قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الإثنين, 07 آذار/مارس 2022 09:54

في ذكرى إلغاء الخلافة الإسلامية: السياسة تتلاعب بالتاريخ (2) 2/2

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

نظرات في خلط المفاهيم المتعلقة بالقضية الفلسطينية بين الزمن العثماني و زمن الاستعمار الغربي و التجزئة العربية

 

و البلقان في قرنها الأخير، لقد عرض السلطان استقبال اليهود كما استقبلتهم الدولة بعد سقوط غرناطة في أماكن متفرقة و تحت سيادة الدولة العثمانية نفسها، و كما لاموا الدولة عن موقفها من اليهود في القرن ١٩-٢٠، لامها المراهقون على موقفها زمن غرناطة أيضاً[9] متهمينها بالتوطئة للاستيطان الصهيوني حين كان العالم كله في ظروف بعيدة جداً عن صهيونية القرن العشرين، لأن قراءتهم مراهقة و دونكيخوتية تحارب التنين الذي لا وجود له و هو مجرد طاحونة هواء عادية، و المصيبة أن يكون موجه التهمة، كعادة الباحثين المزدوجة، بعض مثقفي التطبيع و الاستسلام للغول الصهيوني الحقيقي في نفس الوقت الذي يحاربون فيه أشباح الماضي التي لا وجود لها، فكيف لو علمنا أن التفاهة وصلت حد اتهام السلطان صلاح الدين الأيوبي قبل أكثر من ثمانية قرون بالتهمة الصهيونية ذاتها[10]؟ و هو مظهر طفولي في التعامل مع الأحداث التاريخية عندما تحمّل جريرة تطورات لاحقة لا علاقة لها بها.

۞الفارق الرئيسي والعامل الحاسم هو السيادة

المهم عندنا الآن هو السيادة، فكما أن بعض الدول لديها وافدون و ربما تفوق أعدادهم أعداد السكان الأصليين و لا يلومها أحد بل يثنون عليها بكونها حلم الثراء للوافد، مع الشكوى من ممارساتها السيادية التي تضيّق على الوافدين حتى مع كثرة أعدادهم، بل لهذا السبب بالذات، و هذا ما يؤكد أهمية السيادة، نجد هنا في الموضوع العثماني نفس النقطة و لكن مع التلبيس المعاكس، فالأقلية تحت سيادة من؟ هل هي سيادة مستقلة كما كان يريد هرتزل في داخله أم تحت سيادة الدولة العثمانية؟ لماذا عرض عليه السلطان العراق و الأناضول نفسه؟ هل كان يعرض دولته في أوكازيون للبيع و من ضمنه أرض الأتراك؟ شيء من المنطق لو سمحتم، لقد كان العرض عرض لجوء و ليس بيعاً، لأنه لن تنشأ لهم سيادة في تلك البقاع، و سيذوبون كما كانوا أقليات في كل مكان، و لوم السلطان عبد الحميد على هذا الأمر لا يجوز لأن الأقليات عاشت و تعيش و تستقبل في كل دول التاريخ البشري و في جميع البلاد و الحضارات، و كان من المفترض على الباحث أن يلفت انتباهه عرض الأناضول لإقامة اليهود و ليس حلب وحدها، مع أن اقتراح حلب لم يخطر ببال السلطان و من قدمه مجرد موظف في كلام عابر، و إذا كان السلطان قد رضي باستيطان يهودي في الأناضول كما قال بالفعل، فهل يعني ذلك أن "الاستعمار التركي" كان يريد بيع أرض الأتراك لليهود؟ و هل كان "المستعمر التركي" بصدد بيع بلده المركزي لليهود؟ فأي استعمار ضحى بدولته المركزية لأجل آخرين؟ هذه تهمة لا تستحق الالتفات، حتى لو قيل إنه عرض على اليهود مناطق يسكنها الأكراد فهذا لا ينفي نظرة الأتراك للأناضول، تقولون لم يكن زمن عبد الحميد قومية؟ نعم صحيح و جميل جداً، و هذا يؤكد ألا فرق بين التركي و غيره و هذا ما نريده، و الكردي كان محل ثقة السلطان، و الفارس الحميدي كان كردياً، فلا داعي إذن للنغمة التي تشير إلى عروض بيع لليهود كأنها تنازلات عن حقوق قومية للعرب و لشعوب غير تركية، حيث لم يكن وجود لكل هذه التصنيفات العرقية و كانت حلب أهم من الأناضول، الدولة عاملت اليهود في إطار لجوء كثير من الأقليات تحت سيادتها و ليس في إطار سيادات مستقلة لها و بيع أراض لجماعات غريبة، فقد استقبلت مهاجري القوقاز في الأناضول و بلاد الشام، و مهاجري كريت في دمشق، و مهاجري الجزائر في بلاد الشام، و مهاجري البوسنة كذلك، و قبلهم مهاجري الأندلس في شمال إفريقيا و الأناضول و الشام، و بين هؤلاء و أولئك مهاجرين من أوروبا و روسيا باحثين عن الأمان و الحرية.

الدولة قاومت بكل قوتها نشوء دول للأقليات، و اتخذت من نموذج جبل لبنان درساً قاسياً، و العجيب أن الذين يتهمونها بالتفريط للصهاينة و استقبالهم هم أنفسهم الذين يتهمونها بالوحشية في معاملة الأرمن مع أنها كانت معاملة في إطار منع الاستقلال و السيادة المستقلة، و هو نفس ما كان سيحدث لو حاول الصهاينة الأقل عدداً و الأضعف حالاً الحصول على استقلال أيضاً، و هذا ما قاله السلطان عبد الحميد لهرتزل : حصلنا على السيادة بالدم و لن نفرط فيها بأرخص من ذلك، طيب إذا كنتم ضد استقلال أقلية صغيرة كاليهود، مع كونها أقلية تتهمون الدولة بتبنيها، فلماذا تشجعون استقلال أقلية كبيرة كالأرمن و تتهمون الدولة بالوحشية في معاملتهم؟ و تريدون منع استقلال غيرهم؟ فالمهم عندكم هو الإدانة: فالدولة متوحشة حين تمنع الاستقلال عمن تحبون، و هي مفرطة و خائنة عندما تسهل الاستقلال حيث لا ترغبون، فهل بهذه التقلبات تدار الدول، و بأثر رجعي؟

