قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الإثنين, 07 آذار/مارس 2022 10:00

في ذكرى إلغاء الخلافة الإسلامية: السياسة تتلاعب بالتاريخ (2) 1/2

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(0 أصوات)

في مقال سابق، هو "في ذكرى وعد بلفور: السياسة تتلاعب بالتاريخ"، تحدثت عن الأثر الحاسم لتغير السيادة على فلسطين في قيام المشروع الصهيوني، و عن تلاعب السياسة المعاصرة بهذه الحقيقة لتبرئة نفسها من ذنب فلسطين و إلقاء "المسئولية الكاملة" على السابقين، و في هذا المقال أتابع بالحديث عن إهمال "تبدل السيادة" في الأبحاث ذات الصبغة الدعائية السياسية مما أدى إلى خلط المفاهيم و المصطلحات و أربك عملية القراءة عن تلك المرحلة.

۞أثر الصراعات السياسية في تشويه الحقائق التاريخية

في غمرة الصراعات الدموية التي تشهدها بلادنا في هذا الزمن، يستخدم الخصوم كل الأسلحة الممكنة للانتصار و الظهور على بعضهم البعض، و في هذه المعمعة، تستخدم الدعاية الإعلامية التاريخ في سبيل دعم مواقف أطرافها المتنازعة، فليس هناك أرسخ من الماضي لإثبات شرعية الحاضر، فهذا الزعيم هو سادس الراشدين و آخر هو هارون الرشيد، و ذاك هو صلاح الدين الأيوبي، و رابع هو محمد الفاتح، و يتلقى الخصم هذه الإعلانات مصادقاً عليها و هو متعجل للنزال و الدحض بدلاً، مثلاً، من تفنيدها بالفصل بين الماضي و الحاضر، كما يرفض المسلم بشكل قاطع أن يبلع طعم أعدائه، فيأبى الربط بين الصهيوني و سيدنا موسى عليه السلام، أو بين الفرنجي القديم أو المحافظ الجديد و سيدنا عيسى عليه و على كل الأنبياء السلام، و لكن هذا لا يحدث في صراعات بلادنا الحالية، يقول طرف أنا صلاح الدين، فيبلع خصمه الطعم و يتعجل و يطعن صلاح الدين ظاناً أنه يطعن خصمه، و تضيع الحقيقة و تتيه الأجيال و يداس وعيها و تدمر رموزها و ما تمثله من قيم في سبيل الصراعات على الأمجاد السياسية الزائفة.

۞الأهداف السياسية تطيح بالمصداقية

و تصرح الدعاية السياسية الحالية ضد تاريخ السلطان عبد الحميد الثاني، كما يقول مثلاً مؤلفو كتب "دور السلطان عبد الحميد" و "الذات المقدسة"، بأن غرضها سياسي معاصر هو الدفاع عن النماذج العربية الثورية أو دحض حجة الدول أو الحكومات أو الأطراف التي تتخذ السلطان مثلاً أعلى، و بعض هذه الكتب مثل "التاريخ المجهول: المفكرون العرب و الصهيونية و فلسطين" قدم دفاعاً فروسياً عن فلسطين ضد استبداد و تسلط العثمانيين، و لكن ما لبث مؤلفه أن أصبح مسئولاً كبيراً في حكومة ضربت الرقم القياسي في الديكتاتورية من جهة، و التآمر على فلسطين و مقاومتها، و الاستسلام للصهاينة و خدمة مصالحهم، و هو يصور كل ذلك بفجر الإنقاذ و وضع الأسس الجديدة لحياة أفضل، و تلك الأهداف السياسية من جهة، و الازدواجية في المثال و الواقع، كل ذلك في حد ذاته يطيح بمصداقية الدعاية السياسية لأنها قائمة على توظيف نفعي للماضي يضع النتيجة مسبقاً في خصومات مريرة فيلوي أعناق الحقائق الماضية في سبيل غرض جاء في وقت لاحق، فمن يزعم مثلاً أنه يريد دحض حجة أبي بكر البغدادي و هزيمة دولته، يمكنه ذلك و لكن دون المصادقة على زعمه بأنه امتداد لقرون مزهرة صنعتها الخلافة الإسلامية و شهد لها العدو قبل الصديق، فمن ينبري لمحاربة البغدادي و لكنه يقبل ادعاءه بالتطابق مع الماضي رغم وجود الفارق العظيم المدرك بأقل وسائل الإحساس بين الماضي و الحاضر، فإنه يثبت إما جهلاً فاضحاً أو غرضاً خبيثاً بتشويه حضارة هي من مفاخر التاريخ البشري، كما أن صاحب الفكرة الذي لا يلتزم بفكرته و يقتصر على ذم الآخرين حين يظن أنهم غير ملتزمين بها، يفقد المصداقية و لا يؤخذ كلامه على محمل الجد.

