قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 18 حزيران/يونيو 2015 09:52

إنجازات الدولة العثمانية بصفتها آخر نسخ الخلافة الإسلامية 2/ 1

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان من فلسطين الشقيقة
قيم الموضوع
(11 أصوات)

لقد أدت مؤسسة الخلافة الإسلامية التي يسارع بعض الإسلاميين في زمننا للتبرؤ من السعي لإعادتها، و ذلك لنيل الرضا الغربي، عدة وظائف حيوية لبلادنا حتى في أشد حالات التراجع و الضعف في آخر أيامها، و الدارس تاريخ هذه الحقبة يرى بوضوح أن الدولة القُطرية عجزت في أزهى أوضاعها عن تحقيق إنجازات الخلافة في أضعف حالاتها، و لهذا ليس من دواعي الإعجاب أن تتأقلم الحركات الإسلامية مع واقع دولة التجزئة.

1-الوحدة السياسية: في ظل الخلافة الإسلامية تحققت وحدة بلادنا العربية فعلياً لا إسمياً، و من المفارقات أن آخر عهدنا بالوحدة العربية كان في ظل الخلافة العثمانية التي بناها الأتراك، و قد وصف ذلك أحد رواد القومية العربية الأستاذ أحمد الشقيري (1908-1980) أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية الذي عمل أربعين عاماً في الدبلوماسية و العمل السياسي العربي، و ذلك في كتابه الذي يؤرخ مسيرة الوحدة العربية تحت عنوان"علم واحد و عشرون نجمة" و في فصل"الوحدة العربية من بغداد إلى القسطنطينية"، حين قال: "في أوائل القرن السادس عشر للميلاد شهد التاريخ موكب الوحدة العربية ينتقل من بغداد على ضفاف دجلة إلى القسطنطينية على ضفاف البوسفور، و بدأت مرحلة جديدة في تاريخ الأمة العربية و امتدت أربعمائة عام من غير زيادة و لا نقصان، كأنها في حساب مع الزمان، و قد يعجب المواطن العربي أشد العجب حين يقرأ هذا العنوان الصارخ، يباغته من غير مقدمة و لا ديباجة، و يصيح في أذنه بأن الوحدة العربية قد ارتحلت من بغداد و استقرت في القسطنطينية...كيف يمكن أن تصبح القسطنطينية مقراً للوحدة العربية و هي التي بناها قسطنطين الأكبر في القرن الرابع للميلاد...و أصبحت في ما بعد عاصمة الإمبراطورية الرومانية الشرقية، هذه القسطنطينية كيف يتصور العقل أن تغدو عاصمة للوحدة العربية، بعد أن كانت في المدينة المنورة أيام الخلفاء الراشدين، و في دمشق أيام الأمويين، و في بغداد أيام العباسيين، و لكن الوقائع التاريخية تبدد العجب مهما كان ثقيلاً، بل إنها لتضع المواطن العربي أمام حقيقة أخرى، و هي أن القسطنطينية لم تكن عاصمة الوحدة العربية فحسب بل كانت آخر عواصمها، و من بعدها بدأت مرحلة التجزئة و الانفصال التي ما نزال نعيشها إلى اليوم" ثم يستفيض في شرح التاريخ العثماني و مآثره كمواجهة الروم و الدفاع عن الأمة ضد الإسبان و يعقب بالقول إن "كل ذلك جعل الأمة العربية متعاطفة مع الدولة العثمانية، و راضية بوضع الخلافة بين يديها، ناسية أو متناسية الشرط الديني المعروف بأن يكون الخليفة عربياً و قرشياً و هاشمياً، فإن الانتصارات التي حققها العثمانيون تحت راية الجهاد لم تترك مجالاً للنقاش حول شروط الخلافة و مؤهلات الخليفة، و النصر هو الفتوى حين تتقدم الفتوى، و اكتشفت الجماهير العربية أن شريف مكة السيد بركات قد سلم مفاتيح الكعبة إلى السلطان العثماني، و لا زيادة بعد ذلك لمستزيد، و لذلك لم يكن غريباً أن يعتبر العرب أن الدولة العثمانية هي دولتهم و أن الخلافة هي خلافتهم، و أنهم هم رعاياها المفتخرون بانتصاراتها"[1].

و لم تستطع كل أنظمة التجزئة القُطرية أن تعيد و لو جزئياً هذه الوحدة حتى مع سيادة الشعارات القومية التي كفّت عن أداء دور عملي حاسم بعدما أدت للحلفاء في الحرب الكبرى الأولى (1914-1918) خدمة انفصال العرب عن الأتراك، و إنه من المثير أن نسمع قائداً ميدانياً بريطانياً في الثورة العربية الكبرى (1916) كلورنس يؤكد في رسائله السرية على أن " نشاط (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه يتماشى مع أهدافنا المباشرة: تفتيت الجبهة الإسلامية و هزيمة و تمزيق الإمبراطورية العثمانية...و إذا عولج العرب بطريقة مناسبة سيظلون في حالة من التشرذم السياسي، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة و غير القابلة للتماسك"[2].

و يقول في مكان آخر:"مهما نتج عن هذه الحرب، فيجب أن تقضي نهائياً و إلى الأبد على السيادة الدينية للسلطان"[3]، و يؤكد على طرح فكرة الخلافة العربية التي ستشعل الحرب الأهلية بين المسلمين و"سنقضي على خطر الإسلام...و سيتقلص شأنه كما كانت البابوية في أفنيون"[4](و هي فترة ضعف و وهن في حياة البابوية تسمى بالأسر البابلي للكنيسة لأن مقر البابوية انتقل من روما بين سنتي 1309-1377 تلاها انقسام بابوي في الفترة 1378-1417).

و العجيب أن بريطانيا التي دعمت فكرة الخلافة العربية و دعمت ثورة الشريف حسين امتنعت عن الاعتراف بخلافته بعدما حقق لها مرادها بالانفصال عن الأتراك، و قد كشف الزعيم الوطني مصطفى كامل عن مخطط الإنجليز في دعم معارضي الخلافة -التي كانت عدة شعوب تتطلع إليها "لمساندتها في كفاحها ضد الاستعمار البريطاني و الفرنسي و الروسي، و قد شملت هذه الشعوب المسلمين الهنود و تركمان آسيا الوسطى بالإضافة إلى شعوب شمال إفريقية و المغرب العربي"[5]-بقوله في المسألة الشرقية:" فأوعزوا إلى فئة من الدخلاء الذين لا وطن لهم و لا شرف و لا عقيدة بالطعن على جلالة الخليفة الأكبر و السلطان الأعظم و تشويه أعمال الدولة العلية و أحوالها"[6]، و العجيب أن هذه الوجوه التي عدت ضمن رواد النهضة العربية عملت بالتعاون مع بريطانيا و أصدرت الفتاوى للقتال إلى جانبها كانت لها مواقف مخزية فيما يتعلق بالهجرة الصهيونية إلى فلسطين بين صامت و مرحب و مستيقظ بعد فوات الأوان، و الأعجب أننا ما زلنا نكرر الخطايا نفسها إلى يومنا هذا.