۞ما الذي رفضته السلطنة العثمانية و لماذا؟

الدولة العثمانية كانت تحذر من فخ التدخلات الدولية بذريعة حماية الأقليات و كانت المسألة اليهودية مسألة أمن دولة و ليست مجرد قضية أرض و شعب عادي، و كان زوال السيادة العثمانية يعني زوال آخر العقبات في وجه الاستيطان اليهودي كما يقول واحد من أبرز المؤرخين الصهاينة في زمننا هو مايكل أورين، هذا هو رأي العدو في العثمانيين ثم فيمن جاء بعدهم من أعدائهم سماسرة المقدسات، و هذا كل ما في الأمر، و لهذا نقول إن زمن الحدث و ظرفه يجب مراعاتهما بدلاً من الإسقاطات اللاحقة، و من المعيب جعل فضائل الدولة العثمانية في التسامح في زمن، مذمة عليها لأن تسامحها انقلب ضدها بعد زمن طويل، ثم اتهامها في مجالات أخرى بالوحشية و الاستبداد لعدم توفر "التسامح" الذي كنتم تذمونه قبل قليل، فهل كانت مفرطة أم مستبدة؟ أم أن كل تهمة حسب الطلب، نتهمها بالتفريط لصالح اليهود ثم نرى الخيانة المعاصرة تستسلم للصهاينة مع صمتنا المطبق بل مع هتافنا و تصفيقنا، فكيف نذم التسامح مع اللاجئ في ظل سيادة الدولة بكونه تفريطاً، و في نفس الوقت نمدح "التسامح" المستسلم للعدو الغاصب صاحب السيادة المهيمنة على بلادنا؟

إن الصواب أن السلطان لم يكن بصدد أي عملية بيع و تنازل بل بصدد لاجئين كما كانوا يدّعون، و لندع ما كانوا يضمرونه فهو لم يكن مناسباً لذلك الوقت كما أقرّوا بأنفسهم، و لم تسمح لهم الدولة بتحقيقه طوال أيامها، لاسيما أن الذين منحوهم فرصة الإعلان عما كانوا يضمرونه في زمن الدولة العثمانية، هم الذين ثاروا على الدولة و جاءوا لهم بمن يحقق لهم أحلامهم، و لو حاسبنا كل امرئ على ما يضمره، لما تصافح في هذه الدنيا شخصان.

عرض السلطان عليهم خيارات لجوء و حسب، عروضاً تساوت فيها الأرض التركية و غيرها، و شراء الأراضي لإقامتهم يكون في هذا الإطار مثل بيع العقارات للأجانب في أي دولة، و هذا البيع لا ينقل السيادة و لا يؤسسها، السيادة الأجنبية داخل الدول تكون لمقرات البعثات الدبلوماسية و مساكن السفراء فقط، و لا تنتقل بشراء عقارات لمواطنين أو لاجئين أجانب، و إلا لأمكن للعرب ادعاء السيادة على مساحات واسعة من بريطانيا أو تركيا، الحديث عن عروض بيع للصهاينة يقتطع الحدث من زمنه حيث ظروف التفاوض لمجرد استقبال لاجئين في أراض مخصصة، و يلصقه بزمننا حيث المفاوضات و المساومات على تسليم بلاد العرب لكيان صهيوني مستقل و متغول تحت سيادة أجنبية و حماية دولية طردت و اضطهدت و قتلت السكان الأصليين، السلطان رفض إقامتهم في فلسطين حتى يتفادى التدخل الأجنبي الذي يتخذ حماية الأقليات ذريعته و حتى لا ينفذوا خطة السيادة المستقلة ذاتياً كالتي طبقت في أماكن أخرى من الدولة بمؤامرات أجنبية، و لذلك عرض أماكن أخرى منها الأناضول، و وضع العراقيل التصاعدية التي تناسبت طردياً مع تقدم الزمن و وضوح الخطر، أمام تزايدهم في فلسطين، مع أنهم كانوا مجرد أقلية تحت سيادة الدولة العثمانية، لأن خطرهم المتوقع كان تحول فلسطين إلى كيان مستقل ذاتياً و يتدخل فيه الأجانب على غرار جبل لبنان، و هو ما يناقض سياسة السلطان المركزية.

 هذا ما كانت الدولة تقاومه في حياتها بكل قوتها كما قاومت الاستقلال الأرمني، و لهذا قال السلطان لهرتزل إنه لن يوافق على المشروع الصهيوني رغم أن هرتزل استبعد فكرة الاستقلال و شدد على الخضوع للسيادة و القوانين العثمانية، و رفض السلطان ذلك بسبب هاجس التدخل الأجنبي، فحديث السلطان كان يركز على هاجس الاستقلال الذاتي، أما موضوع بيع الدولة و التنازل عن السيادة و نشوء دولة يهودية مستقلة فلم يفكر فيه أي مسئول عثماني فضلاً عن التحدث به، و لم يتحدث به أحد بشكل رسمي، و أعلمهم السلطان أن مشروعهم هذا لن ينجح إلا بسقوط الدولة العثمانية، و لا أظن أن أحداً عاقلاً يفهم بعد ذلك من العبارة الدارجة : لن تمروا إلا فوق جثتي، أنه سماح لهم بالمرور و ترتيب للتنازل و تسهيل مهمة العدو و لكن بعد الوفاة، أو أنها عملية توريث، أو أن الحي يرتب وفاته ليريح عدوه منه، و لكن هذا هو منطق الدعاية السياسية.

