قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 02 تموز/يوليو 2014 09:31

قصة الشهيد محمد عبد الناصر فاخوري 2/2

كتبه  موقع أدباء الشام
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يا رب رضيت بقضاءك، يا رب رضيت بقدرك، يا رب أيقنت أن لا مفر من قدرك يا رب أسألك الهدى، يا رب أسألك أشهيد هو أم فقيد، يا رب أمصاب هو أم معافى، يا رب رحمتك، يا رب كربك، يا رب عفوك، يا ربي إحسانك، يا رب قوتك، يا رب لطفك ثم لطفك ثم لطفك.

عدنا إلى مشفى الأتارب بعد رحلة طويلة من مشفى باب الهوى إلى مشفى الدانا إلى مشفى جواد إلى مشفى أورينت إلى مشفى عقربات و لا خبر و لا شيء عن ولدي إلا دعوات بالصبر، دعوات بتحمل المصاب.

عدت إلى مشفى الأتارب و عاودت البحث من جديد بين الأسرة و الغرف و المصابين حتى وجدت ممرض معه ورقة بأسماء الذين أرسلوا إلى تركيا حوالي 25 اسماً تفحصتهم بسرعة لم ألمح اسمه أو كنيته أو شبه اسمه فاجأني الممرض بأنه لم يسمع باسمه أو كنيته من قريب و لا من بعيد.

عدنا أدراجنا إلى البيت أنا و زياد و قلت له "محمد راح يا زياد، محمد استشهد يا زياد.. محمد لن يعود يا زياد.. محمد ليس صغيراً كي يضيع و لا أحد يعرف عنه.. محمد ليس صغيراً كي لا يعرف بيته.. محمد لن يعود.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى الله و نحن نبحث عنه في طريق يوصلنا إلى أحلامنا.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى الخلود و نحن نبحث عنه في طرق فانية.. محمد سلك طريقاً يوصله إلى أعالي السماء و نحن نبحث عنه في أغوار الأرض.. محمد سما بروحه إلى السماء و نحن نتحسسه بين الأشلاء.

دخلت المزرعة و إخوتي و أخواتي و جيراني و أولادي و عائلتي و كل صغير و كبير ينظر إلى شفتي إلى عيني يمني  نفسه أن أضيء لهم شمعة أمل تخبرهم أن محمد حي يرزق.

لم نجده و لم نجد له على أثر و لم نجد من سمع به.. كلمات مزقتهم، كلمات فرقتهم كلمات شتتهم، تفرقوا عني ضائعين شاردين مذهولين يتكلمون مع أنفسهم و بدأت نفوسهم جميعاً تقترب من الحقيقة و بدأت أحلامهم تبتعد عن أعينهم. 

اقتربت مني زوجتي نور و أمسكت بأكتافي "وين راح الولد يا ناصر"

كلمات متوسلة، كلمات مسترحمة كلمات مستجدية، يفيض الدمع في حروفها يتلظى القلب من نارها، يدمي الفؤاد من لهيبها و أشواقها.

كلمات أم منكسرة الجناح، محطمة الفؤاد، جريحة القلب، أحسست ببراكين تثور في رأسي و بحار تزخر في فكري و أعاصير تضطرب في خلدي، أحسست بنفسي رضيعاً طفلاً صغيراً بين يديها أحسست بنفسي انكسر أتحطم أهوي من مكان سحيق.

انتشلتني عناية الله قائلاً لها طولي بالك يا نور.. الله أعطانا إياه و هو الوحيد اللي بياخده، له ما وهب و له ما أعطى لا تنسي أننا مؤمنون و مسلمون، أردت أن أعزيها أن أقويها أن أصبرها بكلمات تطفئ نارها و تأكلني أذكرها بآيات الصبر و التسليم و ألم المصاب يمزقني، كان علي أن أعيش بدوامة الناقض و المنقوض الناصح و المنصوح.

ألم الصدمة:

أحياناً يتبادر لذهن الإنسان أن الحياة نهر جار ينساب في الوديان و السهول، تارة يزجز بالحياة و أخرى يذبل و يذوي كما تذوي أوراق الخريف، تمطر ساعة و تشمس أخرى، يضحك برهة و يبكي أخرى.