2-الحماية العسكرية: تصدت دولة الخلافة بنجاح كبير للحملات الصليبية التي واصلت أوروبا شنها على بلاد الإسلام بعد هزيمة ممالك الفرنجة في المشرق، فصنعت بذلك التصدي أياماً حاسمة لحقت بالحروب الأولى و انتصاراتها مثل معركة كوسوفو (1389) و معركة نيقوبوليس (1396) و فتح القسطنطينية (1453) و فتح قبرص(1571) [7]، و توغل العثمانيون بسرعة البرق في الداخل الأوروبي و وصلوا أسوار فينا (1529-1683)، و تمكنوا من حماية العالم العربي من الاحتلال أربعة قرون[8]، و صدوا بكفاءة كبرى الحملات الصليبية الإسبانية و البرتغالية التي انطلقت مسعورة على الشمال الإفريقي و البحر الأحمر و الخليج عقب سقوط غرناطة سنة 1492، و دخلت الولايات العثمانية في شمال إفريقيا فيما سماه الأستاذ أحمد توفيق المدني "حرب الثلاثمائة سنة" ضد إسبانيا و دول أوروبا للدفاع عن الوجود العربي الإسلامي حتى أن هذه الولايات أصبحت صداعاً مزمناً للغرب الأوروبي و الولايات المتحدة الناشئة، و وصلت السفن الحربية العثمانية إلى الهند و أندونيسيا[9]، و لم تضعف دفاعاتهم إلا في القرن الأخير من عمر الخلافة بدءاً من سقوط القرم تحت الاحتلال الروسي و الحملة الفرنسية على مصر سنة 1798، و مع ذلك ظل للدولة حضورها و أهميتها الدولية و كان استقلال حكام الأقاليم عن مركزها هو المقدمة اللازمة لوقوعهم في براثن الاستعمار الغربي كما حدث في مصر (1882) و تونس (1881) و مشيخات الخليج في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، و يكفي أن الخلافة صدت الخطر الصهيوني عن بلادنا"و أزالت هزيمة العثمانيين آخر العقبات أمام هجرة اليهود و شرائهم للأراضي"[10]، و في الوقت الذي سلم حكام العرب المرتبطون بالغرب فلسطين لقمة سائغة للصهاينة، نرى سلطان الدولة العثمانية يتكلم عنها بحماسة القوميين العرب، مع أن فريقاً كبيراً من هؤلاء أيضاً لم يتردد عملياً في الترحيب بالصهاينة في فلسطين، و ذلك حين قال في مذكراته السياسية:"لدينا عدد كاف من اليهود، فإذا كنا نريد أن يبقى العنصر العربي متفوقاً، علينا أن نصرف النظر عن فكرة توطين المهاجرين في فلسطين"[11]، و لما حاول هرتزل إغراء السلطان ليمنحه، مقابل ميزات لم يقاوم عشرها أي من حكام التجزئة، أجزاء أقل بكثير مما حصل اليهود عليه في ظل الدولة القطرية،أجابه:"لقد حاربت الكتيبتان السورية و الفلسطينية في بلافنا (ملحمة وقعت أثناء الحرب مع روسيا سنة 1877) و استشهد رجالهما واحدا بعد الآخر لأن أحدا منهم لم يرض بالاستسلام و فضلوا أن يموتوا في ساحة القتال"[12]،هذا مع أن معركة بلافنا كان قد مر عليها ما يقارب عشرون عاماً زمن المقابلة و لكنها مع ذلك ظلت حية في وجدان السلطان عبد الحميد في مشهد افتقدناه في حكام العرب أنفسهم مع شعوبهم، و في الوقت الذي كان فيه هذا السلطان يخسر عرشه من أجل فلسطين كما وصفه الأستاذ رفيق شاكر النتشة في عنوان كتابه، كان رواد النهضة و قادة الثورة و أساتذة أجيالنا يقدمون العروض السخية بالتعاون مع الصهيونية.

و ظلت دولة الخلافة حتى آخر حرب دخلتها و هي الحرب الكبرى (العالمية)الأولى قادرة على مواجهة الدول الاستعمارية الكبرى و تحقيق انتصارات عليها كما شهدت بذلك معارك غاليبولي و فلسطين و الكوت، هذا إذا لم نذكر انتصاراتها قبل ذلك على اليونان (1897)و صمودها أمام الزحف الروسي (1877) في بلافنا و غيرها، و في هذا يقول كواترت:"إن هذه الإمبراطورية بقيت تكافح للمحافظة على نفوذها حتى أيامها الأخيرة في الوقت الذي كانت الإمبريالية الأوروبية في ذروة تسلطها و حين كانت الإمبراطوريتان البريطانية و الفرنسية تسيطران على معظم مناطق المعمورة، و في أواخر القرن التاسع عشر لم يكن هناك سوى قلة قليلة من الدول المستقلة خارج القارة الأوروبية، و لعل أهمها، الدولة العثمانية و الصين و اليابان، و بصفتها دولاً مستقلة كانت آنذاك محط آمال الشعوب الآسيوية المستعمَرة في كفاحها ضد الإمبريالية الأوروبية"[13].

و من الجدير بالذكر أن مراقباً قديراً كالزعيم المصري الكبير مصطفى كامل باشا تعجب، أثناء سرده التاريخي للضربات التي تلقتها الدولة العثمانية من أعدائها، من بقائها حية هذه المدة الطويلة و ليس من تراجعها[14]، و قد شاركه الرأي مؤرخون محدثون كثريا فاروقي[15]و نيكولاس دومانيس[16]، و رغم الضعف الذي أصاب الخلافة في آخر أيامها و انحسار ممتلكاتها فإنها لم تعترف للمحتلين بما سلبوه من أراضيها حتى لو كانت في مجاهل إفريقيا[17]، و ظلت الدول الاستعمارية الغربية حريصة على انتزاع اعتراف من ورثة الدولة العثمانية بالتخلي عن حقوق الخلافة فيما انتزعته من أراضيها، كما هي اليوم حريصة على انتزاع اعتراف فلسطيني بشرعية الكيان الصهيوني، و تم لها ذلك في معاهدة لوزان سنة 1923التي وافق فيها الحكم الكمالي على هذا التنازل عن كل أراضي العثمانيين ما عدا تركيا، و لهذا أشار بعض المؤرخين إلى أن الدولة مكثت حاجزاً، حقيقياً أو شكلياً، في وجه الأطماع الأوروبية الاستعمارية عدة قرون[18].