۞من وسائل التزييف: انتزاع المفاهيم من زمنها و إسقاطها على زمن آخر

و هكذا تصنع الدعاية السياسية ضد تاريخ السلطان عبد الحميد، ففي سبيل إثبات حججها المتغيرة حسب توجهات الأنظمة الحاكمة، تقوم بإسقاط هموم الحاضر على حوادث الماضي، و تنقل هذه الحوادث من زمنها إلى الزمن المعاصر فتكون النتيجة تشويهاً هائلاً للتاريخ: فما حدث في الماضي من تقديم طلبات لسكنى اللاجئين اليهود في الدولة العثمانية، مع القبول بسيادتها و قوانينها، و دون اقتطاع أي جزء من أراضيها، و ما تبعه من أحاديث تستطلع المطلوب و تقترح، مجرد اقتراحات نظرية، من شخصيات مختلفة المستويات و التوجهات، مسارات معينة لقبول هؤلاء اللاجئين هنا أو هناك تحت سيادة الدولة و قوانينها، و حتى هذا فشل كله في تحقيق أي نتيجة للطالبين، ينقلب كل ذلك بفعل الآلة الإعلامية إلى مفاوضات على بيع أراضي الدولة في المزاد و التخلي عن سيادتها لتثبيت كيان صهيوني مستقل، و هو ما يحدث في سياسات اليوم تماماً و لهذا يتبادر إلى ذهن القارئ البسيط و هو يرى ألفاظ: مفاوضات، يهود، صهاينة، عروض، بيع، استقلال، مستوطنات.

 و لكنه ليس ما حدث في الماضي، فهرتزل ليس بن غوريون، و لم يكن يملك قدرات الاستقلال، و أقصى ما طالب به هو الاستقلال الذاتي على غرار أقاليم أخرى في الدولة، و المفاوضات كانت على بيع عقاري كأي عملية شراء أرض أو بيت في أي مكان في العالم، و ليست تنازلاً عن السيادة، و قد جرت أصلاً لأهداف بعيدة كل البعد عن فلسطين و لهذا انتهت بفشل مسعى هرتزل لمّا تحقق الغرض العثماني، و لكن الإصرار على الانتقادات الدونكيخوتية يحفر في الصخر لاستخراج عيب مهما كان واهياً : طول فترة المفاوضات منح اليهود مكسباً من التسلل، مع أن هذا المكسب نفسه كان فاشلاً في تقدير أصحابه أنفسهم.

و لو كانت السيادة تنتقل ببيع العقارات لصارت السيادة على مناطق كثيرة و واسعة من بريطانيا و تركيا و لبنان لعرب الخليج اليوم، و العروض المقدمة آنذاك عروض لجوء ككثير من عروض اللجوء التي قبلت بها الدولة العثمانية منذ سقوط غرناطة، و ليست عروض استقلال، و البيع لا ينقل سيادة أصلاً، و مع ذلك لم يحدث، و المستوطنات اليهودية في فلسطين العثمانية ليست الكيان الصهيوني المتغوّل، و لم تكن كلها أصلاً تتبع الصهيونية، بل كان كثير منها تابعاً لخصوم الصهيونية من الباحثين عن المعيشة وحدها، و شراذم يهود القرن ١٩ الفارين من مجازر روسيا القيصرية بأحوال مزرية و لا يجدون من يستقبلهم و لا من يقدم الدعم لهم، ليسوا عصابات صهاينة النكبة التي اتفق على دعمها الشرق و الغرب، و الاستقلال الذي جرى الحديث عنه في ذلك الزمن هو الاستقلال الذاتي الذي كان السلطان عبد الحميد يمقته و يحذر منه و لكن غيره يرى الفائدة في حضور اليهود، و لم يفاوض أحد من العثمانيين على الانفصال التام كالذي جرى على فلسطين بعد ذلك بالقوة، و لهذا فإن إدانة الحوادث في زمن العثمانيين تعتمد على خلط المفاهيم، فما حصل عليه اليهود، أياً كان، كان في إطار السيادة العثمانية، و ما منع عنهم، كان خشية من استقلالهم الذاتي، و ليس من الانفصال الذي كان خارج كل الاحتمالات و لم يكن محل نقاش، كل ما حصل من التشدد أو التساهل أو التضييق أو الثغرات كان في إطار السيادة العثمانية، كما تتشدد اليوم أو تتساهل أي دولة تجاه الجاليات و الأقليات المقيمة فيها، لا يقال مثلاً إن سماح دولة عربية باستيراد مفتوح للعمالة الآسيوية لخدمة مواطنيها، يعني تساهلاً يؤدي إلى الخيانة العظمى بتسليم سيادة البلد للأغراب، لأن هناك دولة و هناك سيادة يتم في ظلها دخول الوافدين و يمكن أن يخرجوا بجرة قلم كما دخلوا، و تسهيل السيطرة السياسية الآسيوية يتطلب انقلاباً جذرياً في الأوضاع السياسية تصنعه حروب كبرى تغيّر ترتيب المنطقة من جذوره و تستغل مكوناتها السكانية في الرفع و الخفض خلافاً لما كان موجوداً و ذلك لتحقيق مصالح أطراف جديدة، و إن اطمئنان الدول الخليجية و مواطنيها اليوم رغم ضخامة الحضور الآسيوي الوافد، مستند إلى سيادتها القائمة، رغم التحذيرات من بعض المستشرفين لآفاق المستقبل، و لكن الحياة مستمرة في ظل واقع لا يتوقع أحد انقلابه من جذوره، و هذا ما حصل في بلادنا التي كانت مستندة إلى سيادة عثمانية عمرها قرون، و هي ليست مجرد دولة صغيرة، و لكن كل شيء انقلب رأساً على عقب بعد الحرب الكبرى الأولى، فلا نستطيع اليوم أن نلوم جزئية في السياسة العثمانية كما لا يمكننا أن نلوم استمرار تدفق العمالة الآسيوية في بلدان خليجية صغيرة، فالسيادة و زوالها هي الفرق الحاسم، و الزمن العثماني غير الزمن البريطاني و ما تلاه، و الظروف متباينة جداً.

