي الرزاز، ص60.
[4]-نفس المرجع، ص50.
[5]-نفس المرجع، ص51.
[6]-Sevket Pamuk, The Ottoman Empire and the European Capitalism, 1820-1913, Cambridge: Cambridge University Press, 1987, p. 152.
[7]-الدكتور محمد أنيس، الدولة العثمانية و الشرق العربي (1514 ـ 1914م)، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1993، ص 144.
[8]-نفس المرجع، ص 145.
[9]-نفس المرجع، ص 146.
[10]-نفس المرجع، ص 153.
[11] -نفس المرجع، ص 144-148.
[12] -Bernard Lewis, From Babel to Dragomans: Interpreting the Middle East, Oxford University Press, 2004,  p. 118.
   -أندري كلو، سليمان القانوني: مثل من التمازج بين الهوية و الحداثة، دار الجيل، بيروت، 1991، ترجمة: البشير بن سلامه، ص 377.
[13]-خليل إينالجيك (تحرير)، التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي للدولة العثمانية، دار المدار الإسلامي، بيروت، 2007، ترجمة: الدكتور قاسم عبده قاسم، ج 2، ص 629 و 639.
[14]-نفس المرجع، ج 2، ص 638.
[15]-نفس المرجع، ج 2، ص 621.
[16]-نفس المرجع، ج 2، ص 624 و 625.
[17]-نفس المرجع، ج 2، ص 643.
[18]-نفس المرجع، ج 2، ص 631.
[19]- Sevket Pamuk, pp. 102, 144.
[20]-نفس المرجع، ص 53 و 135.
[21]-نفس المرجع، ص 133.
[22] -نيقولاي إيفانوف، الفتح العثماني للأقطار العربية 1516-1574، دار الفارابي، بيروت، 2004، ترجمة: يوسف عطا الله، ص 61-68 و 309-331.
[23] -شاخت وبوزورث، تراث الإسلام، سلسلة عالم المعرفة (8)، المجلس الوطني للثقافة و الفنون و الآداب، الكويت، أغسطس/ آب 1978، القسم الأول، ترجمة: الدكتور محمد زهير السمهوري، ص 286-288 (برنارد لويس، الفصل الرابع: السياسة و الحرب).
[24] -دونالد كواترت، الدولة العثمانية 1700-1922، مكتبة العبيكان، الرياض، 2004، ترجمة: أيمن أرمنازي، ص 142.
[25] -أندري كلو، ص 39 و 44 و 105 و 349- 351.
[26] -نفس المرجع، ص 11 و 338.
[27] -بيري أندرسون، دولة الشرق الاستبدادية، مؤسسة الأبحاث العربية، بيروت، 1983، ترجمة: بديع عمر نظمي، ص 19-21.
[28] – Stanford J. Shaw, History of the Ottoman Empire and Modern Turkey, Cambridge University Press, 2000, Vol. I, pp. 50-51.
[29] -الدكتورة نجلاء عز الدين، العالم العربي، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة، 1956، ترجمة: محمد عوض إبراهيم و الدكتور محمد يوسف نجم و محمد دويك و برهان الدين الدجاني، ص 299.
[30] –وليد الخالدي، كي لا ننسى: قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 و أسماء شهدائها، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1998.
[31] –جون إم. هوبسون، الجذور الشرقية للحضارة الغربية، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، 2006، ترجمة: منال قابيل، ص 103.

الرابط : https://turk-post.net/p-293304/%d8%a3%d8%ad%d9%88%d8%a7%d9%84-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84%d8%a7%d8%ad%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%ab%d9%85%d8%a7%d9%86%d9%8a%d9%8a%d9%86/

قراءة 2554 مرات آخر تعديل على الأربعاء, 18 تشرين2/نوفمبر 2020 08:36

أضف تعليق


كود امني
تحديث