و الغريب بعد كل هذا أن يحاول التغريب وصم العثمانيين، الذين تصدوا للاحتلال، بصفة الاحتلال و هي الصفة الأقرب إلى زعماء التغريب أنفسهم الذين عملوا كالأزرار التي كانت تشغل لتلبية حاجات المستعمرين كلما ضغطوا عليها، و أحياناً وصموا الدولة العثمانية بالتعاون مع الاستعمار على احتلال أراضيها هي (!) و كأنها واحد من زعامات التجزئة التغريبية الذين كانوا يسيرون في ركب المستعمر ضد بلادهم و إخوانهم، و غاب عن المتغربين أن بلادنا لم تكن مجرد أخ أو جار للعثمانيين بل جزء لا يتجزأ من دولتهم الكبرى، فكيف لهم أن يعاونوا الغرب ضد أنفسهم، و لعل أكثر الحوادث التي استدلوا بها هي الموقف العثماني من الاحتلال البريطاني من مصر (1882)و الإعلان عن عصيان أحمد عرابي باشا، و لكن عليهم أن يهدئوا من روعهم قليلاً و ألا يفرحوا بهذا الاستدلال كثيراً و أن ينظروا لآراء جملة من عمالقتهم، كأستاذ جيلهم أحمد لطفي السيد و الشيخ محمد عبده و أحمد فارس الشدياق، في أحمد عرابي ثم يلتفتوا إلى غيرهم ليعيبوهم، السلطان عبد الحميد لم يعط شرعية للجيش البريطاني في أي وقت، و يجب أن نذكر أيضاً أن السلطان في بداية المواجهة مع الإنجليز منح أحمد عرابي رتبة الباشوية، و في تقويم الزعيم مصطفى كامل باشا أن هذه الخطوة أيضاً تمت بخداع بريطاني، و يعجب من ثناء عرابي على إنسانية بريطانيا و إنصافها و اعتدالها بعد مذبحة الاسكندرية و يرجو منها تحرير أهل البلاد و تحقيق راحتهم و حفظهم، و يخلص إلى أن بريطانيا خدعت في المسألة المصرية كلاً من السلطان و الخديو و عرابي و حزبه[19]، و لعل هذا هو سبب العداء العثماني للإنجليز فيما بعد و قد أجمع مؤرخو الأحداث على أن مكانة بريطانيا في الدولة العثمانية تغيرت جذرياً بعد احتلال مصر و أصبح السلطان عبد الحميد يتبع سياسة وصفت بأنها Anti-British [20].

المهم أن مجمل الأحداث يكشف أن جميع خطوات السلطان فيما فعله مع عرابي كانت لتفادي دخول الإنجليز مصر، سواء بتشجيعه على المقاومة أو بالمزايدة على موقفهم لإبعاد شبح احتلالهم، و لذلك رفض مشاركة الجيش العثماني للجيش الإنجليزي في عملية الاحتلال، و كان في هذا الموقف بين نارين: إما تأكيد سلطته على مصر بمعاونة الإنجليز و إما التخلي عنها لصالحهم، أي أنهم داخلون في كل الأحوال فاختار النأي بالخلافة عنهم و رفض مشاركتهم فوقع الاحتلال، و كان من الصعب أن يوافقهم في ضوء سياسة الجامعة الإسلامية كما يقول الأستاذ الدكتور عبد العزيز الشناوي رحمه الله[21]، و قد لام مصطفى كامل باشا السلطان على هذا الموقف  و فضل لو دخلت الخلافة لتأكيد حضورها[22]، هاجس السلطان عبد الحميد كان هو عدم التصديق على التدخل الأجنبي أو منحه الشرعية الإسلامية و من هنا كان رفضه، هذا الموقف يضعنا في مقارنة مع دولة التجزئة التي سارت في ركاب المحتلين لتدمير إخوتها و جيرانها، الفرق شاسع و يدعو للبكاء حتى في ظل ضعف الخلافة و تراجعها و لكنها كانت صامدة صمود الأبطال، ثم جاهد السلطان بكل ما يستطيع لتعكير صفو الاحتلال في مصر و أنفق أموالاً طائلة على ذلك، ساند الزعيم مصطفى كامل باشا ضد الاحتلال بلا تحفظ إلى درجة أحرجت الزعيم أحياناً من فرط تأييد السلطان له و إنعامه عليه بشكل "ما وقع في تاريخ ألقاب الدولة مثل هذا فينعم على امرئ برتبتين في شهرين و لكني أعتقد أن السلطان أراد أن يطعن الاحتلال بسهم صائب لأن في عطف جلالته على خصوم هذا الاحتلال لدليلاً قاطعاً على كرهه له و رغبته في جلائه"[23]، زمن غير زماننا أصبحت حتى عيوبه من مفاخرنا اليوم.

3-الحماية الاقتصادية: تصدت دولة الخلافة، حتى في أضعف حالاتها، للتمدد الاقتصادي الرأسمالي الغربي، و في هذا يقول المؤرخ دونالد كواترت :"في نهاية القرن التاسع عشر...امتدت السيطرة السياسية الأوروبية في مناطق كثيرة للمرة الأولى، و في الشرق الأوسط تمكنت الإمبراطورية العثمانية من الحفاظ على استقلالها السياسي و قاومت بفعالية ملحوظة التمدد الاقتصادي الأوروبي"[24]و ذلك في الكتاب الذي عرض فيه أوجه من هذه المقاومة تحت عنوان"تفكك المجتمع و المقاومة الشعبية في الإمبراطورية العثمانية 1881-1908:ردود الفعل على التمدد الاقتصادي الأوروبي"، و سرد في كتاب آخر مقاومة "الصناعة العثمانية في زمن الثورة الصناعية"[25]، و في الوقت الذي وقع فيه معظم أجزاء العالم تحت الهيمنة الغربية فانقسم إلى مستعمرات و أشباه مستعمرات، كانت المناطق التي تحتفظ باستقلالها السياسي معدودة جداً و منها دولة الخلافة[26]، و حتى عندما أفلست الدولة العثمانية سنة 1875 تمكنت من تجاوز هذه الحالة بطريقة مختلفة عما حدث لقطر مثل مصر التي أعلنت إفلاسها في العام التالي و التي حاول حكامها كثيرا "الاستقلال" عن مركز الدولة فكانت النتيجة أن أدى إفلاسها و استقلالها إلى الاحتلال البريطاني، و في هذا يقول تيودور رتشتن في كتاب تاريخ المسألة المصرية إن الباب العالي استطاع "أن يخرج من عراكه مع دائنيه فائزاً منتصراً، و اضطر حملة السندات التركية و هم صاغرون أن يقنعوا بالقليل الذي قسم لهم، غير أن القضاء الذي لم يجر بما كانوا يتوقعونه لتركيا قد عزموا على أن يجروه على الأقل بما توقعوه لمصر"[27]، و يؤكد روجر أوين أن ما أصاب مصر كان من أسبابه غموض علاقتها بالدولة العثمانية[28]، و هو الاستقلال الذي حرص عليه الخديو إسماعيل، و يؤكد ذلك الباحث الاقتصادي المعروف شارل عيساوي في كتابه التاريخ الاقتصادي للشرق الأوسط و شمال إفريقيا[29].