۞حقيقة إطار الخلاف في الدائرة العثمانية على قبول الاستيطان اليهودي

هرتزل كان مجرد صحفي أفّاق و مغامر، و فلسطين في زمنه أرض عثمانية يسكنها غالبية عربية ساحقة ظلت كذلك إلى نهاية العهد العثماني مع أقلية يهودية غير مرئية، و هرتزل يطلب لليهود قطعة أرض يشتريها كما يشتري الغريب عقاراً في أي بلد للسكنى فيها و يحصل على الجنسية، و ليس لإقامة دولة منفصلة، فلا تصبح له السيادة على عقاره و يظل تابعاً للدولة التي فيها العقار الذي صار يملكه، فانتقال ملكية الأرض لا غبار عليه في هذا الظرف، مثل أي عملية شراء عقاري في كل العالم، و يكون الخلاف بين مسئولي الدولة على نفع هؤلاء اللاجئين للدولة، و ليس على استقلالهم عنها، الاستقلال هو ما يرفضه الجميع، و لم يكن قبولهم في الدولة قط قائماً على تمكين هؤلاء اللاجئين من تملك البلد و الاستقلال به و طرد أهله، و في هذا الإطار الاستيعابي صدرت كل الاقتراحات، و مع ذلك يرفض السلطان كافة العروض التي تمس هواجس الاستقلال الذاتي عنده، و لو كان هناك أي مسئول في إدارة السلطان، أو في أي دولة في العالم غير بلادنا، يفكر مجرد تفكير ببيع قطعة أرض من الدولة فضلاً عن أرض مقدسة لكان مصيره الطرد و العقاب الشديد بتهمة الخيانة العظمى بلا شك، حتى علي نوري بك الدبلوماسي العثماني في فيينا عندما عرض على هرتزل اقتراحاً مسرحياً من عنده بضرورة خلع السلطان عبد الحميد بعد قصف قصره بالبوارج لنجاح مشروع الاستيطان اليهودي[1]، لم يكن يعني التنازل عن سيادة الدولة بل العمل على نجاح مشروع رآه البعض مفيداً للدولة و ليس منتقصاً إياها، المعارضة كانت تتحدث عن خلع السلطان و لكن لا أحد يجرؤ على التحدث عن بيع أراضي الدولة، و لهذا كان تنصيب سلطان جديد في رأي أنصار الاستيطان في الدولة العثمانية سيفيدها.

 هذا كان رأي مخالفي السلطان عبد الحميد و منهم الاتحاديون، تحدثوا عن خلع السلطان و لكنهم لم يتحدثوا عن خلع سيادة الدولة على أي من أراضيها، بل كان مأخذهم على السلطان هو خسارته لبلاد احتلها الأوروبيون بقوة السلاح، و لما وصلوا هم إلى الحكم خسروا مساحات أوسع و لكن لم تتنازل الدولة في عهدهم عن سيادتها على أي أرض بلا دماء غزيرة و ظروف قاهرة تتراجع أمامها أي دولة مهزومة في العالم، نعم ظن الاتحاديون أن الاستيطان اليهودي سيفيد الدولة لا أنه سينزع سيادتها، هذا كان رأيهم لفترة قبل تراجعهم عن هذا الرأي، لا أنهم رغبوا في زوال الدولة أو التنازل عن سيادتها على أي قطعة منها أو بيعها في المزاد السلمي لأي جهة فضلاً عن جهة حقيرة كالمنظمة الصهيونية، لقد ظنوا كما ظن الصدر الأعظم خير الدين باشا التونسي و من وافق على المشروع في بداية عهد السلطان عبد الحميد أن دخول لاجئين أثرياء و متعلمين سينعش الدولة، لا أن يسلبها، و ذلك كما تستفيد أي دولة اليوم من الجاليات الأجنبية المقيمة فوائد مالية أو وظيفية أو دفاعية أو حتى سكانية، و هذا ما صرّح به صبحي بك متصرف القدس الذي خلف علي أكرم بك الذي كان السلطان عبد الحميد قد عيّنه ليتشدد في منع الهجرة و الاستيطان قبل عزله بسنتين، و لما جاء عهد الاتحاديين عينوا صبحي بك، كان رأيه حرفياً أن اليهود "مخلصين" للدولة و سيفيدها وجودهم من النواحي المالية و التجارية و الزراعية و العلمية[2]، كما استقبلت الدولة ملايين اللاجئين على مدى تاريخها و سكنوا إلى جانب أهلها، فلم يكن أحد يتحدث في استقبال اللاجئين عن بيع سيادة أو طرد أهالي أوعن التنازل عن فلسطين لسيادة أخرى.

 فيجب أن نفهم الظرف الذي جرى فيه أي تأجير أو بيع أو استيطان أو هجرة، لأن لفظ البيع قد يتضمن خيانة بالتنازل عن السيادة، و قد يكون أيضاً مجرد صفقة تجارية داخلية تتم في كل يوم في جميع أنحاء العالم، و الهجرة قد تكون هجرة استيطانية إحلالية كما يحدث اليوم في فلسطين، و كما حدث في الأمريكتين و أستراليا سابقاً بعدما تفاقمت أعداد الهجرات التي كانت في البداية سلمية و لاجئة، و قد تكون الهجرة لجوءاً كما حدث في فلسطين القرن التاسع عشر و في بلاد العرب بعد الربيع العربي، و ما يحدث في بورما و ما حدث في البوسنة سابقاً، و الاستيطان قد يكون إجرامياً إحلالياً و  قد يكون مجرد هجرة شرعية بموافقة الدولة صاحبة السيادة التي تطلب بنفسها المهاجرين بسبب توفر كفاءاتهم للاستيطان فيها كما تعرض بلاد المهجر مثل أمريكا و كندا و غيرهما، و مع ذلك تحرص على تطبيق قوانينها عليهم، و كما أكدت على ذلك الدولة العثمانية، و لكل هذا ففهم زمن و مكان المصطلح و ظروفه يوضح ما المقصود منه، و الباحث الذي لا يوضح ذلك لقارئه يجانب الأمانة العلمية و الرصانة التي يفترض تحليه بها.

