المبحث الثاني: برامج  تأهيل الحاج فقهيا

الحج عبادة بدنية قد يصاحبها مشقة في تحقيق أركانها مع كثرة الحجيج و اختلاف طبائعهم و التزامهم بوقت واحد للعبادة؛ لذلك كان لزام على الحاج التحلي بالصبر و الدفع بالحسنى و بذل بعض التنازل في سبيل ضمان سير الأمور دون أن يستشعر الدنية في صبره و تنازله.

و قد سميت مكة بكة في دلالة على كونها مكانا مزدحما منذ القدم ذلك أنها كانت مقصدا للعبادة قبل الإسلام و بعده، إلا أن التطور الذي شهده العالم من سرعة و سهولة في المواصلات و قدرة مادية للأفراد و زيادة مباركة في عدد المسلمين في كل أنحاء المعمورة و رغبتهم في أداء المناسك و الزيارة و ربما تكرارها المرة بعد الأخرى رغبة في الثواب و شوقا إلى البقاع المقدسة جعل الأمر في كثير من الأحيان يخرج عن السيطرة، حيث صارت شدة الزحام سببا رئيسا لزوال المقصود الأعظم من الحج من الخشوع و الخضوع و ذكر الله تعالى حيث أصبح هم أكثر الحجاج و العمار التخلص من شدة الزحام و النجاة بأنفسهم من مضاره.^([2]) فلما فتح الله مكة على نبيه – صلى الله عليه و سلم- خطب الناس و قال: (إن مكة حرمها الله و لم يحرمها الناسفلا يحل لامرئ يؤمن بالله و اليوم الآخر أن يسفك بها دما و لا يعضد بها شجرة فإن أحد ترخص لقتال رسول الله صلى الله عليه و سلم فيها فقولوا إن الله قد أذن لرسوله و لم يأذن لكم و إنما أذن لي فيها ساعة من نهار ثم عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس و ليبلغ الشاهد الغائب).^([4])، و عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه – أنه قال: "لئن أخطئ سبعين خطيئة – يعني بغير مكة- أحب إليَّ مِن أن أخطئ خطيئة واحدة بمكة^([6])

و لما كانت حرمة المسلم من أعظم الحرمات التي أقرها الشارع الحكيم فإن التعدي عليها يعتبر من أعظم الذنوب و الآثام، يقول تعالى:﴿وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَ إِثْمًا مُبِينًا﴾، (الأحزاب: 58).

إن حرص الإسلام على غرس قيم الحب و الاحترام و الحرص على عدم إلحاق الأذى بالمسلم تجلى في أبسط المظاهر، فقد أخرج مالك في موطئهعنالبياضيأن رسول الله صلى الله عليه و سلم خرج على الناس و هم يصلون و قد علت أصواتهم بالقراءة فقال: (إن المصلي  يناجي ربه فلينظر بما يناجيه بهو لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن)،^([8])و عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "إذا وجدت على الركن زحاما فلا تُؤذِ و لا تُؤْذَ وامض".^([10])

 و من الأحكام التي تناولها الفقهاء بعناية لبيان أحكامها في حالة المشقة و الزحام ما يلي:

1-                  الطواف في السطح و السعي فوق سطح المسعى:

من باب التيسر عن الحجاج و رفع الجرح و دفع أذى التدافع عنهم أصدرت  هيئة كبار العلماء فتاوى بتجويز المسائل التالية:

أ‌-                    الطواف حول الكعبة في أورقة المسجد الحرام و في سطوحه. ^{(السعي عند الحاجة فوق سقف المسعى. (أن الطواف في مكان بعيد عن الكعبة مع الخشوع أولى من الطواف قريبا منها عند شدة الزحام .}

-         الرَّمل في طواف القدوم أولى من الدنو من البيت، و لهذا قال العلماء: الرمل في طواف القدوم أولى من الدنو من البيت؛ لأن الرمل يتعلق بذات العبادة، و الدنو من البيت يتعلق بمكانها».⁽استلام الحجر الأسود:

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية و الإفتاء ما نصه:" تقيبل تقبيل الحجر الأسود في الطواف سنة مؤكدة من سنن الطواف, إن تيسر فعلها بدون مزاحمة أو إيذاء لأحد فعلت اقتداء برسول الله صلى الله عليه و سلم في ذلك, و إن لم يتيسر إلا بمزاحمة و إيذاء تعين الترك و الاكتفاء بالإشارة باليد، لا سيما المرأة لأنها عورة، و لأن المزاحمة في حق الرجال لا تشرع، ففي حق النساء أولى".⁽صلاة ركعتي الطواف:

أجمع أهل العلم على أن الأفضل في هاتين الركعتين أن تكونا عند المقام، و تصحان حيث صلاهما الطائف،  فإن كان تحري الصلاة عند المقام يفضي إلى زحمة أو إلى التضيق على الطائفين، فعندئذ لا ينبغي له أن  يصلي عنده بل يصلي حيث يتسير له،⁽المرور بين يدي المصلي:

         سئل العلامة ابن باز - رحمه الله - عن حكم المرور بين يدي المصلي في الحرم فقال: "لا حَرَج في ذلك، و ليس لمن في الحرم - أعني المسجد الحرام - أن يمنع المارّ بين يديه: لما ورد في ذلك من الآثار الواردة على أن السلف الصالح كانوا لا يمنعون المارين بين أيديهم من الطائفينَ و غيرهم، منهم ابن الزبير - رضي الله عنه؛ و لأن المسجد الحرام مظنّة الزحام و العجز عن مَنْع المارّ بين يدي المُصلي، فوجب التيسير في ذلك. ^([17])

و حسب موقع مديرية الدفاع المدني فإن أهم الإرشادات التي يجب على الحاج إتباعها أثناء تواجده في المشاعر المقدسة، و قد حددتها في 10 نقاط مهمة:

1-                  تذكر أن موسم الحج يعتبر أكبر تجمع بشري في العالم به حشود مسلمه من دول و جنسيات و لغات مختلفة يجمعها هدف واحد.

2-                   تجنب الزحام أثناء الطواف و السعي و رمي الجمرات .

3-                  استعجالك في أداء بعض الشعائر في الحج قد يسبب لك أو لغيرك الإجهاد.  

4-                  من الأفضل استخدام الطرق المخصصة للمشاه عند رغبتك في المشي .

5-                  من أجل سلامتك أتبع تعليمات رجال الأمن خلال تنقلك بين المشاعر فهم يرشدوك لأقرب الطرق لك.

6-                  أخي الحاج عند تجنبك الجلوس أو النوم في مداخل أنفاق المشاه و مخارجها تضمن سلامتك كونها وضعت للعبور.

7-                   احذر خطر الاختناق عند سيرك في أنفاق السيارات.

8-                  لسلامتك تصرف بسرعة لحماية نفسك واحتفظ بالهدوء و السكينة.

9-                  الدين الإسلامي يحثنا على التعاون فلا تنسى إخوانك كبار السن و الأطفال فهم في حاجة إلى مساعدتك.

10-                لا تتأثر ببعض السلوكيات الفردية الغير واعيه و أنا بنفسك عنها.

و يشمل موقع المديرية أيضا على أهم الإرشادات التي يجب على الحاج إتباعها في حالات معينة تناولتها المديرية بالتفصيل لتسهيل عملية أداء المناسك على الحاج و ضمان سلامته و قدرته على أداء حج مبرور خال من المخالفات الشرعية و القانونية و السلوكية، و ذلك عند:

أولا: إرشادات للحاج أثناء وجوده خارج المخيم

ثانيا: إرشادات للحاج أثناء وجوده داخل المخيم

ثالثا: إرشادات للحاج عند الازدحام

رابعا: إرشادات للحاج عن أنفاق المشاة

خامسا: إرشادات للحاج عن أنفاق السيارات

سادسا: إرشادات للحاج عن الرياح و الأعاصير

سابعا: إرشادات للحجاج عن الصدوع و الشقوق و الهبوط الأرضي

ثامنا: إرشادات للحجاج عن تساقط الصخور و تسلق الجبال

تاسعا: إرشادات للحجاج عن الأمطار و السيول

عاشرا: حظر استخدام الغاز في الطبخ بالمشاعر المقدسة

فإذا كانت مديرية العامة للدفاع المدني قد وقفت على أهم السلوكيات الايجابية التي على الحاج اكتسابها قبل قدومه إلى المشاعر، و بينت أهم الإرشادات التي يجب أن يكون الحاج واعيا بها عند حدوث أزمات أو أمور اضطرارية، فإنها سهلت كثيرا الأمر على بعثات الحج لكل دول العالم حيث حصرت أهم ما يجب على الحاج تعلمه قبل و أثناء و بعد قدومه المشاعر المقدسة، فما على البعثات بعد جهد مديرية الدفاع المدني المبارك إلا عقد دورات تدريبية للحاج ترفع من مستوى وعيه و أداءه الإيجابي عند التواجد في المشاعر.

المطلب الثاني: تأهيل الحاج للتعامل مع مشاريع الإطعام الخيري

         أولت المملكة العربية السعودية سقاية الحاج و العمار لبيت الله الحرام من الرعاية و الأولوية ما جعلها مضرب المثل في الكرم و حسن الضيافة، لكن هذا الجانب المشرق من السقاية يقابله جانب مظلم لا تكاد تخطئه عين ناظر و لا يستسغه قلب محسن، سلوك أقل ما يمكن أن يقال عنه أنه ينافي العقل يخالف الشرع، يبعث على الخيبة، يؤذي العين، يدمي القلب، إنه تعامل كثير من الحجاح مع طعام السقاية التي بذلت من أجله جهود جبارة، و صرفت لتوفيره ميزانيات ضخمة، فالمار بين صفوف الحجاج في كل مراحل الحج و عند كل مشعر من مشاعره لا  يذهله فقط  كمية الهدر الغذائي في موسم الحج بل يصدمه أن يرى الطعام على ألوانه صار مداسا للأقدام ليشكل بساطا ملونا بلون الأطعمة يمر فوقه الحاج دون أن يحرك ساكنا، فأرز هنا و تمر هناك و دجاج بينهما.