4-التكامل الاقتصادي الداخلي: وفرت دولة الخلافة العثمانية لبلادها ،و منها البلاد العربية، تكاملاً اقتصادياً داخلياً لم نقدره حق قدره إلا عندما خسرناه لصالح الارتباط باقتصاديات الدول الرأسمالية الكبرى بصفتنا دولاً مجزأة و ضعيفة عجزت عن تحقيق ما كفلته الخلافة حتى آخر أيامها، و في هذا يقول هرشلاغ في كتابه:"ظلت الأجزاء الباقية من الإمبراطورية تشكل وحدة تجارية واحدة، لا تؤثر فيها الحدود أو الحواجز الجمركية و القيود التي ستقوم بينها بعد تحطيم الإمبراطورية في الحرب، و كان هذا التدفق الداخلي الحر للسلع ذا أهمية كبيرة لتركيا و للأقاليم التابعة لها على السواء"[30]، و قد أكد هذه الحقيقة كل من كتب في تاريخ الاقتصاد العربي مثل شارل عيساوي و الدكتور يوسف الصايغ و روجر أوين، إضافة للدكتور عبد الرحيم عبد الرحمن عبد الرحيم في بحث خاص عن العلاقات الاقتصادية و الاجتماعية بين الولايات العربية إبان العصر العثماني1517-1789 [31].

5-مشاريع التنمية الوحدوية: أقامت الخلافة حتى في ساعات ضعفها و تراجعها مشاريع تنموية كانت تؤذن بتغيرات جذرية لو أنها أخذت فرصتها كاملة، و ذلك مثل سكة حديد الحجاز و سكة حديد بغداد، و يعجب الدكتور عبد العزيز الشناوي من إساءة تفسير هذه المشاريع عند بعض المتنطعين الذين اتهموا الدولة بأنها تعمل بواسطتها لإحكام قبضتها على ولاياتها فيعلق بأنه إذا لم تنجز الدولة مشاريع كهذه اتهمت بعزل أقطارها عن العالم و عندما أنجزتها اتهمت بمحاولة التحكم بهذه الأقطار(!) و هل من المطلوب من أية دولة أن تتنازل عن أراضيها[32]، و رغم قلة ذات يدها فقد تأسست سكة الحجاز من مال المسلمين، أما سكة بغداد و غيرها من المشاريع الاستثمارية فقد كانت الخلافة توجه المال الأجنبي المستثمر فيها لصالحها و لا تقف موقف المتلقي المتفرج على الأجنبي و هو يقيم ما حلا له من مشاريع لصالحه كما حدث فيما بعد في دول الاستقلال و التجزئة[33]، و مع حلول هذه الدول دُمرت هذه المشاريع و قُطعت أوصالها، و عجزت حكومات سايكس-بيكو عن إعادة إحيائها، و قد جاء في الموسوعة السياسية للدكتور عبد الوهاب الكيالي في بند سكة حديد الحجاز:"و قد كانت سكة الحديد هذه هدفاً عسكرياً مقصوداً أثناء الحرب العالمية الأولى و قام الثوار العرب (بقيادة لورنس!!) بنسفها في أماكن عدة....و على الرغم من الاجتماعات و المخططات و اللجان المختلفة و المتعاقبة و التي شملت سورية و الأردن و السعودية فإن هذه السكة بقيت معطلة حتى أصبحت رمزا للتجزئة العربية و للضرر الفادح الذي ينتج عن تخريبها، إذ تكمن في وجودها المصلحة المشتركة و الروابط التي من شأنها أن تفرض إصلاح السكة و تشغيلها"[34].

6-الاكتفاء الذاتي: في زمن الخلافة تحقق الاكتفاء الغذائي و الصناعي الذاتي لسكان أقطارها، و في ذلك تقول الدكتورة ثريا فاروقي إن الأقاليم العثمانية كانت تتمتع بالاكتفاء الذاتي في السلع الضرورية اليومية و المواد الحربية في الفترة الممتدة من منتصف القرن السادس عشر إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، و إن الدولة العثمانية كانت قادرة على الأداء دون استيراد البضائع الضرورية التي يحتاجها معظم السكان مثل الحبوب و بقية المواد الغذائية، بالإضافة إلى تصنيع الحديد و النحاس و الأقمشة و كل الأشياء اللازمة للاستعمال اليومي بكميات كافية[35]، أما المواد الحربية فكان العثمانيون مكتفين ذاتياً إلى حد كبير، و استمر هذا الأمر في الناحية الغذائية حتى أواخر أيامها[36]، و قد كان القطاع الزراعي مجالاً نجحت فيه مقاومة الدولة للتمدد الغربي الذي حاول توجيه الزراعة نحو الإنتاج الأحادي كزراعة القطن فقط أو الحمضيات وحدها تلبية لمصالحه[37]، و نتيجة التكامل الذي توفر بين أراضيها كانت العاصمة تأكل من إنتاج الأقاليم و الحجاز من الإنتاج المصري و الكويت من البصرة...و هكذا، فلما أتت دول التجزئة أصبحنا معتمدين بنسب مخيفة على الخارج لتأمين غذائنا رغم بقاء الأراضي كما هي بل لقد ازدادت ثرواتنا التي كان من الممكن أن تزيد إنتاجنا الغذائي و لكن هذا لم يتحقق نتيجة انكفاء كل قطر على نفسه و عدم تعاونه مع إخوته و استقوائه بالغريب على أهله و تفضيله حل مشاكله بالتعامل مع الخارج على تعامله مع أهله، و من المفارقات المضحكة المبكية أن المال العربي المستثمر في دول الغرب تستفيد منه هذه الدول في منح القروض للدول الفقيرة و بينها دول عربية أيضاً و لكن الفائدة تعود على الغربي في شكل إعادة تدوير لإنقاذ الاقتصاديات الغربية المأزومة و فوائد و تصريف بضاعة[38]، و قبل كل شيء الفضل الذي سيسجل له وفاء و ارتباطاً بعيداً عن صاحب المال الأصلي الذي فضل أن يأتمنه بدل ائتمان عصبته الأقربين.