 أما كون هجرة معينة انقلب حالها من اللجوء المعيشي إلى الاستيطان الإحلالي بعد زوال سيادة الدولة التي استقبلت اللاجئين و حلول سيادة جديدة حوّلتهم إلى مستوطنين إحلاليين فهذا ليس جريمة الدولة السابقة بل جريمة الدولة اللاحقة، و كثيراً ما شاهدنا في زمننا المعاصر جلاء جاليات كبرى كانت تعيش حياة اللجوء في دول رأت هذه الدول فيما بعد أن وجود هذه الأعداد الضخمة ضاراً بمصالحها، لأسباب اقتصادية أو لوجود خلافات سياسية، و لهذا تخلصت من هذه الجاليات بموجب سيادتها القائمة، فخرج مئات الآلاف أو حتى ملايين في مدد قصيرة، و هذا يعني أن وجود أي جالية في ظل سيادة لا يعني خطراً إلا بعد زوال السيادة و حينئذ لا ملامة على السيادة السابقة التي وافقت على دخول تلك الجالية.

۞واقع الأقلية اليهودية و مطالب هرتزل في ظل السيادة العثمانية

 الزعيم المصري الكبير مصطفى كامل باشا قابل هرتزل أكثر من مرة وأثنى على ولاء اليهود و سكونهم و حيادهم في الدولة خلافاً لغيرهم من الأقليات المتمردة و المتعلقة بالأجانب[3]، ذلك لم يكن خيانة و لا تنازلاً، فليس الباشا من الخونة و لا من المفرطين، هو رمز مقاومة شرسة للاحتلال الأجنبي و إخلاص متفان في ولائه للخلافة، و طهارة فريدة في تعلقه بالمثل العليا، بل و بصيرة كشفت له ما لم يعرفه غيره إلا بعد زمن طويل، و ما غاب عن كثيرين في زمنه، على صغر سنه في ذلك الوقت، و لكنه ينظر إلى واقعه الذي كان في زمنه، فاليهود كما رآهم أقلية ساكنة و ليست مرتبطة بالدول الكبرى التي كان الباشا يحاربها و يناضل ضد نفوذها الضار بحرية بلاده و بسيادة الخلافة الإسلامية، و ليس مطلوباً إليه التنبؤ بما سيحدث بعد عشرات السنين بعدما تتغير صورة العالم من جذورها بشكل غير متوقع، كلامه وصف لوضع أقلية لم تخرج عن حدودها تحت سيادة الدولة الإسلامية و لم تكن في وارد إعلان دولة مستقلة و هي ترى ما جرى في الأحداث الأرمنية بسبب رغبة القوميين الأرمن في الانفصال، هذا إطار الحدث التاريخي، و لكن مع ذلك فإن السلطان يرفض كل العروض، و رفضه كان بسبب رغبته في الحفاظ على الطابع العربي لفلسطين، و عدم إيجاد مشكلة أقلية جديدة ذات استقلال ذاتي، أما التنازل عن السيادة العثمانية هكذا بكل بساطة فلم يتحدث عنه مؤيد للهجرة و لا معارض، كان ذلك خارج كل النقاشات و الاحتمالات إلا لو سقطت الدولة نفسها، بل كان عرض هرتزل و كلام المؤيدين لهجرة اليهود و استيطانهم أن وجود اليهود سيقوي و ينهض الدولة، و أكد هرتزل للسلطان أن الدول الكبرى لا ترغب في هذا الإحياء، أي أن وجودهم سيكون داخلها للدعم و الإسناد[4]، و ليس للانفصال و الإضعاف، هذا كان محور الكلام مع السلطان، و يجب على من يريد شهادة هرتزل كاملة أن يطالع ذلك، و لكن السلطان يرفض كل الإغراءات لأنه يدرك نوايا الاستقلال الذاتي الذي يمقته (عندما كان هرتزل قبل وفاته بقليل في مقابلة مع ملك إيطاليا في يناير 1904، جرى الحديث عن فلسطين، قال هرتزل: نريد استقلالاً ذاتياً، فرد الملك: إنه (السلطان) لا يريد سماع هذه الكلمة، إنه يمقتها[5])، فيغادر هرتزل إسطنبول و يصرح بأن أحلامه تحطمت في وكر لصوص علي بابا، كما قال، و تغيير هذه الأوضاع كلها احتاج حرباً عالمية كبرى اندلعت بشرارة غير متوقعة و قلبت الواقع من جذوره، و جاءت بترتيبات جديدة كلياً هي التي منحت الصهاينة أوضاعاً مضخمة، لم يدرك أبعادها كثيرون إلى وقت متأخر.