۞الدعاية السياسية رمتني بدائها و انسلت

و بغض النظر عن الإجراءات التي اتخذت ضد استيطان اليهود، و هي كثيرة و تنامت مع مرور الزمن و زيادة وضوح الرؤية و الخطر من (الاستقلال الذاتي)، و كان لها كثير من النتائج في العهدين الحميدي و الاتحادي، و لكن كما سبق القول كان الصراع بين الطرفين، بل قمع السلطة للمستوطنين، على أرضية من السيادة العثمانية و ليس صراعاً بين سيادات مستقلة، و يا ليت أن أنظمة الاستقلال الوهمي و التجزئة المجهرية التي تكيل دعاياتها الاتهامات قامت ببعض ما قام به العثمانيون، بدلاً من الشعارات الفارغة، نسأل من الآخر: هل منحهم السلطان سيادة بإقامتهم في فلسطين كما كان هرتزل يريد، و كما توصل إجماعهم بعد ذلك؟ و كما أجمع على منحهم تلك السيادة حكام بلادنا من التقليديين و الثوريين على حد سواء؟ الدكتورة فدوى نصيرات بنفسها رغم نقدها المرير للسلطان عبد الحميد اعترفت أنه حافظ على عروبة فلسطين[11]، و هذا ما قاله السلطان لهرتزل و ثبت عليه، و هو ما فشلت فيه كل دول الاستقلال الوهمي و التجزئة المجهرية، و عندما تكون السيادة لدولة لا نستطيع أن ننتقد إجراءات حدثت بعد زوال سيادتها و التغيير المتعمد للترتيبات و الأنظمة التي كانت فيها، بفعل الذين يلومونها و الذين هم أنفسهم رحبوا باليهود كسيادة مستقلة و جاءوا بالإنجليز الذين نفذوا مخطط السيادة الصهيونية المستقلة عملياً، و كانت هذه خطيئة العرب و أنظمتهم و ليست خطيئة الدولة العثمانية التي كان زوال سيادتها هو الشرط اللازم لتغيير أنظمتها و لتحقيق السيادة الصهيونية، و هذا ما نفذه العرب و حلفاؤهم الأجانب، العثمانيون دفعوا ثمناً غالياً هو أرواح 25 ألف شهيد من جيشهم المنهك في الحرب الكبرى الأولى لبقاء سيادتهم على فلسطين العربية و فيها أقلية يهودية كي لا تصبح هذه الأقلية هي السائدة و كانت ستظل أقلية مثل كل الأقليات في الدولة لو انتصر العثمانيون و استمرت السيادة العثمانية و لما تغيرت هوية فلسطين العربية، و لهذا قال الدكتور وليد الخالدي إن زوال السيادة العثمانية هو الزلزال الأول الذي حل بفلسطين في القرن العشرين مثل زلازل ١٩٤٨ و١٩٦٧ و١٩٩٠ تماماً، العثمانيون تركوا فلسطين بعدما تحالف العرب و الإنجليز ضدهم و كان فيها أقلية من ٥٦ ألف يهودي فقط تحت السيادة العثمانية، هنا تتوقف المسئولية العثمانية و تنتقل إلى الحكام الجدد، و الدولة ليست مسئولة عن التغيرات التي تلاعبت بترتيباتها بعد زوال سيادتها، فماذا فعل ثوار العرب الأشاوس بهذا العدد الضئيل الذي كان بإمكانهم الخلاص منه بيسر و سهولة في ظروف الثورة و الحرب؟ العرب أزالوا سيادة الدولة العثمانية التي تساهلت مع الصهاينة كما يقولون و لكنهم جاءوا بالسيادة الجديدة لبريطانيا حليفة الصهاينة فتضاعف العدد بدل زواله، و صار له سيادة بدل وضع الأقلية، و لو قرأتم ما يقوله المؤرخون الصهاينة أنفسهم لوفرتم على أنفسكم هذا التيه، العدد اليهودي الضئيل زاد إلى أضعاف الأضعاف بعد زوال السيادة العثمانية بفعل الحكام الذين طردوا العثمانيين و ليس بفعل مصباح علاء الدين الذي أعطاه العثمانيون لليهود فلم يعد هناك من يقدر على كبح تمددهم، و ما تقوم به الدعاية هنا هو تضليل سياسي و ليس توضيحاً لأنها تنسى ما روجته بنفسها عن الدولة العثمانية عندما كانت العلاقات التركية الرسمية مع بعض الدول العربية المعنية جيدة، و ينسون و يتناسون مواقف الأنظمة التي يدافعون عنها و يعملون في ظلها من فلسطين و حل الشرعية الدولية فيها القائم على التسليم بالسيادة الصهيونية على ٧٨٪؜ من أراضيها.

و الناقدون هم كالتي رمتني بدائها و انسلت، و هذه هي الازدواجية التي ينبغي أن يرفضها الباحث الذي يريد توجيه العقل العربي البسيط، بالإضافة إلى وجوب تحليه بالموضوعية و الحيادية التي تذكر المحاسن و المثالب كما يجب، و لكنه لا يطبق ذلك، و كذلك عليه أن يتناول الماضي وفق قوانينه و ظروفه الخاصة و ليس وفق حاجات و ظروف لاحقة لم تكن موجودة وقت الحدث، و افتقاد كل هذا يجعلنا نرفض هذه البحوث المسيسة التي تستعمل أي وسيلة في سبيل الوصول إلى الهدف السياسي المحدد مسبقاً.

۞شهادة هرتزل قبل وفاته بقليل عن ملخص جهوده

قبل أن يتوفى هرتزل بأشهر قليلة في سنة 1904، التقى بوزير الخارجية الإيطالي ضمن لقاءاته مع كبار مسئولي الدول الأوروبية الكبرى لإقناعهم بالتدخل لدى السلطان عبد الحميد لصالح المطالب الصهيونية، و قدم له العريضة التالية لشرح مطالب الصهاينة :

"صاحب السعادة

ضمن المقابلة التي منحتني شرف حضورها في روما، دعوتني لصياغة مطالب الصهاينة، و لهذا فإنني أسمح لنفسي بتقديم الملاحظات التالية إلى سعادتكم.

إن الحركة الصهيونية، ممثلة بمؤتمراتها السنوية التي يحضرها مندوبون من جميع الدول، هدفها إنشاء وطن معترف به قانونياً للشعب اليهودي.

و بصفتي رئيساً للجنة التنفيذية قمت بالتواصل مع الحكومات المهتمة بهذه المسألة، و قد حاولت أولاً و قبل كل شيء إقامة علاقة مع الحكومة العثمانية، و استقبلني جلالة السلطان في مقابلة خاصة و دعاني في أكثر من مناسبة للعودة إلى القسطنطينية، و قمت بذلك فعلاً، و لكن المفاوضات لم تحرز تقدماً ملحوظاً، و لاعتقادي بأن الظروف الدولية هي سبب هذا التأخير، فقد جاهدت للحصول على موافقة القوى الكبرى المعنية، و في ألمانيا وجدت الفكرة الصهيونية بداية الدعم، و استقبلني القيصر مع مندوبين صهاينة في مقابلة رسمية في القدس في سنة 1898، و أظهر لنا مودته، و لم يتغير الموقف الكريم للحكومة الألمانية منذ ذلك الوقت، و تأكد ذلك بالرسالة التي وجهها إليّ صاحب السمو الملكي دوق بادن الكبير في هذا الموضوع في 30 سبتمبر 1903.