7-التعايش الاجتماعي: يقول المؤرخ كواترت في كتاب الدولة العثمانية:"قدمت الدولة العثمانية للعالم نموذجاً للتعايش بين مختلف الطوائف و الأعراق"[39]، و يقول فيليب كورتن في كتابه الغرب و العالم إن كل الدول الكبرى تعد متعددة القوميات إلى حد ما "لكن الإمبراطورية العثمانية كانت أكثر تنوعاً من معظمها"[40]، و قال كواترت أيضا:"هذا لا يعني أن رعايا الدولة من مسيحيين و يهود لم يضطهدوا من حين لآخر بالرغم من مبدأ التسامح الثابت الذي أصرت الدولة على التقيد به، و الحق أن هذا المبدأ العام بقي لعدة قرون يحكم العلاقات بيين مختلف شرائح المجتمع العثماني، بيد أن الشقاق بدأ يذر قرنه في السنوات الأخيرة من حياة الإمبراطورية"[41]، و لعله ليس من أبواب الصدف أن هذه السنوات هي التي تدخل الغرب فيها بثقله في حياتنا فأفسد ما بين الأتراك و الأرمن، و العرب و الأتراك، و العرب و اليهود، فلم يكن التعايش الأرمني التركي لحظة عابرة في تاريخ الشعبين و لهذا أطلق العثمانيون صفة الملة الصادقة على الأرمن، و لم يكن الانسجام الإسلامي اليهودي وليد اللحظة بل امتد إلى قرون التعايش في الأندلس ثم المحنة المشتركة على يد الإسبان و الهروب الجماعي إلى الأملاك العثمانية الذي ما يزال اليهود يذكرون معروفه إلى هذا اليوم ثم ظل هذا الانسجام إلى أن جاء الانتداب البريطاني، و قد أقرت بذلك لجنة بيل الملكية البريطانية سنة 1937[42]، و قد صدر في سنة 2011 كتاب بعنوان :"إخوة عثمانيون:المسلمون و المسيحيون و اليهود في فلسطين في بداية القرن العشرين"[43]من تأليف ميشيل كامبوس ملخصه أن الحياة المشتركة في الظل العثماني في فلسطين لم تكن تتجه إلى الصراع الحتمي، و يقول الدكتور رءوف عباس إن الوجود اليهودي في الدولة العثمانية يعبر تعبيراً صادقاً عن مكانة اليهود في ظل الحضارة العربية الإسلامية"كما يكشف عن قدرة تلك الدولة متعددة الأعراق و الثقافات و الديانات على أن تحقق نموذجاً للتعايش يقوم على احترام خصوصية كل ديانة، مع ترابط مصالح الطوائف جميعها في إطار دولة ربطت بين العصور الوسطى و العصر الحديث، و عصف بها عصر القوميات، و التوسع الإمبريالي"[44].

أما عن التآلف العربي التركي فيكفي أن نذكر أن القاهرة كانت المدينة الثانية بعد عاصمة الخلافة في الدولة تليها مدينة حلب، و لنتساءل هل كان من الممكن أن تكون القاهرة المدينة التالية للندن في الإمبراطورية البريطانية؟ أم هل كان الفرنسيون محتفين بحلب كما اهتم العثمانيون بها، فهل كانت تلي باريس في الأهمية ضمن الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية؟ ثم وضع السلطان عبد الحميد اهتمامه ببيروت و أصبحت مدينة عصرية في ظل حكمه و سماها الإمبراطور الألماني درة تاج آل عثمان[45]، و ذلك ضمن المكانة الخاصة التي حظي بها العرب في سياسة الجامعة الإسلامية التي تبناها، و أصبح أقرب المقربين إليه من رجال العرب، و يذكر المؤرخ فيليب مانسل"أن عبد الحميد الثاني عمد إلى توفير المال و تركيز الاهتمام على الأقاليم العربية بحيث فضلها على العديد من المناطق التركية"[46]، و من هذه المشاريع سكك الحديد التي سبق الحديث عنها، و لقد كان لقب العرب في الدولة العثمانية الملة النجيبة[47]، فلما دخلت أصابع الغرب و قامت ثورة العرب أصبح التركي "يلتعج فؤاده و ترتمض جوانحه"عند سماعه اسم الحجاز، كما يذكر الجنرال التركي علي فؤاد في مذكراته التي عاصرت الأحداث[48].

و عن أوضاع الأقليات، في القرن الثامن عشر على سبيل المثال، يتحدث المؤرخ نورمان لويس فيقول إن أمراء الإسماعيليين في سوريا كانوا يحتفظون باستقلال جزئي عن السلطات العثمانية التي لم يكن تحت تصرفها العدد الكافي من الجنود للتدخل المباشر في شئون الجبال، و أن اهتمام الولاة كان منصباً على تحصيل الضرائب و هي مهمة أوكلت عموماً لزعماء الإسماعيليين و العلويين و الدروز الذين لم تكن السلطة العثمانية تفرضهم فرضاً من خارج مناطقهم و كان فلاحوهم المنتمون إلى نفس الطوائف يتقبلون سلطتهم بلا جدال[49]، و قد وصف المؤرخ دومانيس عملية القضاء على الدولة العثمانية بأنها أنهت واحدة من أكثر الدول متنوعة الثقافات استمراراً و استقراراً في تاريخ العالم[50].

8-مركز الوحدة الإسلامية الجامعة: كان مركز الخلافة الإسلامية هو البؤرة التي يتجمع حولها كل المسلمين في العالم حتى لو لم يكونوا تحت سلطانها السياسي، فكانت في زمن قوتها قبلة لطلب المعونة ضد الأعداء، و ظلت تؤلف أملاً لتحرك المسلمين ضد عدوان الغرب عليهم حتى آخر لحظاتها، و رغم عدم شمول السيادة العثمانية جميع العالم الإسلامي أصبح الخلفاء العثمانيون يتولون "المسئولية العليا للسلطة الزمنية على المسلمين إلى حدود بعيدة كالسنغال و سومطرة"كما يقول المؤرخ نيكولاس دومانيس[51]، و يقول المؤرخ كواترت إن العثمانيين في عهد قوتهم قاموا بدعم حكام سواحل الهند في صراعهم مع البرتغاليين، و أرسلوا أكثر من أسطول لمساندة الماليزيين في مقاومة التسلط الأوروبي على الملاحة و التجارة، و ظلوا على اتصال لقرون ببعض دول آسيا الوسطى و إيران و الهند و أفغانستان، و من ذلك اتصالهم من حين لآخر بحكام سمرقند و بخارى و بلخ و خيفا (و هي إمارة على حدود إيران)، و كانت هذه الإمارات ترسل مندوبيها إما للتشاور مع العثمانيين أو لطلب المعونة عندما تتعرض لهجوم إيراني أو روسي، كما أرسلت دولة المغول في الهند بعثات إلى البلاط العثماني طلباً للمعونة في حروبها، و أرسلت دول هندية أخرى طلبات للحصول على مساعدة السلطان ضد البرتغاليين و الإنجليز، و طلب سلطان مراكش كذلك العون من العثمانيين ضد الفرنسيين و أبدى استعداده لمساعدة اسطنبول ضد روسيا.