قاربت الساعة على الثانية ليلاً و المزرعة صغيرها و كبيرها لا يعرف النوم و هاجس المصيبة بدأ يستعظم و هول الحدث أخذ ضخامته و ثقله في القلوب و العيون و كأن مدية الموت و خنجره ينهش في صمت هذه المزرعة في سكونها في ليلها في نجومها و سماءها و ظلامها و جدرانها و في أشجارها و في أعمق شئ فيها في روحها و نبضها.

و في خضم هذه الآلام جاءت ابنتي تسنيم لتكلمني و دموعها تسبقها تكلمني بجراح قلبها و عويل نفسها و نشيج فؤادها و صرخات جنباتها و روحها كانت تكلمني بلسانها و عيون الدنيا تبكيها و أوجاع الدهر تأكلها، كلمات تخرج من فمها لكن ليست كالكلمات.

"بابا أنا شفت كل شيء..(بكاء).. شفت الطيارة..(بكاء).." تتقطع الكلمات تتمزق العبارات تجهش بالبكاء.

"شفت حمودة واقف بالباحة ناديت عليه... حمودة.. ادخل لجوا... نظر حمودة إلي و أشار بيديه مستغرباً و هو يضحك... مافي شي... ثم رأيت النار تشتعل به... شفتو بابا و الله شفتو يعني و هو عم يحترق... و شلفتني النار لداخل الصف.. خرجت من الصف أنادي عليه.. محمد.. محمد.. محمد.. لم يسمعني لم يرد علي و شدوني إلى خارج المعهد"

طفلتي صغيرتي حبيبتي ماذا رأت عيناك.. أي قلب أبصر ما أبصرت.. أيعقل ما شاهدت.. في أي زمن عشنا و في أي كون وجدنا.. لقد شاهدت نفسها تحترق يا رحمة الله يا لطف الله يا ستر الله.

"بابا ما بحسن أحكي ها الحكي لأمي.. حمودة مات حمودة استشهد حمودة احترق"

و لم أعد اسمع منها غير صوت البكاء

بتلك العبارات أوصلتني ابنتي لحدثي أوصلتني ابنتي إلى الحقيقة أوصلتني لعين المصاب بدأت أتيقن أن بعضي أخذ يبتعد عن كلي، شعرت أن جسدي انفطرت بعض أجزاءه و سارت إلي بعيد، شعرت أن روحي تناثرت و تبعثرت في جنبات الفضاء، و أنا أحاول أن ألملم أجزائي و أحزاني و أوهامي.

رثاء:

محمد يا ينبوع الحب محمد يا فطرة الله صافية نقية

لم تعبث بفطرتك يد الخلق و لم تلوثك سموم الحياة

محمد يا طفولة ليس لها نهاية يا طفولة تكبر و تشيخ و لكن لا تموت و لا تنتهي

محمد يا براءة هدتني إياها السماء

محمد يا كنز الله و هل يوجد أغلى من كنز الله

محمد يا ضحكة الزمان تهديها إلى كل إنسان محمد يا زين الشباب

محمد يا وداعة الإنسان في وجه الطغيان محمد يا هدية السماء

نثرتك كقطرات الندى تتهادى مع نسمات الصباح

محمد يا ركب الحب فنعم الركب أنت و نعم الحب

محمد يا زاد الخير فنعم الزاد أنت و نعم الخير

محمد يا ضي الزمان فنعم الضوء أنت و نعم الزمان

محمد يا نبض الأمل فنعم النبض أنت و نعم الأمل

محمد يا غمز الخد فنعم الغمز أنت و نعم الخد

محمد يا وجد الروح فنعم الروح أنت و نعم الوجد

محمد يا ضوء الصباح يا بسمة الأمل يا ضحكة الصفاء

يا ضجيج الحياة يا عمري يا ولدي يا حبي يا صغيري

يا طفلي يا غصتي يا لوعتي يا ألمي يا أملي يا سكينتي يا صرختي

يا حرقتي ويا دمعتي يا وجدي يا حبي يا دائي يا دوائي

يا قلمي و مدادي يا حروفي و كلماتي يا شوقي

يا حرف أبجديتي يا كنزي و سعادتي و شقائي

أبكيك و على أمثالك يبكي القلب و ينتحب=أبكيك و على محراب حبك دموعي تنسكب

أهديك لجنة الخلد و أدعو الله و ارتقب=تلاقينا عند الشفيع و وعده الحق يقترب

أبكيك و دموعي تحوقل عليك و تحتسب=و أصبر و صبري جميل عليك ينكتب

اقترب أذان الفجر و جفني و جفن كل من في المزرعة لم يغمض و لم ينم و قبيل الفجر و في جوف الليل ركعت و زوجتي، ركعتي قضاء الحاجة ودعونا الله و التجأنا إليه و عيوننا تفيض دمعاً و قلوبنا تذرف دماً، نتضرع إلى الله ونلتجئ إليه وكان من جملة دعائنا، يا رب السماوات والأرض يا رب كل شيء ومليكه يا من يحتاجك كل شيء ولا تحتاج لشيء يا بديع السماوات والأرض يا من وهبتنا الحياة وما فيها وكتبت علينا الحياة والموت ووهبتنا وحرمتنا وأعطيتنا ومنعتنا وقضى أمرك فينا سلمنا إليك الأمر كله يا من يرجع إليه الأمر كله.

يا رب إن كان قد كتبت له الشهادة فنحمدك و نشكرك و نحتسبه عندك فلك ما أعطيت و لك ما أخذت رضينا بقضائك و سلمنا بقدرك.

يا ب إن كان من المفقودين طمأن قلوبنا برؤيته أو خبر يطمئن قلوبنا و تسكن له أفئدتنا يا رب لا نسألك رد القضاء و لكن نسألك اللطف فيه و نحمدك يا من لا يحمد على مكروه سواه.

و ختمنا دعاءنا رضينا بالله تعالى ربا و بالإسلام ديناً و بسيدنا محمداً نبياً و رسولاً، لله ما وهب و له ما أخذ، إنا لله و إنا إليه راجعون، حسبنا الله و نعم الوكيل و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم.

و مضت الدقائق كالسنين على قلوبنا و أذن الفجر، هذه أول ليلة يغيب فيها شمسنا عن بيته، هذه أول ليلة يحتجب قمرنا عن فراشه، هذه أول ليلة يفترق قلبنا عن نبضه، هذه أول ليلة يمتنع عن تقبيل أيدينا قبل نومه، هذه أول ليلة يغيب عن البيت صوته و رسمه و حركته و صراخه و ضحكته و أنفاسه و لمساته، هذه أول ليلة أتأمل فراشه فارغاً و أنا أتصوره و استحضره بمخيلتي، استجدي دموعي و عبرتي، التمس طيفه.

صباح الثلاثاء الساعة السابعة و النصف و أنا في طريقي إلى المجهول، إلى قدر الله أمضي، إلى لملمة شتاتي و أجزائي المبعثرة، أمضي إلى حتفي إلى مقتلي إلى مصرعي إلى صاعقي.

سألني أخي زياد إلى أين قلت له إلى أورم الجامع الكبير نتفحص الجثث المتفحمة و من بعدها لكل حادث حديث، دقائق و نصل إلى الجامع، الساعة الثامنة و القرية غارقة في حزنها و صمتها و ذهولها كأن جدرانها تحادثني تشفق علي ترثيني تناديني تواسيني تبكيني، على باب الجامع وقف بعض الأهالي يتفقدون و يسألون كالضائعين غير مصدقين، كأننا في عالم الضياع و الخيال، سألنا عن الجثث المتبقية فأجابنا أحدهم أنه لم يبقى إلاجثة بنت ميتة واحدة و أن الآخرين قد تعرف عليهم ذويهم و أهليهم، في هذه اللحظات التقيت مع جيراني من بيت سعدة يبحثون عن ابنهم، طالب بكالوريا و لا يجدون لهم أثر و تشاركنا الأخبار، أخبار المصابين و تواجدهم، أخبرتهم أني سمعت اسم ابنهم مصطفى أنه قد غادر إلى تركيا من مشفى باب الهوى، و جاءني جاري ليوجز لي بعض الكلمات "يا ابو محمد شاهدت في مشفى الأتارب جثة لطفل في الخامسة عشر من عمره، صغير الحجم متفحم عاري إلا من سرواله الداخلي عليه ايتكيت حمراء وقع في نفسي أنه لن يكون إلا محمد.