و أظهرت الحكومة الإنجليزية ميلاً واضحاً للحركة الصهيونية و عرضت علينا رسمياً مساحة كبيرة ضمن الممتلكات البريطانية في شرق إفريقيا لنستعمرها.

و تكرمت الحكومة النمساوية على جهودنا بالاهتمام، كما قال رئيس الوزراء كيوربر في رسالة كتبها إليّ بتاريخ 28 سبتمبر 1903.

و لكن الدعم الأهم جاءنا من روسيا، ففي أغسطس 1903، كتب الوزير فون بلهفي رسالة إليّ تجد نسخة منها في طي المظروف، و أضاف فون بلهفي أن إعلان حكومته نقل إليّ بناء على أوامر جلالة الإمبراطور مع الإذن بنشرها، ففي 23 نوفمبر(حسب التقويم في روسيا)، 6 ديسمبر 1903، أعلمتني الحكومة الروسية أن السفير الروسي في القسطنطينية تلقى تعليمات للتدخل لدى الباب العالي بالنيابة عن المطالب الصهيونية.

لقد كان إعلان الحكومة الروسية في 30 يوليو (حسب التقويم في روسيا)، 12 أغسطس يعطينا أكثر من مطالبنا، فنحن لم نطلب دولة يهودية مستقلة في فلسطين، لمعرفتنا بالصعوبات التي سيواجهها هذا الهدف، و كل ما طلبناه أن يستقر الشعب اليهودي في فلسطين تحت سيادة جلالة السلطان، و لكن بشروط الحماية القانونية (الدولية)، و تكون إدارة مستعمراتنا بأيدينا، و احتراماً لمشاعر كل المؤمنين، فإن الأماكن المقدسة مستثناة و تخرج عن نطاق السلطة إلى الأبد (يقصد التدويل).

إن كل ما نطالب الحكومة العثمانية به هو الترخيص باستيطان لواء عكا، و في مقابل هذا الترخيص سنتعهد بدفع جزية سنوية للخزينة العثمانية مقدارها 100 ألف جنيه عثماني.

و اقتراحنا هذا يتضمن فوائد جمة للحكومة العثمانية، و إذا كان من السهولة بمكان تعداد هذه الفوائد، فإنه من الصعب أن نسرد بحياد الحالة المزرية التي يعاني منها يهودنا الفقراء في روسيا و رومانيا و غاليسيا....إلخ، و الهجرة إلى أمريكا ليست حلاً، ففي كل مكان هناك يجدون أنفسهم من جديد عرضة للاضطهاد السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي، و علاوة على ذلك، فحتى في الدول الحرة، بدأ إغلاق موانئها في وجوههم.

إن معاداة السامية تجعل حياتهم صعبة في كل مكان.

أما فيما يتعلق بإيطاليا، فهذه الصراعات و المشاكل ليست سوى أصداء بعيدة عنها، لأن إيطاليا لم تمس مطلقاً بالمسألة اليهودية، و لهذا السبب تحديداً يمكن لحكومتها تقديم خدمة كبيرة للإنسانية بمد يد العون لحل هذه المسألة المليئة بالأحزان.

إن رسالة من جلالة ملك إيطاليا لجلالة السلطان توصي بمقترحاتنا و تنصحه بمودة أن يأخذها في الحسبان، سيكون لها أثر حاسم في إعادة فتح باب المفاوضات معنا.

إن الشعب اليهودي مشتت و لكنه منتصب رغم كل النكبات، سيقدم عرفانه الأبدي بالجميل لإيطاليا و ملكها الشهم.

أرجو من سعادتكم أن تتقبلوا خالص التعبير عن التقدير و الإخلاص.

الدكتور ث. هرتزل

فينا، 13 فبراير 1903 (كذا في المطبوع و الصحيح 4 فبراير 1904 حسب تسلسل المذكرات و التواريخ المذكرة في الرسالة).

إلى سعادة السيناتور ت. تيتوني، وزير الخارجية، روما"[12].

إن التأمل في هذا الخطاب الذي كتبه هرتزل قبل وفاته بثلاثة أشهر فقط، يبين لنا ملخص جهوده بخط يده، و جواب السلطان النهائي الذي زيفته الدعاية السياسية و ألصقت بالسلطان رداً عابراً من كاتبه و ليس منه، قصد به اللجوء و ليس التنازل، فهرتزل خلافاً للتزييف و التحريف الذي مارسته الدعاية السياسية العربية، فشل في مساعيه للحصول على الترخيص الرسمي من السلطان عبد الحميد، و هو الترخيص الذي كان لازماً لنجاح المشروع الصهيوني كما ثبت بالفعل، و رغم أنه يقدم جهوده للوزير الإيطالي بعدسة وردية، و يحاول إبراز نجاحات حتى لو كانت وهمية أو غير مرغوبة، فلا يذكر أن القيصر الألماني توقف عند إظهار المودة و لم يواصل جهوده لإقناع السلطان بالمشروع الصهيوني مراعاة لرأي السلطنة، و لم يتطرق إلى أن مشروع شرق إفريقيا البريطاني مرفوض لأنه مناقض لمطالبه، هو فقط يستعرض أي إشارة إيجابية حصل عليها من القوى الكبرى ليشجع محدثه على المضي في دعم الصهيونية كبقية القوى الكبرى، و مع ذلك يبدو أن محور حديثه هو فشل جهوده في السلطنة، و الرغبة فيمن يعيد تقديمه إلى السلطان ليفتح باب التفاوض الذي أغلقه، و بعد فشله مع السلطان، دار على زعماء الدول الكبرى لعله ينجح في حفزهم على التدخل لدى السلطان، و علق آمالاً كبرى على روسيا[13]، التي سبق أن منحته وعوداً أكبر من مطالبه، و على إيطاليا، لأن السلطان يخشاها في نظره، و قد وعده الملك بنقل قضيته إلى أي عثماني يقابله[14]، و صار هرتزل يقدم كل آيات الخضوع لمن يجعل السلطان يقبل بمفاوضته، فأين الذين يريدون الشهادة الكاملة لهرتزل؟ و يظنون أن موقف السلطان كان أولياً ثم تغير؟ و أين الذين يدعون أن هرتزل هو الذي أقفل باب التفاوض؟  و لماذا يقفله و هو معروض عليه بلاد واسعة في السلطنة كما يقولون؟ و لماذا لم يستغل إشارة السلطان المزعومة بالموافقة على أن "يعمل اللي بده إياه" في فلسطين (قدم عزت باشا العابد لهرتزل في حديث عابر نصيحة بتمويل المشاريع في الدولة العثمانية و مصادقتها، ثم اعملوا ما شئتم، و كل ذلك يقصد منه إفادة الدولة العثمانية و تحت سيادتها و ليس أي نوع من التنازل عن أي سيادة و لا عن أي رعايا للسلطان، و لم يكن جواباً نهائياً بأي حال من الأحوال، و لكن أكاذيب الدعاية السياسية جعلت الكلام نهائياً و على لسان السلطان نفسه الذي استبعد فلسطين في كلامه بوضوح، و لكن كالعادة "يمكن"[15] فهم الكلام أنه بإمكان اليهود الحصول على فلسطين، أكاذيب ملفقة و استنتاجات مضخمة تناقض الواقع المحسوس و آراء أصحاب الشأن أنفسهم، فلا يا سادة، التاريخ لا يقرأ بكلمة يمكن، التاريخ فيه حوادث ثابتة، لاسيما بعدما رأينا هرتزل حائراً إلى نهاية عمره، و لو كانت المكاسب التي زعمتموها حقيقية لكان هو أو أتباعه أولى بإدراكها و لما أتعبوا أنفسهم في استجداء الدول الكبرى الأوروبية، و لو أنه عاش إلى زمن التجزئة العربية لاعترف بأسماء الذين مكنوه من فلسطين فعلاً و جعلوه "يعمل اللي بده إياه" هو، بل عملوا معه هم "اللي بده إياه" هو.