 و بالمناسبة فقد استمر هذا الرأي الإيجابي في الهجرة اليهودية في فلسطين نفسها إلى زمن متأخر من عهد الانتداب البريطاني قبل أن تتضح الرؤية للجميع بجلاء و هم يرون كارثة المجازر و الطرد الجماعي الزاحفة عليهم، و حتى وقتئذ لم يكن حجم الكارثة واضحاً لأن الكثيرين ظنوا أنها معركة عابرة سرعان ما تنجلي و يعود الناس إلى بيوتهم لتناول الطعام الذي تركوه ينضج على نار هادئة قبل خروجهم، كما خرجوا و عادوا في أكثر من مناسبة قبل ذلك، في الحرب الكبرى الأولى في العقد الثاني من القرن العشرين ثم في الثورة الكبرى في الثلاثينيات.

۞الفروق الجذرية بين البيع الذي طلبه هرتزل من العثمانيين، و التنازل العربي الذي حصل عليه خلفاؤه

القصد أنه في قراءة التاريخ يجب قراءة الحدث في زمنه و ظروفه و ليس وفق معايير و ظروف أزمان لاحقة، و لا إسقاط هموم الحاضر على الحدث القديم، و ما يحدث اليوم من إطلاق دعايات سياسية يقوم على اقتطاع حدث التفاوض القديم من زمنه و إسقاطه على زمننا لإيجاد انطباع سلبي يستهدف الطعن في أطراف حية و معاصرة بحجة استرشادها بشخصيات الماضي، و هذا يشبه محاولة دحض الفكر الصهيوني بالطعن في الأنبياء الذين يزعم هذا الفكر أنهم مثله العليا، أو محاولة دحض الفكر المتطرف بالطعن في الإسلام نفسه رغم أن معظم مخرجات الإسلام التاريخية كانت مختلفة، و لكن توتر الحوارات في بلادنا تجعل أي طرف تواقاً لأي حجة تدعم موقفه حتى لو كانت واهية، و هذا هو حال اقتطاع المشهد التفاوضي بين الدولة العثمانية و الصهيونية من زمنه حيث طلب الصهاينة شراء أراض لإقامة لاجئين بزعمهم مع إقرارهم بالسيادة و القوانين العثمانية، فالاستقلال التام لم يكن وقت الحديث فيه آنذاك و هم يدركون ذلك جيداً و يؤكدون على رغبتهم في الخضوع للسيادة القائمة و السكن في ظلها، كما يفعل اليوم أي مشتر غريب لعقار في بلد أجنبي، دون حصوله على سيادة فوق عقاره، رغم صك الملكية، هذا كله يقتطع من سياقه التاريخي ويسقط على ظروف زمننا حيث المفاوضات على التسليم بالتخلي عن فلسطين لسيادة كيان أجنبي معاد قتل و طرد أبناء البلاد و أحل غيرهم محلهم، و صار خنجراً في قلب أمتنا، فيتصور القارئ أن مفاوضات الماضي هي نفسها تنازلات الحاضر، و هذا انطباع مزيف و محرف، من الاشتراك اللفظي في كلمة (المفاوضات)، و لهذا قال أحد متهمي السلطان إنه يكفي أنه "كان في حالة تفاوض" لإثبات تنازله و تفريطه، و لكن تمهل يا أستاذنا، فالتفاوض مع التسليم المسبق بالسيادة العثمانية على فلسطين يتناقض مع التفاوض مع التسليم المسبق بالسيادة الصهيونية على معظم فلسطين وفقاً "للشرعية الدولية" التي يقر بها الزعماء العظماء في زمننا، و التفاوض لاستقبال لاجئين يتناقض مع التفاوض مع الإقرار المسبق "بحق العودة اليهودي"، و التفاوض مع التلاعب بهرتزل لاستخدامه أداة في السياسة المالية للدولة البعيدة حتى عن نوايا البيع العقاري، يتناقض مع اللهاث خلف التفاوض مع مجرمي الحرب الصهاينة لإقناعهم بقبول استسلامنا لهم، و التفاوض الذي ينتهي بعلبة سجائر فاخرة يختلف عن التفاوض الذي ينتهي بتسليم فلسطين لسيادة الأعداء، و التفاوض ثم رفض التوقيع على مشروع صهيوني قدّم كل التنازلات للجانب العثماني، يتناقض مع تفاوض يلهث لتقديم التنازلات للجانب الصهيوني، و حين لا يوقع الزعيم الملهم فلأن الصهيوني المتغطرس هو الذي أفشل حفلة التوقيع، فالمشهدان متباعدان جداً، و لكن التزييف هو غرض الدعاية السياسية لتسجيل النقاط في الصراعات بين الأحياء التي تذهب بوعي الأجيال.