و ظلت الدولة العثمانية "أقوى دولة إسلامية صامدة في وجه الإمبريالية الأوروبية"، و بعد وقوع كثير من المسلمين تحت الاحتلال البريطاني و الفرنسي و الروسي قام السلطان العثماني بمناشدة المسلمين جميعاً التصدي للهيمنة الأوروبية باستخدام سلاح الخلافة الإسلامية و ذلك بإحياء فكرة الجامعة الإسلامية حول الخلافة و التي وجدت آذاناً صاغية لدى مسلمي الهند و آسيا الوسطى الذين وقعوا تحت هيمنة بريطانيا و روسيا، بدءاً من عهد السلطان عبد العزيز (1861-1876) ثم تعمقت هذه الجهود في عهد السلطان عبد الحميد الثاني (1876-1909) الذي بدأ جهوده بالاتصال بمسلمي أفغانستان و الهند و ظل على اتصال بهم طوال سنوات حكمه، و اعترف بخلافته عدة زعماء دول إسلامية كخانات الأوزبك و القرم و سلاطين سومطرة و اعترف بعض أمراء آسيا الوسطى و الأفغان بسلطته الزمنية بسك النقود أو الدعاء على المنابر[52].

و رغم أن السلطان السياسي للدولة العثمانية لم يصل كثيرا من البلاد الإسلامية أو انحسر عن بلاد أخرى، فقد اهتم السلطان عبد الحميد بإقامة صلات بالمسلمين في كل مكان، و اشتد هذا الاهتمام نتيجة رفع لواء الجامعة الإسلامية لمناهضة العدوان الغربي على العالم الإسلامي و وصل مبعوثوه إلى كل من أندونيسيا و ماليزيا و سنغافورة و الصين و تركستان و الحبشة و أنحاء أخرى من إفريقيا بالإضافة إلى الهند التي تعلق مسلموها كثيرا بمنصب الخلافة مما كان يثير حفيظة بريطانيا التي تحتل بلادهم، كما حاول العثمانيون في ذلك الزمن التقارب مع إيران بعد انقضاء الدولة الصفوية و نجح السلطان في استقطاب مراجعها و علمائها فساء ذلك السفير البريطاني في طهران واصفاً بحنق بعض كبار المراجع بالعمالة للسلطان، و هو وصف مضحك إذ كيف يمكن أن نصف شخصاً "بالعمالة" لقومه و أهل دينه؟ و هل تكون العمالة إلا للغريب؟ و لا شك أن "العمالة" لخليفة المسلمين أفضل من العمالة للأجنبي، و تدل الحوادث اليومية على عدم وجود تشنج طائفي كالذي عرفناه في الزمن الأمريكي، و كان السلطان يفضل الردود العلمية على الردود المسلحة، فيقوم ببناء المدارس عندما تصله شكاوى من تحول بعض أبناء السنة إلى مذاهب أخرى مفضلاً الحوار العلمي على الاشتباك المسلح، كما اتصلت الخلافة بزعماء عمان الإباضيين لإبعاد النفوذ الإنجليزي عن المنطقة و قد توثقت هذه الاتصالات بعد احتلال مصر سنة 1882 كما جاء في ندوة العلاقات العمانية العثمانية المنعقدة في استانبول في أكتوبر 2012، و كان عضو مجلس المبعوثان فيما بعد سليمان الباروني أبرز أعلام الأباضية من رجال الجامعة الإسلامية، كما شملت سياسة الجامعة الإسلامية الطوائف الصغرى كالدروز الذين حرص السلطان على تأليف قلوبهم و الحصول على تأييدهم كما يتحدث الأمير شكيب أرسلان النصير الأكثر تحمساً للجامعة الإسلامية بين ساسة العرب في زمنه.

و عندما ضعفت الدولة العثمانية و أصبحت غير قادرة على حماية حدودها التي أصابها الهجوم العسكري الأجنبي ظلت ملاذاً للمسلمين الذين وقعت بلادهم تحت الاحتلال و لم يعودوا قادرين على الاستمرار في الحياة تحت حكمه، و قد استقبلت دولة الخلافة في قرنها الأخير ما بين 5-7 ملايين مهاجر تركوا بلادهم في القوقاز و البلقان و لجئوا إليها[53]، و من أمثلة ذلك أنه عندما احتل الروس القوقاز و هزموا الإمام شامل (1859) لم يستطع كثير من المسلمين العيش في ظل الاحتلال الروسي، لاسيما بعدما شن الروس حرب الإبادة ضدهم في السنوات التالية، و لم تكن الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت في وضع يسمح لها بنصرتهم نتيجة الضعف العام الذي كان يسري في أوصالها، و لكن مع ذلك لم تتخل عنهم، و لم تتحالف مع عدوهم لحصارهم و خنق حياتهم، بل على العكس رحبت بهم، و فتحت لهم أراضيها للجوء إليها رغم قلة الإمكانات وشح الموارد، و مات كثير منهم في رحلة اللجوء، و لكن الدولة العثمانية ألفت هيئة خاصة لاستقبالهم و القيام على طلباتهم، و بسطت لهم كل ما يمكنها عمله للمساعدة، و عدتهم مكسباً سكانياً لها و قوة عسكرية تضاف إليها و ليسوا أعداء عليها قتل من تستطيع منهم، و وزعت عليهم الأراضي و البيوت ليستأنفوا حياتهم، و وطنت قسماً منهم في أراضيها الأوروبية إلى أن اندلعت أعمال العنف في بلغاريا سنة 1876 فطالبت روسيا بترحيل أهل القوقاز المستوطنين هناك و دعمتها في ذلك الدول الكبرى و أصدرت قراراً متغطرساً يمنع استيطان الشركس في الأملاك العثمانية الأوروبية "منعاً مطلقاً" (!) و توقعت أن ترضخ الخلافة لمطالبها الآمرة، و لكن العثمانيين رفضوا ذلك بكل إباء رغم الضعف و الهزيمة، إلى أن أُجبر المسلمون على مغادرة بلغاريا بالقوة المسلحة بعد اندلاع الحرب مع روسيا سنة 1877 فبلغت الهجرة الثانية إلى الأراضي العثمانية ذروتها في السنة التالية، فاستوعبتهم الدولة في الأناضول و سوريا الكبرى، و استمر الشركس بالتدفق على الأراضي العثمانية هرباً من التجنيد الروسي أو دفع الضرائب لروسيا أو بسبب عدم قبولهم الحكم القيصري، و يقول المؤرخ نورمان لويس في ذلك إن الدولة العثمانية شجعت القوقازيين على القدوم إليها "و اهتم السلطان عبد الحميد اهتماماً شخصياً بالقضية" و تم إصدار الأوامر للموظفين الرسميين في العاصمة و الولايات للقيام بكل ما هو ممكن للحد من مشاكل حركة و استيطان المهاجرين الجدد، فمنحوا الأراضي و الأموال و غير ذلك من المساعدات، و أُعفوا من دفع الضرائب، كما منحوا الأولوية في تأجير أراضي الدولة، و أسكن السلطان بعضهم في أراضيه، و استفادت منهم الدولة في حماية إنشاء خط الحجاز ، و في النهاية استمرت معظم مستوطناتهم الجديدة[54].

