(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الخميس, 08 آب/أغسطس 2019 15:06

للسخاوي 85 شيخة.. الموقعات عن الله يفتين ويناظرن ويخطبن على المنابر الجزء 1

كتبه  الأستاذ إبراهيم الدويري
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يحتدم الجدل بين الفينة و الأخرى في البلاد العربية و الإسلامية بشأن تعيين دُورِ و مؤسساتِ الإفتاء الرسمية نساءً "مفتياتٍ" بين مؤيد و معارض؛ و هو جدل عززته عوامل متعددة بينها تحكّم سلطان العادة باعتبار أغلب المفتين ‏و الفقهاء عبر التاريخ كانوا رجالا؛ و الخلط في أذهان الناس بين ‏وظيفتيْ الإفتاء و القضاء، حيث دار خلاف بين الأقدمين في جواز تولي المرأة منصب ‏القضاء، و لم تكن الفتوى كذلك. و هذا ما يجعل الحاجة قائمة إلى التطرق لعلاقة النساء ‏بالإفتاء و الفقه و العلم الشرعي عموما، للكشف عن مظاهر تلك العلاقة تنظيرا و ممارسة؛ و هو ما نسعى إليه في هذا المقال.

الإفتاء النسوي بصدر الإسلام‏
يطلق الإمام ابن قيم الجوزية (ت 751هـ) مصطلح "التوقيع عن الله" على ‘صناعة الفتوى‘ التي أشبعها بحثا في كتابه: "إعلام الموقعين عن رب العالمين". و للفتوى و ممارستها شروط لخصها لنا الإمام النووي (ت 676هـ) بقوله: "شَرط الْمُفْتِي كَونه مُكَلّفا مُسلما ثِقَة ‏مَأْمُونا، متنزِّها عَن أَسبَاب الْفسق و خوارم الْمُرُوءَة، فقيهَ النَّفس سليمَ الذِّهْن رصينَ الفِكر ‏صَحِيح التَّصَرُّف و الاستنباط متيقظاً، سواءٌ فِيهِ الحرُّ وَ الْعَبْد وَ الْمَرْأَة". فمدار الفتوى إذن في الإسلام يرجع فقط إلى ‏الملكة العلمية، و الوازع الأخلاقي، و صحة النظر و الاستنباط.

و لم يكن التصدي للإفتاء في التاريخ الإسلامي يحتاج إلى قرار سياسي ‏بالتعيين عكس القضاء، لأن الفتوى هي: "الإخبار بالحكم الشرعي لا على وجه ‏الإلزام"‏، كما لم يكن الإخبارُ بالحكم الشرعي يحتاج إلى إذنٍ إلا من علماء يشهدون للتلميذ و‏ التلميذة باستحقاقهما لهذه الدرجة العلمية، التي يطلق على صاحبها في اصطلاحهم لقب ‏‏"المفتي" أو "العالم" أو "الفقيه". و لم يكن إطلاق الألقاب عند الأقدمين سهلا، خصوصا ‏الألقاب التي تترتب عليها مسؤوليات بحجم الفتوى التي يتحمل صاحبها مسؤولية "التوقيع عن رب العالمين".

و لذا نجد الإمام القاضي عياض اليحصبي (ت 544هـ) يقول: "لا نرى أن يسمى طالب العلم فقيهاً حتى يكتهل، و يكمل ‏سنه، و يقوى نظره، و يبرع في حفظ الرأي، و رواية الحديث و تبصره، و يميز طبقات رجاله، ‏و يحكم عقد الوثائق، و يعرف عللها، و يطالع الاختلاف، و يعرف مذاهب العلماء، و التفسير ‏و معاني القرآن؛ فحينئذ يستحق أن يسمى فقيهاً، و إلا فاسم ‘الطالب‘ أليق به". و من هذا ‏نعلم أن كل موصوفة بالفقه في كتب التراجم تستحق الإفتاء، كما نصت هذه الكتب على ‏أن نساء كثيرات تولين الإفتاء.  ‏

و قد ذكر العلامة ابن القيم أن "الذين حُفظت عنهم الفتوى من أصحاب رسول ‏الله (ص) مائة و نيف و ثلاثون نفسا، ما بين رجل و امرأة"، و ذكر منهم نحو اثنتين و عشرين مفتية، و هن حسب ترتيب فتاواهن قلة و كثرة: أم المؤمنين عائشة، و أم المؤمنين أم ‏سلمة، و أم عطية، و أم المؤمنين صفية، و أم المؤمنين حفصة، و أم المؤمنين أم حبيبة، و ليلى بنت قانف الثقفية، و أسماء بنت ‏أبي بكر، و أم شَريك، و الحولاء بنت تويت، و أم الدرداء الكبرى، و عاتكة بنت زيد بن عمرو، ‏و سهلة بنت سهيل، و جويرية أم المؤمنين، و ميمونة أم المؤمنين، و فاطمة ‏بنت رسول الله (ص)، و فاطمة بنت قيس، و زينب بنت أم ‏سلمة، و أم أيمن (الحبشية حاضنة رسول الله ص)، و أم يوسف (حبشية كانت تخدم رسول الله ص)، و الغامدية. ‏

و الباحث في تاريخ الإفتاء عبر العصور الإسلامية يدرك أن هذا العدد بنسبته المئوية المرتفعة ‏من "الموقعات عن رب السماوات" يعكس مدى حضور المرأة و دورها فقها و إفتاء في العصر ‏النبوي، و هذا الحضور أو الازدهار يؤكد لنا مقولة عبد الحليم أبي شقة التي جعلها عنوانا ‏لموسوعته الرائدة: "تحرير المرأة في عصر الرسالة".