المهم الآن ماذا كانت نتيجة مساعي هرتزل لتوسيط الدول الكبرى لدى السلطان، و ماذا كانت أجوبة الكبار النهائية على هرتزل في مواجهة السلطان "المتساهل"؟

يقول مارفين لوينثال محرر مختصر المذكرات في الفصل الأخير تحت عنوان "الخطوات الأخيرة": "في مسألة التأثير على الدولة العثمانية، أشار تيتوني إلى حكمة ملكه، و الذي بدوره يفعل ما يشير به تيتوني، فبدا واضحاً أن إيطاليا، مثل ألمانيا و روسيا، انضمت إلى قائمة القوى الكبرى الرئيسية التي بدأت راغبة ثم انتهت عاجزة، فجدد هرتزل جهوده للتواصل مع وزير خارجية النمسا-المجر....الذي ضم النمسا أيضاً إلى قائمة الدول التي تتمنى الخير و تنتظر من غيرها اتخاذ زمام المبادرة، و لكن اقتراحه (بريطانيا) الذي لم يكن هرتزل في حاجة إليه، فيما يخص هذه القوة العظمى التي يجب التعويل عليها، كان نظرة ثاقبة و سعيدة في المستقبل، و مع ذلك، فقد تكلف الأمر حرباً عالمية و تدمير الإمبراطورية النمساوية المجرية بالتزامن مع اضطرابات عنيفة واسعة، كانت بعيدة جداً عن التوقعات في سنة 1904، قبل أن تقوم بريطانيا العظمى بتقديم عرض صهيوني حقيقي: وطن قومي في فلسطين، هو سلف دولة هرتزل اليهودية"[16].

و هذا الكلام يجيب عن كثير من الملاحظات عن تلك الفترة، منها أنه مع كل ما قيل عن مفاوضات هرتزل في السلطنة و طول مدتها و ما قيل أثناء هذه المفاوضات و ما حصل عليه هرتزل من هدايا و عروض، و ما أوعزه إليه السلطان في خيال المفترين، كله انتهى إلى لا شيء، اضطر بعدها هرتزل للدوران على الدول الكبرى للتوسط لدى السلطان، فسمع كثيراً من الكلام الجميل، و لكن لم يقدم له أحد شيئاً ملموساً، و ما كان يريده هو بعض فلسطين لاستقرار اليهود تحت سيادة السلطان و ليس بالانفصال عنه، مقابل مزايا ضخمة للدولة العثمانية، و هذا ما وافق عليه القيصر الألماني[17]، و لكنه أحجم عن التدخل مراعاة لرأي السلطان، و ما رفضه السلطان هو مجرد الحديث في مصطلح يمقته هو الاستقلال الذاتي، أما الدولة المستقلة فكانت خارج كل البحوث، فمعركة السلطان كانت مختلفة عن معركتنا نحن، فهو كان يحارب الاستقلال الذاتي، و هذا ما جعله عرضة للاتهام بالاستبداد و الأوتوقراطية من نفس الذين يتهمونه بالتساهل مع اليهود، و معركتنا نحن معركة احتلال، و هرتزل نفسه فهم الحدود التي يمكنه الحديث فيها، على الأقل في ذلك الوقت بانتظار فرص مستقبلية، هذه الفرص جاءت بعد وفاته ضمن انقلاب النظام الذي كان قائماً قبل الحرب الكبرى الأولى، لم يكن الأمر ضمن التوقعات في ذلك الوقت، و لهذا فإن قيام باحثين بتصيد بعض المواقف التي حدثت أثناء هذه الرحلة الطويلة من التفاوض، ليس نهجاً علمياً في الاستدلال، نعم قيل كثير من الكلام، فرأي الملك الإيطالي أن "البقشيش" يمكن أن يحل كل مشاكل هرتزل مع السلطنة[18]، و لكن نيولنسكي الصحفي البولندي صديق السلطان كان رأيه أن السلطان يمكنه إسكان اليهود في الأناضول و لكن ليس في فلسطين[19]، و هذا ما اقترحه السلطان بالفعل، و أن المال لا قيمة له عنده، و أنه يمكن إقناعه بمشروع هرتزل بالدخول إليه من باب القضية الأرمنية و القدرة على تهدئة الأرمن، و الحصول على توصية من بسمارك مع قرض ضخم[20]، و قدمت كثير من العروض في الأناضول و العراق، و الهدايا البروتوكولية، و تقدمت كثير من الاقتراحات، تساءل الصدر الأعظم عن مساحة المكان المطلوب لأن فلسطين كبيرة[21]، و تحدث عزت باشا العابد عن قبرص مبدئياً مقابل فلسطين فيما بعد[22] و عن التمويل و المشروعات (أيضاً مقابل مجرد سكن لاجئين و ليس بيعاً للسيادة)، و تحدث نوري بك عن حلب و بيروت، و تعلق هرتزل بآمال ضخمة و وصلت توقعاته السماء[23]، و لولا ذلك لما استمر في التفاوض، و لكن أيها المؤرخ المحترم، ماذا نتج عن كل هذا؟ لماذا وقفت جامداً عند الهدايا و الاستدعاءات و النياشين و النقود الذهبية و تصريحات الحاشية و الموظفين و طول فترة المفاوضات، و لم تلحظ أن السلطان الذي كان يستدعي هرتزل "على جناح السرعة" لا يستقبله عند وصوله؟ يقدم له كثيراً من التكريم الظاهري و لكنه يخرجه من آخر زياراته "صفر اليدين"[24]؟ يفاوضه لست سنوات مليئة بالتوقعات ثم يضطره في نهايتها لاستنفار القوى الكبرى كلها للتوسط عنده؟ يحصل من معظم القوى الكبرى على وعود خلابة في الكلام و لكنها تنتهي كلها إلى اتكال أحدهم على الآخر في العمل؟ لقد رأينا ماذا قال هرتزل نفسه و ماذا قال محرر مذكراته، و كل هذا جدير بملاحظة المؤرخ المدقق و ليس الهاوي المتصيد الذي يريد أن يسوس العالم كله بأثر رجعي من مكتبه الجامعي الوثير، فيقرر أن السلطان "ليس بحاجة إلى أن يدخل في مفاوضات طويلة الأمد تمتد لست سنوات"[25] مع هرتزل (!!)، بالفعل لقد فات السلطان الاستعانة بهذه الخبرات الفذة التي ضاعت فلسطين في زمنها بلمح البصر لعله كان قد استطاع بيعها فعلاً و إعفاء زعماء الأبدية العرب من الخيانة، بدلاً من المساومات الفارغة طيلة السنوات الست.