سارعت إلى السيارة و أخي زياد و طارق إلى مشفى الأتارب و في الطريق أيقنت أني وجدت ضالتي أقتربت من الحقيقة لا بل لمستها، استشهد محمد.

السيارة تسير و شريط عمره يدور في مخيلتي محطات عمره صورته تسبح في مخيلتي و طيفه يداعبني يمسح عبرتي.. يديه تداعبني و جنتيه تبكيني ضحكته تنتشلني من فاجعتي  الحب في عينيه الرقة في حسه الطفولة بضجيجها و براءتها في قلبه، الإنسانية بقدسيتها تختزل في عفويته و طيبته، وصلنا المشفى و قلبي يسبقني و حدسي يتقدمني، لا شك 1% أن يكون غيره.

ذهبت إلى الجهة الشرقية في المشفى أبحث عن الجثة، فأجابني أحدهم بأنها موجودة في الجهة الغربية و هناك وجدت كيساً فضياً له حمالات في الجوانب مسجاة بزاوية من زوايا المشفى، اقتربت من هذا الكيس و أنا أقول يا رب صبرني يا رب لطفك يا رب أمدني بقوتك مدني بصبرك.

فتحت سحاب الكيس و شاهدت صورة وجهه و أكملت السحاب لأشاهد سرواله الداخلي ماركة حنين الحمراء على سرواله الراحل، أيقنت أنه محمد.

يا ربي أين وضاءته يا ربي أين جماله أين ضحكته يا ربي أين غمازاته يا ربي أين سحره يا ربي أين تلاميح وجهه يا ربي يا أرحم الراحمين يا مالك الملك.

من سرق من ابني جماله من سرق من ابني طفولته من سرق من ابني انسانيته من أضرم النار في ولدي و قلي من أحرقه و أحرقني من فحم قلبه و فحم قلوبنا عليه.

يا ربي أي قلوب سوداء تفعل هذا يا ربي أي إجرام يتجرؤ على هذه الطفولة.

يا ربي أنت المقدم و أنت المؤخر و أنت الواهب و أنت المانع حسبنا الله و نعم الوكيل

يا ربي في أي زمن نعيش و في أي زمان نحيا

سألت خالقي إلى متى.. إلى متى ستطعم الذئاب ما وهبتنا سألت خالقي و كلنا سأل لمن لمن تركتنا.

قبلت وجنتيه المحروقتان قبلت جبينه أمسكت بيده من فوق الكيس و دموعي تغسلني دموعي تمزقني دموعي تتحدث عني تناديه تذكرت أنه لا ينفع في تلك اللحظات إلا الدعاء.

الله يرحمك يا حمودة الله يتقبلك في الشهداء يا حمودة

اللهم اجعل نزله نزل الشهداء و ارزقه مرافقة الأنبياء

الله يرضى عليك يا ابني الله يسمح عنك يا حمودة

الله و السماء و العرش يرضى عنك يا محمد

يا رب احتسبته عندك و استودعتك إياه

يا من لا تضيع عنده الودائع و الأمانات

حملني و شدني أخي طارق و زياد إلى السيارة و حملوا جثته إلى السيارة و خرجنا من المشفى.

زياد يقود السيارة بصمت و أنا غارق بالدموع و الشرود

سألني زياد إلى أين أجبته إلى أورم الجامع الكبير، كنا قد شاهدنا بقرب الجامع مقبرة و كانوا يجهزون قبراً للجثة التي تركناها خلفنا عسى أن نجد في هذه المقبرة قبراً ندفنه فيه و هنا سألت زياد، تذكر يا زياد يوم مولده كنت معي و كيف كنا نركض فيه من مشفى لمشفى لنبحث له عن حاضنة ما أسرع هذين اليومين يوم ولادته و يوم دفنه.