۞واقع طلبات لجوء اليهود للدولة العثمانية

و لو فكر أي مسئول عثماني في استقبال لاجئين في أي مكان في الدولة فهذا تماماً مثل استقبال اللاجئين في عاصمتها إسطنبول، كما تستقبل أي دولة أي لاجئين، و هو ما يحدث للاجئين السوريين اليوم و ما حدث للاجئي فلسطين في الماضي، و لا يفسر أحد ذلك بالبيع و التنازل، هذا كان موضع الخلاف في الدولة منذ عرض لورانس أوليفانت مشروعه الصهيوني على مسئولي السلطنة في بداية عهد السلطان عبد الحميد، قبل هرتزل بسنوات طويلة، فرضي به الصدر الأعظم خير الدين باشا التونسي و غيره من المسئولين و لكن عندما وصل إلى السلطان نفسه رفضه رفضاً قاطعاً، و لا يقال هنا إن الصدر الأعظم كان بصدد بيع السلطنة هو أو غيره، ما طرحوه كان مجرد استقبال لاجئين رأى البعض أن إمكاناتهم مفيدة للدولة و سيكونون تحت سلطتها و قوانينها، و هذا ما يجب أن نفهمه في ضوء ما حدث في طول التاريخ الإسلامي و عرضه من استقبال اللاجئين وتطبيق الامتيازات الأجنبية التي قدمتها الدولة في زمن قوتها و استقبلت بموجبها جموعاً من التجار الأوروبيين و سهّلت تجارتهم و إقامتهم، و كان منهم تجار يهود أفادوا الحركة التجارية في ذلك الوقت، ثم تحوّل الأمر تدريجياً إلى الآثار السلبية مع تزايد ضعف الدولة بمرور الزمن و مضيّ الوقت و طول العمر، هذا كان الإطار التاريخي لتعامل المسلمين و العثمانيين خاصة مع اليهود، و ضمن ذلك يوضع تعبير السلطان عبد الحميد عن حمايته الدائمة و صداقته لليهود لو بحثوا عن (ملجأ) (refugeفي أراضيه[6]، هؤلاء اللاجئون هم الاستمرار للاجئين طوال التاريخ العثماني، و مع تداخل المراحل التاريخية و بدايات الشعور بخطر التدخل الدولي بفكرة (الاستقلال الذاتي) و ليس (الدولة المستقلة) بدأت عملية تقنين الاستقبال في أماكن محددة بصفتها (ملاذات) و ليست (كيانات مستقلة)، يمكن لكبراء اليهود (شراء عقارات لسكن اللاجئين فيها) تحت سيادة و قوانين الدولة العثمانية و ليس (لإعلان استقلالهم فيها)، و تستفيد الدولة من قدراتهم المالية والعلمية في (الترقي) كما يحدث في أماكن كثيرة في العالم و ليس (بالانفصال) عنها، هذا ما جرى بحثه في (المفاوضات العثمانية) في غياب قوة إجبارية كبرى، و هي مفاوضات تختلف عن (المفاوضات في الزمن العربي) حيث الإكراه الدولي سيد الموقف الذي تتحكم فيه الدول الكبرى داعمة الصهاينة و لم يكن ذلك حاضراً زمن التفاوض العثماني بل كانت الدول الكبرى تتهرب واحدة إثر الأخرى من تبني المشروع، و التوجه الذي رضي باستقبال اليهود، كان ينظر إلى فوائد الاستقبال و مصلحة الدولة منه، أما المعارضون و على رأسهم السلطان عبد الحميد، فكانوا يخشون فتح الباب للتدخل الدولي القميء الذي لم يكن موجوداً آنذاك إلا بتدخلات جزئية من سفراء و قناصل ودبلوماسيين، تدخلات ليست جذرية و لا تقلب المشهد السياسي في فلسطين و من هنا كان التجاوب مع بعضها محصوراً في دائرة استمرار الوضع القائم هناك، و من غير الموضوعي النظر بأثر رجعي إلى هذا التاريخ كله من العدسة الصهيونية الضيقة التي نشأت صغيرة في وقت متأخر من القرن التاسع عشر، ثم من النكبة الفلسطينية الضخمة بعد ذلك، فلم يكن التصور القائم في زمن بدايات الهجرة سوى استمرار لمشاهد الأقليات العديدة و اللجوء المستمر و مستوطنات التجار الأجانب الكثيرة، و لم يكن البحث في التنازل عن السيادة التي لم يتركها العثمانيون إلا بحروب طاحنة ودماء غزيرة، و هذا هو الإطار التاريخي للحدث و من التزييف نقله إلى ظروف الصراع مع الاستيطان الصهيوني زمن الانتداب البريطاني ثم الكيان الصهيوني منذ منتصف القرن العشرين، فجعل عبارة قالها السلطان عبد الحميد في ذكر الأمان الذي يعيش فيه اليهود في عموم الدولة العثمانية، و أن ذلك لا يستلزم الموافقة على المشروع الصهيوني، و قصده الفصل بين التسامح و الاستسلام، فتقلب الدعاية السياسية قصد كلامه فتضخمه و تجعله "أكبر عامل جذب لليهود إلى فلسطين" دون الالتفات لعوامل الجذب التاريخي الحقيقية التي صنعت الكيان الصهيوني، أو إلى النتائج التافهة التي حققتها الهجرة في ظل هذا "العامل الأكبر"، و تزعم أن الدولة العثمانية "لم تفعل شيئاً" لمقاومة الهجرة، و هذا كله كذب و تزييف، لأن من يتوقف عند عبارة و يقلب مفهومها و يضخم نتائجها بشكل سلبي، و في نفس الوقت يتغاضى عن كل الإجراءات العملية التي قامت بها الدولة ضد الاستيطان، و يتغاضى عن الإجراءات العملية التي سلم بها العرب فلسطين لبريطانيا و الصهيونية، و عن عبارات زعمائهم الواضحة في قصد الاستسلام دون أي تحريف، هذا كله لا يمكن وضعه في دائرة الغفلة أو السذاجة، هذا كذب مقصود لغايات دعائية سياسية غير شريفة.