و لكن ماذا استفاد هرتزل من استعراض "علاقته الشخصية الجيدة مع السلطان"[26]، ومن علاقاته الممتدة وصداقاته المتعددة والتأييد الذي تحظى به قضيته داخل الدوائر العثمانية الحاكمة[27]، وهو يدور في الأروقة العالمية باحثاً عمن يقنع السلطان بإعادة التفاوض معه؟ ويقنع نفسه أو يقنع محدثه وزير المستعمرات البريطاني بأن الخلل في طريقة التفاوض العثمانية: "إنني أفاوض السلطان، و لكنك تعرف ما هي المفاوضات العثمانية، إذا أردت أن تشتري سجادة، عليك أولاً أن تشرب ستة فناجين من القهوة، و تدخن مائة سيجارة، و بعد ذلك تناقش القضايا العائلية، و من وقت لآخر تتحدث بعض الكلمات عن السجادة، و أنا لدي الوقت للتفاوض، و لكن قومي ليس لديهم هذا الوقت، إنهم يجوعون في حزام الاستيطان (منطقة تركز فيها اليهود في غرب روسيا و الدول المحيطة)، و عليّ أن أقدم لهم مساعدة فورية"[28]، و مع ذلك يرفع الناقدون سيوفهم ضد هذا "التردد" من السلطان و الذي ترك هرتزل يدور حول نفسه، لأنهم يريدون الحزم الحاسم، من السلطان وحده، و لكن دون الجرأة على مجرد استجداء نفس الطلب من زعمائهم الحاليين العظام الذين جعلوا الاستسلام خيارهم الاستراتيجي.

 و لو كان هناك دعم دولي خلف قضيته، فعلام هذا الدوران و الاستجداء؟ لأن بريطانيا قبل الحرب الكبرى لم تكن بريطانيا كما أصبحت بعد ذلك، فقد رفض اللورد كرومر رمز الاستبداد الاستعماري تقديم سيناء و هي تحت احتلال بلاده، و لأن روسيا التي قدمت الوعود الخلابة، قال له سفيرها في إسطنبول في نهاية المطاف بعد شهر من تلقي تعليمات الخارجية الروسية بتقديم مبادرة لصالح الصهيونية: "حتى الآن لم أفعل شيئاً في هذا الأمر، و لن يكون من السهل فعل أي شيء"[29]، فعلام يدل هذا؟ هل يدل على تخاذل الدولة العثمانية؟ أم على أنها وافقت لهرتزل أن يفعل ما يريده؟ أم على أن تفاوض السلطان كان خيانة لأمته و دينه؟ أم على أن الدول العظمى كانت تسند هرتزل بكل قواها؟ أم على أنه لا يحق لمراقبي ذلك الزمن أن لا يتخوفوا من الصهيونية التي تدور حائرة باحثة عن طرف حبل نجاة؟

و لعل النقطة الجديرة بالملاحظة أكثر من غيرها، هنا هي ملاحظة المحرر عن تهرب الدول الكبرى من تبني المشروع الصهيوني، و هنا نتحدث عن التبني الواضح على غرار التدخلات الرسمية لصالح ما وصفوه بحقوق الأقليات بالاستقلال أو الحكم الذاتي وتقديم الدعم المادي لها في هذا السبيل، و ليس عن توسط بعض الدبلوماسيين لقضايا متفرقة، ذلك التبني والدعم الرسمي لقضية الاستقلال اليهودي، حتى لو كان استقلالاً ذاتياً، لم يكن متوفراً في ذلك الوقت، و طغى عليه قضايا أكبر منه مثل قضايا الأرمن و البلقان، و لهذا كانت ملاحظة مصطفى كامل باشا في محلها عندما قارن بين هدوء اليهود و ثوران غيرهم، وصفه كان منطبقاً على الواقع آنذاك، و لم ينقلب الحال إلا في غضون الحرب الكبرى الأولى، و لهذا يمكننا القول إن هذا العامل يمكن أن يكون العامل الأول الذي طمأن المخلصين أن المسألة الصهيونية لن تحصل على موطئ قدم لعدم وجود ذلك الدعم من قوى كبرى معادية و التي كانت تكتفي بطيب الأماني للمشروع الصهيوني، و بعضها يظن أنه في صالح الدولة العثمانية و تحت سيادتها و سريان قوانينها، و كيف نطالب أهل ذلك الزمان بتوقع خطر من قبل جهة غير مدعومة لهدف الاستقلال غير المعلن رسمياً بعد؟ هذا كله كان مشهداً مغايراً تغير عندما قامت الحرب و جاء الثوار بالحلفاء فغابت السيادة العثمانية و حل محلها الإنجليز بسياسة جديدة ما لبث الثوار العرب أنفسهم أن تأقلموا معها.