و يتوافد على المملكة السعودية الحجاج من كل بقاع المعمورة، تختلف مشاربهم الفكرية و تتباين مستوياتهم الاقتصادية، و قدرتهم المالية على شراء وجبات صحية متكاملة تساعدهم على أداء حج صحي، كما تختلف الحملات الواحدة  عن الأخرى في التزامها بتقديم وجبات للحاج من عدمها، و هنا  يتحمل القائمون على هذه حملات جزءا لا يستهان به فيما يتعلق بهدر الطعام، إذ لا يرون في أنفسهم شريكا أساسيا في عملية التوعية، فكما الحملة مسئولة أخلاقيا أمام الحاج بتوفير مطوفين و مرجعيات دينية تسهل على الحاج أداء مناسك الحج و تجيب على أسئلته الفقهية، فإنها مسؤولة بنفس الدرجة و ربما أكثر عن توعيته حول قبح الهدر الغذائي و حرمته الشرعية التي لا تتوافق أبدا مع الحج المبرور، إذ لا بد من استغلال الوازع الديني لدى الحاج و رغبته الشديدة في نيل القبول من المولى عز و جل في ثني الحاج عن السلوكيات الخاطئة في موسم الحج أيا كان نوعها و على رأسها أخذ الطعام دون الحاجة إليه، و رميه بعد الانتهاء منه في غير الأماكن المخصصة له.

            و يضاف إلى ما سبق انخفاض الوعي الصحي و الغذائي لدى الحاج و تأثيراته السلبية و الخطيرة على الحاج و على المملكة لما تكلفها من التزامات طيبة ضخمة في غير محلها يمكن تجنبها بزيادة الوعي عند الحاج، و هو التزام على بعثات الحج يجب أن تعي أهمية و خطورة إغفاله على الحاج و على البعثة و على المملكة العربية السعودية.

المطلب الثالث: تأهيل الحاج للانخراط في عملية إنجاح الحج الآمن

إن نجاح أي مشروع مرهون بمدى انخراط جميع فئاته المعنية في إنجاحه، و الحج الآمن باعتباره مشروع أمة لابد لنجاحه من إشراك جميع عناصره، كما أن التوعية التي تؤتي أكلها تبدأ من موطن الحاج نفسه قبل وصوله إلى المشاعر المقدسة، لنحقق في نهاية موسم الحج حجا حضاريا يبرز الصورة المشرقة لديننا الحنيف الذي جاء لإكرام الإنسان و رفع الحرج و دفع الأذى و منع الإضرار، إذ لا بد من تحويل الحاج من ضيف إلى شريك فعلي، بحيث يمكن تدريبه على الامتناع عن الرفث و الفسوق، و الإسراف، و افتراش الأرصفة، و الاهتمام بالبيئة ضمن برامج غائية طويلة الأمد.

و نستطيع أن نحقق أكثر من ذلك بأن نجعل الحاج يتطوع لنشر الوعي بين بقية الحجاج ممن يفهمون لغته و يفهم عاداتهم و تقاليدهم يرشدهم إلى ما يحقق السكينة و البر في الحج و يجنبهم الوقوع في الرفث و الفسوق و الجدال، فيكسب الثواب المضاعف، و يعينهم على إتمام الركن الخامس من أركان الإسلام إتماما يرضى رب البيت تعالى.

إنها وسيلة ناجحة عديمة التكلفة سريعة النتائج، و تمكن الجهات الأمنية من الالتفات إلى المسائل الأكثر أهمية في موسم الحج، و تمكن السلطات السعودية من تخفيض نفقات تدارك أخطاء الحجاج و صرفها في أعمال تنموية أكثر خدمة للحاج .

النتائج و التوصيات:

1-                 يعتبر الحج أكبر تجمع بشري في العالم تضبطه محدودية الزمان و المكان للعبادة ما يستوجب تكثيف الجهود لتأهيل الحجاج فقهيا و سلوكيا قبل شهودهم هذا التجمع المبارك.

2-                  لقد اجتهد علماء الأمة في ضبط النوازل الفقهية المستجدة في الحج و بيان أحكامها بما يحقق الحج المبرور، فوجب بيانها لعامة الناس.

3-                  إن توعية الحجاج و ضبط سلوكياتهم في موسم الحج هو السبيل الأنجع لتحقيق الحج الآمن.

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 *الجملة القصيرة بالحمر تتحفظ عليها السيدة عفاف عنيبة