عائشة و صناعة الفتوى
تجلى حضور النساء النوعي بين ممارسي الإفتاء في ‏القرن الأول في فقه أم المؤمنين عائشة (ت 58هـ) التي عدها مؤرخو الفتاوى ضمن الصحابة ‏السبعة المكثرين في "التوقيع عن الله"، و ذلك لأنها كانت "أفقه نساء الأمة على الإطلاق"‏ كما قال الإمام الذهبي (ت 748هـ) و ابن القيم، ‏و لأنها حسبما أثبته صاحب "الطبقات الكبرى" ابن سعد البصري (ت 230هـ) "استقلت بالفتوى في خلافة أبي بكر و عمر و عثمان و هلمّ جرا إلى أن ماتت‏‏"‏، و"كان الأكابر من أصحاب رسول الله (ص) عمر و عثمان ‏بعده يرسلان إليها فيسألانها عن السُّنن"‏. ‏

كان لقرب عائشة (ض) من رسول الله (ص) دور كبير في كثرة مروياتها حديثا و إفتاء، ‏و قد أكثرت من رواية الأحكام الفقهية حتى زعم الحاكم النيسابوري (ت 405هـ) أنها "حُمل عنها ‏رُبع الشريعة"، و مجمل مرويات عائشة من صحيحيْ البخاري و مسلم حوالي "مئتين و نيفا و سبعين حديثا لم ‏تخرج غير الأحكام منها إلا يسيرا"‏، و جمع الشيخ سعيد فايز الدخيل فقهها و فتاواها في مجلد ‏ضخم سماه: ‘موسوعة فقه عائشة أم المؤمنين.. حياتها و فقهها‘.

و قد اشتهرت عائشة بفتاوى استقلت بها و آراء فقهية انفردت بها، و من ذلك انفرادها بفتوى عدم التفريق بين ولد الزنا و غيره في إمامة الصلاة ما دام هو الأقرأ لكتاب الله و الأفقه في الشرع، إذْ "ليس عليه من خطيئة أبويه شيء، [و] لا تزر وازرة وزر ‏أخرى"‏.

و من انفراداتها النسوية قولها بجواز سفر المرأة بدون محرم مطلقا إذا أمنت على ‏نفسها من الفتنة، فـ"عن الزهري قال: ذُكر عند عائشة المرأة لا تسافر إلا مع ذي محرم، ‏فقالت عائشة: ليس كل النساء تجد محرما"‏. و يلاحظ الشيخ سعيد الدخيل -في كتابه عن فقه عائشة المذكور سابقا- أن كثيرا من فتاواها "ينطلق منها ‏بصفتها أنثى فقيهة متميزة، لأنها عاشت مع الرسول صلى الله عليه و سلم تحت سقف واحد، ‏و علمت منه ما لم يعلمه غيرها من الرجال"‏. ‏

لم يكن دور عائشة الفقهي مقتصرا على الإفتاء و التحديث بالسنن فحسب؛ بل كانت تناظر الصحابة ‏و تستدرك على فتاوى كبارهم مثل أبيها أبي بكر الصديق و عمر الفاروق؛ و قد جمع العلامة بدر ‏الدين الزركشي (ت 794هـ) استدراكاتها على الصحب الكرام في سفر ممتع بعنوان: "الإجابة ‏لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة"‏. كما خرَّجت مفتياتٍ مارسن الإفتاء بعدها، ‏و أخذ عنها الفقه و العلم خلق كثير بعضه من نساء أهل بيتها مثل: أختها أم كلثوم ‏ و بنت أخيها عبد الرحمن حفصة.

و ممن تخرجن على يد عائشة و حملن راية الإفتاء بعدها: "عمرة بنت عبد الرحمن الأنصارية... تريبة عائشة و تلميذتها...، و كانت عالمة فقيهة حجة ‏كثيرة العلم"؛ ‏و"صفية بنت شيبة أم منصور الفقيهة ‏العالمة.. القرشية"‏؛ و"أم الدرداء ‏الصغرى.. الفقيهة (ت بعد 81هـ)، و اشتهرت ‏بالعلم و العمل و الزهد"‏، و قد اتفق العلماء "على وصفها بالفقه و العقل و الفهم ‏و الجلالة"؛ كما يقول الإمام النووي‏.