۞الخلاصة

لقد جرى التعامل مع اليهود في ظل الدولة العثمانية ضمن إطار يختلف جذرياً عن الأوضاع التي نشأت بعد زوال هذه الدولة، فقد كانوا في البداية مجرد لاجئين و أقلية ضمن عشرات الأقليات التي عاشت في الدولة، و جموع اللاجئين التي وفدت إليها على مر القرون، و ضمن هذا الإطار من السيادة العثمانية وفد اللاجئون اليهود من روسيا و شرق أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فعاشوا مع بقية مواطني الدولة، و قد اختلفت وجهات النظر في قبول هؤلاء اللاجئين، حتى في المستويات العليا من السلطة العثمانية، فمن رحب بهم كان يعتقد أنهم مفيدون للدولة و أهلها بأموالهم و خبراتهم، كأي دولة تقبل اللاجئين اليوم في ظل سيادتها، و كما أفادت الدولة العثمانية نفسها من لاجئي القوقاز الأقل حظاً في نفس الفترة، و من اعترض عليهم خشي من كونهم ذريعة للتدخل الأجنبي كما حدث مع أقليات أخرى غير مسلمة في عدة أماكن من الدولة، و لكن الجميع من الموافقين و المعترضين على الهجرة كانوا يتحدثون ضمن السيادة العثمانية و ما هو المفيد لها و لأهلها، و ليس في بيع أراضي الدولة أو التنازل عنها لسيادة أجنبية، أو طرد سكانها، هذا كان خارج الحديث كله، مثل أي دولة في العالم، و لهذا فإنه حتى ما يسمى بالثغرات في السياسة العثمانية تجاه اليهود عن طريق الموافقة الجزئية على بعض المهاجرين أو الفرمانات الصادرة لهم، أو الرشوة أو المقايضة أو التساهل، يجب أن نفهم أنها كلها كانت في إطار سيادة قائمة دون التنازل عنها أو الإضرار بسكانها، لاسيما في دولة طالما اتهمت بالتعصب الإسلامي و حصر تمثيلها بالمسلمين و الانتقاص من غير المسلمين، و هو ما يسمح للدولة بوضع حد لهؤلاء اللاجئين في أي تطور يضر بصالحها، كما حدث فعلاً في ظرف الحرب الكبرى الأولى و كما تفعل حتى أصغر الدول اليوم مع الوافدين إليها، و لهذا فمن التحريف و التزوير وضع أي سياسة عثمانية، أو عرض تقدم به أي شخص رسمي أو غير رسمي في دولة لا حكم فيها إلا للسلطان الأوتوقراطي المستبد، حتى ما يسمى بالثغرات، في صالح نشوء الكيان الصهيوني بعد زوال الدولة العثمانية، و إذا كانت تلك المستوطنات هي نواة الدولة اليهودية كما يزعم، فإنه يجب التذكير أن ليس كل نواة تكبر و لا كل بذرة تنمو، و من منح البذرة الأرض الخصبة هم الذي طردوا السيادة العثمانية و أحلوا بريطانيا محلها، فالثغرات في السياسة العثمانية كانت ثغرات في تحصين الدولة من شبح التدخل الأجنبي إذا تطور الوجود اليهودي إلى أقلية معتبرة تنال الاستقلال الذاتي و تستدعي الحماية الأجنبية، هذا أقصى ما كان محل خوف و حذر في ذلك الوقت، الثغرات لم تكن في صالح تأسيس الدولة اليهودية مادامت السيادة العثمانية قائمة، و من هنا ندرك مدى التلبيس الذي يجعل أي سياسة عثمانية تسهيلاً للسيطرة الصهيونية فضلاً عن خيانة بتأسيس دولة يهودية، فالخيانة التي حصلت في زمن زعامات التجزئة كانت بعيدة كل البعد عن السيادة العثمانية في زمنها.

إن المعركة التي دخلتها الدولة العثمانية مع الاستيطان اليهودي عموماً و الصهيوني خاصة، تختلف عن معركتنا في هذا الزمن، معركة العثمانيين كانت ضد الاستقلال الذاتي و التدخل الأجنبي، و لو حاول الصهاينة اللعب بهذه الأوراق في زمن السلطنة لواجههم ما واجه بقية التدخلات الأجنبية مثل القضية الأرمنية و قضايا البلقان، و هي و يا للمفارقة حصدت تهم الوحشية والدموية على العثمانيين، و لم يحاول المتهمون النظر فيما كان ينتظر الصهاينة لو حاولوا تحقيق حلمهم بالدولة المستقلة، أما معركتنا اليوم فهي ضد احتلال استيطاني نجح في الاستقلال التام في زمن الزعامات العربية، فلم يكن الاحتلال موجوداً و لا محتملاً زمن العثمانيين، و لا نحن اليوم قادرين على حصر الوجود اليهودي ضمن استقلال ذاتي.

لقد كان الزوال الكلي للسيادة العثمانية هو اللازم لتحقيق الحلم الصهيوني كما حصل فعلاً فيما بعد، و العثمانيون لم يتنازلوا عن سيادتهم إلا بنفس الثمن الذي دفعوه للحصول عليها و هو القتال و الدم، حتى في أضعف حالاتهم و آخر أيامهم، و قد حارب جيشهم المهلهل بشراسة في الحرب الكبرى الأولى لبقاء السيادة العثمانية على فلسطين، و لو انتصر الجيش العثماني لظلت فلسطين عربية كما كانت طوال التاريخ العثماني حتى آخره، و إن التلبيس الثقافي الذي يمارس خلط المفاهيم و إسقاط زمن على آخر يزوّر الأحداث و يجعل من صفقة عقارية عادية تحدث في كل بلاد العالم يومياً، خيانة عظمى، مع أنها لم تحدث بالحجم المطلوب للصهاينة و كانت مجرد عروض نظرية في الهواء للاجئين و ليس لغزاة، و لغايات بعيدة كل البعد عن نية حتى الصفقة العقارية تحت سيادة الدولة، و لكن التنازل المجاني حدث بعد العثمانيين، و الباحث اليوم يلبّس على قارئه في ذلك عندما يخفي الظرف التاريخي و الفرق بين وجود سيادة و عدمها، و بين من لم يبع حتى بوجود سيادته، و من تنازل مجاناً لغير سيادته، فاللاجئ سواء الشرعي أو غير الشرعي الذي دخل الدولة العثمانية تحت سيادتها و في ظل قوانينها و عاش في مستوطنته على هامش فلسطين و أهلها[30]، و في هذا الهامش لم يكن الجميع في سلة هرتزل، بل كان منهم من يعادون مشروعه و يريدون اللجوء المعيشي وحده[31]، و لا كانت المستوطنات هي سبب ردود الأفعال العربية[32]، و لهذا فليس من الموضوعية صف قائمة من المستوطنات اليهودية في العهد العثماني و الإيحاء بكونها جميعاً إنجازاً صهيونياً، و ظل الوضع كذلك حتى بكل ما حصل عليه شرعياً و دون شرعية، إلى أن خرج العثمانيون كلهم، أقول إن ذلك اللاجئ الباحث عن معيشة يختلف عن المستوطن الغازي الذي أقر له زمن العرب بأن فلسطين من حق سيادته التي طردت أهل البلد و استفردت بملكيتها، و مازلنا نرجو المعتدي أن يقبل هو بنا، لا كما كان زمن العثمانيين يرجوهم هو أن يقبلوا به بشروطهم هم و بتقديمه كل التنازلات لهم، و إنه ليس من مسئولية العثماني ما فعله الثوار ضده هم و حلفاؤهم الأجانب بعد طرد الدولة العثمانية من المنطقة ثم زوالها كلياً، و لو حافظ من أتى بعد العثماني على الإرث العثماني و الوضع الذي كان في ظله، لما نشأت مشكلة فلسطين أصلاً.