۞النقاش عندما يجري على أساس غير تاريخي

 و لكن ما يحدث للأسف هو قصور في النظر من جانب المهاجم و المدافع على السواء، يقول الناقد: دخل مهاجرون و أقيمت مستوطنات يهودية في زمن الدولة العثمانية، فيرد المدافع بمحاولة خفض الأرقام و تقليل النسب، و ينسى الفروق الجذرية بين عصرين، في حين أن النقاش كله يسقط عصراً ماضياً على زمننا فترتبك الأفهام، حيث يغرق الباحث من الطرفين في لحظته الحالية و يسحب ظرفها الصهيوني الطارئ على كل الماضي الطويل الذي لم يعرف أي صهيونية، و يأتي المدافع بعد أن يبلع الطعم و يتشرب الهجوم فيرد من الموقع الدفاعي الضعيف الذي وجد نفسه فيه و يجهد نفسه في النفي و الإنكار و التخفيض من مظاهر الحضور اليهودي دون أن يخطر بباله أن لاجئي غرناطة و من تبعهم في القرون التالية يختلفون جذرياً عن مهاجري الانتداب البريطاني و اليهود السوفييت في القرن العشرين و يهود أوكرانيا اليوم، و أن استقبال لاجئي روسيا كان في البداية استمراراً لتقليد التسامح المتبع في الدولة العثمانية منذ زمن بعيد، و ليس كالإقرار "بحق العودة اليهودي" في القرن العشرين، و أن مفاوضات البيع بين الدولة العثمانية و اليهود كانت تختلف جذرياً عن بيع فلسطين في زمن النكبة و ما بعدها، الأولى مجرد محاولة لشراء عقار للسكنى تحت سيادة الدولة للعيش في جوار سكانها حتى لو نشأت صراعات جيرة كما نشأت بوجود مختلف اللاجئين في الدولة حتى المسلمين منهم، و ما تم من بيع بشكل مشروع أو غير مشروع، كان في هذا الإطار، و لم يقلب وضع فلسطين و ما كان له أن يقلبه مع استمرار سيادة الدولة الإسلامية التي يبدو أنهم نسوا ما اتهمت به من تعصب و حصرية تمثيل للعنصر الإسلامي، و أشد المخاوف كانت هي زيادة الأعداد اليهودية التي قد تؤدي إلى مشكلة استقلال ذاتي على غرار المطالب القومية الأرمنية أو مشكلة جبل لبنان الذي صار ذريعة للتدخل الأجنبي، أو مشاكل البلقان، أما الكيان اليهودي المستقل فكان خارج كل الحسابات و لم ينشأ فعلياً إلا على جثة الدولة العثمانية كما قال السلطان عبد الحميد بالضبط، و لكن بيع فلسطين في منتصف القرن العشرين و ما بعده كان تنازلاً عن ملكية العرب لهذا البلد و تسليمه للسيادة الصهيونية التي استبعدت الفلسطينيين، فالإطار العثماني للحدث يختلف عن إطار دول الاستعمار ثم دول التجزئة العربية، و أهل فلسطين أنفسهم شعروا بفطرتهم بالفروق الجوهرية منذ بداية انقلاب الأوضاع بعد الحرب الكبرى الأولى، فثوراتهم العنيفة بدأت آنذاك، و مطالبهم و عرائضهم للسلطات البريطانية كانت تفرّق بوضوح بين اليهود الذين دخلوا قبل الحرب، أي في الزمن العثماني، و المهاجرين الذين أتوا في ظل الانتداب و الوعود و السياسات البريطانية، و هذا ما يجب أن يؤخذ في الحسبان للخروج بنظرية تفسر أكبر عدد من الحقائق لتكون أكثر قبولاً بدلاً من الاتهامات السطحية.

۞لماذا اختفت تهمة التعصب و الاستبداد فجأة من صفحة الدولة و السلطان عندما تعلق الأمر بعروض البيع المزعومة لليهود؟

ولا أدري كيف يفوت علينا أن كثيراً من المؤرخين و الباحثين ملئوا الدنيا صراخاً و هم يلقون الاتهامات على تعصب الدولة الإسلامية و عدم مسايرتها لتسامح العصر الحديث، و الشكوى عبر الأجيال من استبداد و فردية و تسلط السلطان عبد الحميد، الذي لا رأي لسواه في الدولة، فكيف جاءوا اليوم ليقيموا وزناً لكلام عابر لأي شخص غيره في الدولة ككاتب أو موظف؟ و ما هي التهمة: التنازل عن سيادة المسلمين و بيع أراضيهم لليهود، فأي تسامح هذا الذي فاتهم؟ و من المحزن أن يفوت الباحث بديهية وضع الحدث في ظرفه و زمنه حيث كان هرتزل نفسه مجرد صحفي بارز، و لكنه يرى نفسه بلا قيمة[7] رغم محاولاته لتضخيم إنجازاته، استقبله السلطان بهذه الصفة و كونه زعيماً يهودياً و ليس بالصفة الصهيونية[8]، و هذا يختلف جذرياً عن وضع قادة الكيان الصهيوني بعد نصف قرن، لا يجوز النظر إلى مقابلة السلطان لهرتزل كالاستسلام لبيغن و شارون، أو الزعم أن السلطان تنازل لهرتزل في موضوع لم يطالب به هرتزل أصلاً، و رفض مقايضته، و هو الاستيطان التسللي، ثم الادعاء بأن مماطلة السلطان منحت اليهود هذا المكسب، مع أن الاستيطان التسللي نفسه فشل في النهاية بسبب مواقف السلطان و عاد أصحابه إلى رؤية هرتزل الباحثة عن رعاية دولة عظمى تنتشلهم من الفشل و اتجهوا إلى بريطانيا التي منحتهم وعد بلفور بعد فشلهم مع السلطان، فلا يجوز نحت انتصارات وهمية للأعداء لمجرد الدخول في صراعات حزبية مع الأحياء و تسجيل نقاط لصالح زعامات هي رموز للتفريط.