كما لجأ المسلمون من البوسنة إلى الدولة العثمانية بعد احتلال النمسا بلادهم سنة 1878 فأسكنهم السلطان في قيسارية بفلسطين، و لجأ كذلك مسلمو جزيرة كريت إلى دولة الخلافة بعد تظاهر النصارى في الجزيرة مع الدول الكبرى عليهم فسكنوا في مصر و ليبيا و دمشق (حي المهاجرين) و غيرها من أصقاع الدولة العثمانية.

و السؤال الهام بعد كل ذلك: أين كل ما سبق من وضع اللاجئين و المشردين في ظل الاستقلال و التجزئة، و الذي بدأ ببيع بلادهم للأعداء و التآمر عليهم في السر و انتهى اليوم بالاصطفاف مع هؤلاء الأعداء علناً ضد أولئك المشردين الذين يتسابق حكام العرب في إرضاء الكيان الصهيوني الحقير بقمعهم و منعهم من العودة إلى أملاكهم؟

كما كان غيرهم من المسلمين المبتلين بالاحتلال دون أن يهاجروا من أوطانهم يرون في التمسك بالولاء للخلافة نجاة من الهيمنة الأجنبية، و في ذلك يقول الدكتور رءوف عباس الذي لا يبخل بنقد السلطان عبد الحميد الثاني :"كانت مصر في مطلع القرن (العشرين) تتبنى فكرة الجامعة الإسلامية التي كانت خطاً أساسياً في حركة الحزب الوطني طالما كانت هذه الفكرة تعني الحفاظ على سلامة أراضي الدولة العثمانية و وحدتها، و تتمسك بانتماء مصر إلى دولة الخلافة الإسلامية، لأن الحزب الوطني بنى نضاله على أساس أن الوجود البريطاني في مصر وجود غير شرعي، لأن مصر تخضع للسيادة العثمانية، فكان التمسك بالتبعية للدولة العثمانية هو طوق النجاة من الاحتلال البريطاني، و من ثم كان التشيع لفكرة الجامعة الإسلامية التي يرعاها السلطان العثماني عبد الحميد الثاني يواكب التمسك بالتبعية العثمانية"[55].

و كانت الدولة من جانبها تقوم بما يمكنها لحماية المسلمين في الخارج كما تمليه عليها سياستها العليا، و في ذلك يقول المؤرخان شو "إن السلطان عبد الحميد سعى للقيام بدور خليفة كل المسلمين، و بدأ باستعمال حقه القديم في تعيين الموظفين الدينيين في الأقاليم العثمانية السابقة التي أصبحت تحت الحكم الأجنبي، و ذلك ليحافظ على نفوذه بين المسلمين في تلك الأقاليم، و هكذا كان يقوم شخصياً بتعيين القضاة و المدرسين و العلماء الآخرين المرسلين إلى مصر و قبرص و القرم و البوسنة و الهرسك و بلغاريا، و كان الحكومة العثمانية تحتج و تتدخل رسمياً متى سمعت أخباراً عن جور أو اضطهاد للمسلمين أينما كانوا، و قد استدعي القادة المسلمون المؤثرون من جميع أنحاء العالم إلى اسطنبول في زيارات مطولة لمد جسور التواصل و هو ما يمكن استخدامه و ما استخدم فعلاً لدعم مكانة السلطان-الخليفة، و قد وُجهت تحذيرات شديدة للبريطانيين و الروس و الفرنسيين أن أي عدوان على الدولة العثمانية أو على المسلمين الواقعين تحت حكم الأوروبيين يمكن أن يؤدي إلى انتفاضة إسلامية موحدة ضدهم بدعم كامل من العثمانيين، و قد أصبحت سياسة الجامعة الإسلامية سلاحاً استخدمه السلطان لمواجهة إمبريالية الدول الغربية الكبرى و الحركات القومية للأقليات التي تهدد الدولة"[56].

9-المكانة الدولية: إذا كانت قوة الدولة ومن ثم مكانتها الدولية هي حصيلة إمكاناتها الداخلية كما تقول العلوم السياسية، فلن نعجب بعد استعراض الإمكانات العثمانية السابقة أن تكون الدولة العثمانية دولة عظمى تتربع على هرم العالم زمناً طويلاً ، و عن هذا يقول المؤرخ بيتر مانسفيلد إن الجهاد المقدس لتعزيز راية الإسلام "كان من أهم ما قامت به الإمبراطورية العثمانية، و ظلت تعد –و على مدى قرنين من الزمن- القوة العسكرية الأضخم، مقارنة مع معارضيها"[57]، و لا يستنكف حتى من ينقدها على الاعتراف بمكانتها العظمى[58]، و في ذلك يقول دونالد كواترت عند حديثه عن موقع العثمانيين من العالم المحيط بهم إنه "على الصعيد العالمي كانت الدولة العثمانية سنة 1500 من أقوى دول العالم، و ربما لا يتفوق عليها سوى الصين، و قد كانت آنذاك "مصدر خوف العالم" و أدت دوراً حاسماً في بقاء و انقضاء دول كثيرة و مختلفة جداً (كالمماليك و الصفويين و البندقية و امبراطورية الهابسبورغ و روسيا القيصرية)...كما أنها أدت دوراً في السياسة الدولية بعدما أصبحت قوة مرهوبة الجانب إلى درجة أن فيليب الثاني ملك إسبانيا دعا إلى حرب صليبية لإيقاف المد العثماني"، و حتى عندما تراجعت القوة العثمانية و أصبحت الصين كذلك دولة مستضعفة في القرن التاسع عشر، ظلت الدولة العثمانية قوة يحسب حسابها في السياسات الخارجية لدول أوروبا العظمى، و كان أقصى ما تراجعت إليه هو التحول إلى دولة من المرتبة الثانية إذا جاز التعبير بعدما كانت قوة عظمى[59].

و في ذلك يقول فيليب كورتن إنه في القرن السادس عشر "أصبح الأتراك متساوين عسكرياً مع أية قوة غربية متفوقة، و على الساحة العالمية، كانت الإمبراطورية العثمانية إحدى أبرز الامبراطوريات في صناعة المدافع"[60]، و ظلت التكافؤ ملحوظاً إلى نهاية القرن الثامن عشر و في هذا يقول روجر أوين في حديثه عن اقتصاد الشرق سنة 1800 إن القاعدة العامة هي أن مستوى التقنية العثمانية كان منخفضاً بالمقارنة مع السائد في أوروبا الغربية، غير أن الترسانات البحرية و العسكرية العثمانية كانت لا تزال تضاهي معظم السفن و الأسلحة التي كان أعداؤها الأوروبيون يستخدمونها، و أن جماعات من الحرفيين ظلت تنتج سلعاً على درجة عالية من الجودة[61]، إلى أن اتسعت الهوة بين الغرب و العالم كله و ليس العثمانيين وحدهم بعد الثورة الصناعية.