‏عالمات يدرسن المشاهير‏
في عهد التابعين اشتهر في المدينة النبوية سبعة علماء أجلاء بلقب فقهاء المدينة السبعة، ‏و تفيدنا كتب التراجم بأخذ كل واحد من هؤلاء السبعة المشاهير العلمَ عن فقيهات؛ فأولهم ‏سعيد بن المسيب (ت 94هـ) أخذ عن عائشة و أم سلمة؛ و عروة بن الزبير (ت 93هـ) أخذ عن أمه أسماء بنت أبي بكر الصديق و عن خالته أم المؤمنين عائشة التي "لازمها ‏و تفقه بها"؛ و القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (ت 107هـ) تربّى "في حجر عمته أم المؤمنين عائشة و تفقه منها و أكثر عنها"‏؛ و سابعهم الفقيه الشاعر عبيد ‏الله بن عبد الله الهذلي (ت 98هـ) أخذ العلم عن عائشة ‏و أم سلمة.‏

لم يُؤثر عن الأئمة ‏الأربعة تعلم ذو بال على أيدي النساء؛ إلا أن إمام المدينة مالك بن أنس (ت 179هـ) أخذ عن امرأة هي عائشة بنت ‏سعد بن أبي وقاص (عائشة الصُّغرى)، و أخذت عنه هو ابنته فاطمة التي ذكرها الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي (ت 842هـ) في رواة موطأ أبيها، و قال: "كانت لمالك ابنة تحفظ علمه...، و كانت تقف خلف الباب فإذا غلط القارئ [من طلبته] نقرتْ الباب فيفطن مالك فيرد عليه". و كان سبب انصراف الإمام الأعظم أبي حنيفة إلى الفقه ‏و الفتوى سؤال امرأة.

و في العصور اللاحقة نجد أن أشهر شخصية فقهية هو الإمام أبو محمد ابن حزم (ت ‏‏456هـ) الذي عُرف بمذهبه الظاهري و تفننه في سائر العلوم؛ يقول عن علاقته العلمية ‏و التكوينية الأولى بالنساء: "و لقد شاهدتُ النساء و علمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه ‏غيري، لأني ربيت في حجورهن، و نشأت بين أيديهن، و لم أعرف غيرهن...؛ و هن علمنني القرآن و روينني كثيراً من ‏الأشعار و دربنني في الخط"‏. و هذه الصحبة المبكرة ‏من هذا العلَم الفذ للنساء جعلته أحد أكابر محللي النفس البشرية في التاريخ القديم، و خصوصا الأمور المرتبطة بالنساء.

و حين نتّجه شرقا في القرن الخامس نفسه نجد رجلا بحجم ‏الخطيب البغدادي "حافظ المشرق" يسمع الحديث من الفقيهة المحدثة طاهرة بنت أحمد التنوخية (ت 436هـ)، و قد ترجم الإمام ابن عساكر (ت 571هـ) لـ80 شيخة من شيخاته في ‘معجم النسوان‘، و جمع ‏أحد طلاب الحافظ السِّلَـفي (ت 576هـ) معجما لشيخاته، و الإمام الذهبي روى عن جماعة من النساء ذكرهن في معجم ‏شيوخه.

كما صرّح الإمام نجم الدين ابن فهد المكي (ت 885هـ) بالأخذ عن 130 شيخة، و ترجم الحافظ ابن حجر العسقلاني لـ170 ‏محدثة في كتابه ‘الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة‘ منهن 54 شيخة له، و في كتابه ‘التقريب‘ ‏ترجم لـ824 امرأة ممن اشتهرن بالرواية. و لتلميذه السخاوي (ت 902هـ) حوالي 85 شيخة ذكرهن في ‏‘الضوء اللامع‘، و شيخات معاصره الحافظ السيوطي (ت 911هـ) يصلن 44 شيخة.

و إذا كان اشتُهر عن الإمام ابن شهاب الزهري (ت 124هـ) قوله: "الْحَدِيث‎ ‎ذَكَرٌ ‏يُحِبُّهُ‎ ‎ذكور‎ ‎الرِّجَالُ‎ وَ يَكْرَهُهُ مُؤَنَّثُوهُمْ"؛ فإن الإمام الذهبي رسّخ في أذهان الناس مقولته :"و ما ‏علمت في النساء من اتـُّهِمتْ [بوضع الحديث] و لا من تركوها" في روايته‏. و هاتان المقولتان تعبّران عن زمانيْ قائليْهما ثقافيا؛ ‏ففي زمن الزهري كان الحديث صنعة متمحّضة للرجال، و في زمن الذهبي انتشرت المحدِّثات ‏في العالم الإسلامي، و خصوصا في الأسر العلمية لأن الرحلة في طلب العلم و الحديث لم تكن ‏متاحة لربات الخدور.

و لغة الأرقام تقول إن عدد المحدثات في القرنين السابع و الثامن وصل ‏في مصر و الشام حوالي 334 محدِّثة، أخذ عنهن مشاهير المحدّثين في ذلك العصر ممن ضربنا لهم الأمثال بابن ‏حجر و غيره؛ و عموما لا يوجد مشتغل بالحديث في تلك العصور إلا أخذ -على الأقل- عن امرأة محدّثة.

 
 
قراءة 1682 مرات آخر تعديل على السبت, 24 آب/أغسطس 2019 15:31