و باختصار لقد طلب الصهاينة من السلطان "المتساهل" سكنى فلسطين مع الاستقلال الذاتي دون المساس بأهلها مع تقديم عدة فوائد للدولة و سكانها، فلم يحصلوا على ذلك منه، فلجأ هرتزل إلى جميع الدول الكبرى قبل وفاته بقليل ليتوسطوا له عند السلطان، فلم يوافق أحد منهم، و لم يحصل حتى بقية اليهود على استيطان آمن بالتسلل، بدليل أنهم لجئوا إلى الدول الكبرى أيضاً على خطى هرتزل، و من غير الموضوعي الزعم بأن السلطان منح هرتزل تسللاً لم يطلبه هرتزل بل عارضه، و لم يقايضه، و أن هذا التسلل هو الذي ربح منه السلطان و منح به البنية التحتية لإنشاء الكيان الصهيوني، لأن هذا التسلل نفسه كان فاشلاً بشهادة هرتزل و أتباعه، بل و أتباع التسلل نفسه، و من المزايدة منحه شهادة نجاح لم تصدق إلا في ظل ظروف لاحقة و لم يكن لهذه النواة أن تنمو إلا برعاية الغرب و حلفائه العرب، و لهذا لجأ الصهاينة جميعاً إلى بريطانيا، وذلك قبل أن تظهر بوادر الانقلابات العظمى في النظام الدولي زمن الحرب الكبرى الأولى، و بهذا حصلوا على احتلال فلسطين و دولة مستقلة فيها في زمن الزعامات العربية العظيمة، و إن محاولات نقل المسئولية بشكل يقفز على بديهيات التأريخ إلى شخصيات بعيدة وصلت إلى صلاح الدين و أخلافه، مصيرها الزوال بزوال الأنظمة العابرة التي تريد تثبيت شرعيتها بانتقاص تاريخ أمتنا بدلاً من تقديم إنجازات أكبر من إنجازاته.


[1] -Raphael Patai (Ed), The Complete Diaries of Theodor Herzl, The Herzl Press, New York & London, 1960, Vol. IV, pp. 1614-1616 (February 24, 1904).

[2] -محمد حرب عبد الحميد، مذكرات السلطان عبد الحميد، دار القلم، دمشق، 1991، ص 143.

[3] -مصطفى كامل باشا، المسئلة الشرقية، مطبعة اللواء، القاهرة، 1909، ج 1 ص 8.

-Raphael Patai, Vol. II, p. 527 (March 24, 1897).

-الدكتور حسان حلاق، موقف الدولة العثمانية من الحركة الصهيونية 1897-1909، دار النهضة العربية، بيروت، 1999، ص 238-239.

[4] -Raphael Patai, Vol. III, pp. 1110-1120 (May 19, 1901)

[5] -نفس المرجع، ج 4 ص 1579 (23 يناير 1904).

[6] -Marvin Lowenthal (Ed), The Diaries of Theodor Herzl, The Universal Library, New York, 1956, p. 343.

[7] -Marvin Lowenthal, p. 360.

[8] -Raphael Patai, Vol. p. 1092 (May 8, 1901).

[9] -شاكر النابلسي، عصر التكايا والرعايا: وصف المشهد الثقافي لبلاد الشام في العهد العثماني (1516-1918)، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1999، ص 178.

[10] -نبيل فياض،  يوم انحدر الجمل من السقيفة،  منشورات الدار الفاطمية،  دمشق،  1993،  ص 79-80.

[11] -الدكتورة فدوى نصيرات، دور السلطان عبد الحميد الثاني في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين (1876-1909)، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2014، ص 95.

[12] -Raphael Patai, Vol. IV, pp. 1609-1613 (February 4, 1904).

[13] -Marvin Lowenthal, pp. 386-405, 413-414.

[14] -نفس المرجع، ص 427.

[15] -الدكتورة فدوى نصيرات، ص 168.

[16] -Marvin Lowenthal, pp.434-435.

[17] -محمد روحي الخالدي، السيونيزم أي المسألة الصهيونية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والمكتبة الخالدية، 2020، ص 85.

[18] -Marvin Lowenthal, p. 424.

[19] -Marvin Lowenthal, p. 127.

[20] -نفس المرجع، ص 172.

[21] -نفس المرجع، ص 149.

[22] -نفس المرجع، ص 156.

[23] -نفس المرجع، ص 172 و 173 و 413 و 427.

[24] -نفس المرجع، ص 372.

[25] -الدكتورة فدوى نصيرات، ص 146.

[26] - Marvin Lowenthal, p. 380.

[27] -نفس المرجع، ص 414.

[28] -نفس المرجع، ص 347.

[29] -نفس المرجع، ص 414.

[30] -هنري لورنس، مسألة فلسطين، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2006، ترجمة: بشير السباعي، ج 1 ص 166.

[31] -محمد روحي الخالدي، ص 60 و72.

[32] -هنري لورنس، ص 244.

قراءة 973 مرات آخر تعديل على الأربعاء, 09 آذار/مارس 2022 09:21

أضف تعليق


كود امني
تحديث