10-الصمود العثماني مقارنة بتراجع الإمبراطوريات: و في هذا الموضوع السابق أي تزامن الصعود الغربي مع التراجع العثماني تُوجه بعض الانتقادات غير الموضوعية إلى واحدة من أطول الدول عمراً في التاريخ و تطالبها بالخروج عن سنة التراجع بعد القوة و بالتصدي لدول غربية كانت في طور النشوء المندفع لما كان العثمانيون في القمة[62]و لما تقدم الزمن على الجميع اكتملت قوة الغرب و كانت الدولة العثمانية في طور التراجع[63]و هي سنّة كانت من سوء طالع العثمانيين و لكننا لو تدبرنا لوجدنا أنه لم تخرج عنها أية دولة معروفة، و في ضوء عدم الاتفاق حتى اليوم على سبب الطفرة الغربية و الذي يصفه المؤرخ زاكري كارابل بأنه "يبقى واحداً من الألغاز الغامضة الكبرى في تاريخ العالم الحديث"[64]لا يمكننا من باب أولى أن نلوم العثمانيين على عدم حل هذا اللغز في زمنهم الماضي و من ثم تحقيق هذه الطفرة بالتزامن مع الغرب، لاسيما أنهم بذلوا جهوداً جاهدة للإصلاح و اكتساب القوة و قد كافحت الخلافة عوامل الضعف بكل جهدها و لكن زمن الهدوء المطلوب للتعافي كان غير متيسر لها في ظل التآمر الغربي عليها و الذي لم يمنحها فسحة لالتقاط الأنفاس[65]، و كان السلطان عبد الحميد الثاني يتمنى تحقيق الهدوء في دولته بعيداً عن المؤامرات الغربية لمدة عشر سنوات فقط ليتفرغ للبناء كما تفرغت اليابان البعيدة عن وكر الذئاب الأوروبية[66]و لهذا حققت الكثير، فكيف كان الحال سيصبح لو أن الدولة العثمانية بإنجازاتها العديدة رغم التوتر، نعمت بالهدوء كاليابان آنذاك مثلاً؟ و مع ذلك فقد أنجزت الدولة الكثير أيضاً (يمكن مراجعة دراسة سابقة بعنوان: سياسات آخر أيام الخلافة في ذكرى إلغائها، قضايانا بين الوحدة و التجزئة) و تصدت للعدوان حتى آخر رمق[67]و دخلت الحرب الكبرى الأولى لتواجه أوروبا المصممة على تقسيمها[68]و لتستعيد ما احتلته دول الغرب من أراضيها و لتكسر القيود التي كبلها الغرب بها كالامتيازات الأجنبية، أي لتسترجع استقلالها السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و لتستعيد مكانها المساوي لبقية الدول العظمى ثانية[69]، و قد أثارت عجب المنصفين من صمودها لا من تراجعها كما سبق ذكره.

و لو طالعنا تواريخ الإمبراطوريات لوجدنا أنه حتى الكبرى منها كبريطانيا و فرنسا و إسبانيا و البرتغال و روسيا فضلاً عن الأقل حجماً كهولندا و السويد و بلجيكا لم تقاوم عوامل التراجع حتى ضمن أوضاع مؤاتية لم تواجه فيه تكتلات معادية مصممة على القضاء عليها بالعنف كما حدث مع الخلافة العثمانية، فرأينا مثلا أوسع امبراطوريات التاريخ و هي إمبراطورية بريطانيا التي لا تغيب عنها الشمس تتراجع نتيجة عوامل الضعف الداخلي لاسيما الاقتصادي في مواجهة الصعود الأمريكي الذي ضيق الخناق عليها بأساليب سياسية غالباً و ليست عسكرية، مع تقديم الدعم الاقتصادي أحياناً كمشروع مارشال الذي غطى خسائر الحرب الكبرى الثانية، أي أنها تراجعت رغم توفر هذا الدعم الاقتصادي من الجبهة الغربية الواسعة و غياب المنافسة العسكرية وعدم شن الحرب عليها من كل الجهات المحيطة بها كما حدث مع العثمانيين لقرون طويلة و مع ذلك ظلوا صامدين زمناً استثنائياً، و كانت نهاية الإمبراطورية البريطانية في حرب محدودة هي حرب السويس 1956 التي لم تستطع الخروج منها منتصرة رغم تحالفها مع الإمبراطورية الفرنسية و الكيان الصهيوني، و ذلك نتيجة المنافسة السياسية وحدها من الأمريكيين و السوفييت دون التدخل العسكري، ثم وجدنا امبراطورية عظمى أخرى كالاتحاد السوفييتي تنهار بعد زمن وجيز من قيامها يقدر بعمر فرد واحد نتيجة الاستنزاف السياسي  و الاقتصادي و الفكري الذي مارسه المعسكر المنافس دون الدخول في حروب كبيرة معها بعد الحرب الكبرى الثانية التي كانت فيها في جبهة واحدة مع الإمبرياليات الغربية، بل لقد كانت حرب أفغانستان وحدها كفيلة بدق آخر مسمار في نعش السوفييت، فأين هذا من الحروب الصليبية الكبرى التي شنت على العثمانيين و مع ذلك صمدوا قروناً في مواجهتها دون دعم إلا ما ندر و لم يكن حاسماً إلا في زمن محدود من عمرها و ذلك ضمن المنافسات بين القوى الأوروبية؟

وعندما كان الأديب إبراهيم المويلحي يسخر من ضعف الدولة العثمانية في نهاية القرن التاسع عشر كان أقصى مآخذه مع اعترافه بكونها دولة عظمى أنها "في ميزان الدول العظمى أخفهن على الإطلاق كفة و أقلهن رجحاناً"[70]، فما هو قول أديبنا لو عاش و رأى كيف تقسمت هذه الدولة إلى دول أصغر و أضعف وأصبحت هذه الدول المجزأة في ميزان الدول قاطبة، و ليس الدول العظمى وحدها، أخفهن على الإطلاق و أقلهن رجحاناً؟

و لعل هذه المقارنة تبدو بشكل أوضح عند وضع مكانة الدولة العثمانية حتى مع ضعفها بمكانة تركيا الكمالية و التي حققت مكانة لم تحققها كثير من الدول المجزأة التي قامت على أنقاض العثمانيين، و في هذا تقول الدكتورة تهاني شوقي عبد الرحمن في تأريخها لنشأة تركيا الحديثة و ذلك نقلاً عن مراجع أخرى إنه " مما يجدر ذكره أن الدولة العثمانية كانت رغم ضعفها، تعد من الدول الكبرى، بعكس الحال بعد إعلان دولة تركيا الحديثة، فإن العالم الغربي كان ينظر إليها كدولة صغرى، حتى بعد أن أثبتت إمكانية تعايشها بجانب دولة كبرى كالاتحاد السوفيتي تقع على تخومها"[71].

 

 

قراءة 10901 مرات آخر تعديل على الأحد, 21 حزيران/يونيو 2015 17:55

أضف تعليق


كود امني
تحديث