هؤلاء يخلطون الأوراق ضمن رغبتهم الجامحة في جمع النقاط و التنقيب عن العيوب في الماضي و التي يغفلون عنها في زمننا، ثم يدينون مقابلة هرتزل و لكنهم يبررون الانبطاح لبيريز و رابين و اللهاث خلف التطبيع مع نتنياهو و التوقيع على وديعة رابين كأنها وصية رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، مع أن أهلها أنفسهم تخلوا عنها مما بدد أحلام باعة الشعارات علينا بعقد الصفقات مع أعدائنا، و لكن رب ضارة نافعة لهم، فإن استمرار عناد العدو و تأخر التوقيع حتى الآن، يديم وهم الرجل الذي لم يوقع، مع أنه في الواقع يتوق للتوقيع و يحلم ليل نهار بالرضا و القبول من العدو، الراغب ظاهراً، الممتنع واقعاً، ثم تعالوا أتقنوا لوحة البطولة الوهمية بصرف الأنظار إلى أعداء وهميين و ركّبوا لهم صوراً بالقص من الزمن البعيد و اللصق في الزمن الحاضر ليظهر الفوتوشوب على المقاس تماماً : البطل المقاوم هو القائد الحالي الملهم الذي يرفض التوقيع و الاستسلام، و الخائن هو ذاك الميت الذي فاوض و عرض و تساهل و غض النظر، و كل ذلك قص و لصق حسب الطلب، أما كيف رُكّبت هذه الصورة البعيدة كل البعد عن الواقع؟ فهذه مهنة البحث السياسي الذي يريد أن ينير العقول العربية البسيطة التي داعبت عواطفها كتابات كثير ممن هم، لسوء حظ السياسة، من المتخصصين المتمكنين من التاريخ، و عندما ترفض هذه العقول البسيطة أبحاث التركيب الإعلامي التي لم يجرؤ عليها أحد حتى الآن بانتظار قدوم المهدي الثقافي، فهذا هو الهجوم الشرس الذي يقيم الدنيا و لا يقعدها بسبب حقيقة بسيطة و لكنها مزعجة للسياسة و هي أن الشجاعة تكون أمام القصور و ليس أمام القبور.

۞من الذي باع بلادنا؟ و أين حدثت الثغرات؟

إن الذين باعوا حلب و فلسطين و العراق و بقية بلادنا لبريطانيا و فرنسا هم أجداد الذين يتهمون اليوم السلطان العثماني الذي خرجت قواته مرغمة من حلب و بقية بلادنا بحرب دموية ضروس لحمايتها من الذين سلموها للإنجليز و الفرنسيين الذين استحوذوا عليها ثم طردوا حلفاءهم و خدمهم منها فتبددت أحلام الثوار بالملك و الوحدة و الاستقلال، و لهذا يجب أن نفهم في ضوء هذه الحقيقة المحزنة أن كل ما يمكن أن يوصف بالثغرات في السياسة العثمانية تجاه اليهود، لم يكن في زمنه ثغرات حقيقية لأنها تمت في ظل دولة كبيرة راسخة منذ قرون و لم تتنازل عن سيادتها، و كل ما قدمته أو غضت النظر عنه، أو غفلت عنه، أو حدث بالتسلل دون علمها، كل ذلك كان في إطار التعامل مع لاجئين تتفاوت سياسات كل الدول في العالم و التاريخ تجاههم، فمرة تستقبلهم بترحاب، و مرة ترفض دخولهم، و تارة تضيق عليهم، و أخرى تهملهم، و رابعة تطردهم، و هكذا، فالتعامل مع لاجئين في ظل سيادة عثمانية قائمة و راسخة منذ قرون يختلف بل يتناقض مع التعامل مع غزاة مستوطنين خارج سيادتنا كما يحدث في واقعنا الحالي.

۞هل كان السلطان بصدد بيع الأناضول أيضاً؟ و هل كان استقبال لاجئي غرناطة بيعاً أيضاً؟ و هل باع صلاح الدين فلسطين للصهاينة أيضاً؟

موقف السلطان عبد الحميد من فلسطين و القدس ليس متوقفاً على وثيقة أو عبارة في مذكرات، الموقف مسجل في مرحلة تاريخية طويلة، نتج عنها نتائج واضحة إذا قورنت بما بعدها، يقولون إن السلطان عرض على هرتزل حلب و العراق و أماكن أخرى، فهل ركزوا في هذه الأماكن الأخرى ما هي؟ إنها الأناضول نفسه، السلطان عبد الحميد عرض استقبال اليهود اللاجئين كما كانت الدولة العثمانية تستقبل المظلومين من شتى الدول الأوروبية الإنسانية التي تضطهد المسحوقين فيها، كان الاستقبال في أرجاء الدولة العثمانية كلها، لاسيما الأناضول التركي نفسه، و في العاصمة نفسها، حيث استقبلت الدولة العثمانية الملايين من لاجئي القوقاز ...

يتبع...

قراءة 583 مرات آخر تعديل على الأربعاء, 09 آذار/مارس 2022 09:16

أضف تعليق


كود امني
تحديث