وصلنا إلى جامع أورم الكبير و أنزلناه من السيارة و وضعناه في جنينة الجامع و كان أصحاب الجثة قد تعرفوا على ابنتهم و في المقبرة ثلاثة رجال يحفرون القبر، طلبنا منهم أن يجدوا قبراً ندفنه فاقترح أحدهم أنه لا يوجد قبر و لا مكاناً و لكن بالإمكان أن نوسع القبر الذي نحفره و نجعله قبرين، و لكن اطلب من مؤذن الجامع أن ينادي على الناس لمساعدتنا، ذهب طارق ليخبر أهل البيت بأننا وجدنا محمد و جلست بقرب رأسه أحادثه آخر حديث و أناجيه: "يا من رحلت بجسدك و سكنت روحك جوارحي يا من أضرمت نيرانك التي ألهبتك و أحرقتك في قلبي و كبدي يا من رحلت إلى جنة الخلد و تركتني في شقائي و وحدتي يا من رحلت و لم تستأذن بالرحيل، حتى ضننت علينا بالوداع، يا من تركت غصة في قلوبنا و أحداقنا، يا من قتلتنا بطيبتك و براءتك، يا عمري يا قدري يا ولدي، بماذا أناديك و بماذا أحابيك و بماذا أبكيك، أنادي فيك الطفولة أم أنادي فيك البراءة، أم أنادي فيك الحب أم أنادي فيك الإنسانية جمعاء، يا ابن الخامسة عشر ربيعاً ماذا فعلت و كيف رحلت و أي أثر تركت و أي غراس زرعت و أي ذكرى أبقيت، ماذا فعلت، فعلت ما لم يفعله الرجال، تحطمت أمام طفولتك عنجهية الطغيان، كيف رحلت، رحلت من دون خبر أو استئذان، رحلت كبرق خطف في غفلة الزمان، أي أثر تركت، تركت بصمتك في قلوب الصغار و الكبار، ضحكتك أبكت قلوبنا، بسمتك أدمت عيوننا، ضوضاءك ضجيجك جنونك حبك صوتك عجلتك أشعلت في نفوسنا نيرانا و أحزانا، أي غراس زرعت، زرعت الحب و تركت لنا حصاده، زرعت الطيب و تركت لنا ثماره، زرعت الخير و تركت لنا آثاره، زرعت لنا المجد و الخلد، أي ذكرى أبقيت، أبقيت لنا ذكراك لا يمكن أن نتذكرك دون أن نذكر ضحكتك، لا يمكن أن نذكرك دون أن نذكر حبك أو براءتك وطيبتك، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت نبراسي و مشكاتي، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت معلمي و أستاذي، يكفيك فخراً يا ولدي أنك أصبحت مثلاً و مذهباً و مرجعاً، يكفيك فخراً أنك علمتنا ما عجزت عنه العلوم و عقرت عنه الكتب و المراجع، علمتنا أن الحب يكبر و لا يكبر عليه، علمتنا بأن الحب يزيد و لا يزاد عليه و أنه يجبر و لا يجار عليه، علمتنا أن أمام الحب تتقزم الكلمات و أن الحب يفتح قلاعاً و يجتاح مدناً و يشيد أمماً و يخر أمامه طواغيت الزمان و تتحطم أمامه قسوة الزمان.

علمتنا أن الحب أقوى من الظلم و أن الحب أقوى من الموت و أقوى من القتل و أقوى من الظالم، علمتنا أن الحب رغم القتل و الألم و الظلم و الطغيان ينتصر، علمتنا كيف تضحك في مواجهة الموت، علمتنا كيف يصبح الإنسان عظيماً أمام قاتليه بوحشيتهم، بطغيانهم، بجبروتهم، ببطشهم و إجرامهم.

علمتنا أن ضحكتك أكبر منهم، ضحكتك أقوى من نيرانهم ضحكتك أقوى من طائراتهم، ضحكتك أقوى من ألمهم، ضحكتك يا ولدي قزمتهم و أصغرتهم ضحكتك يا ولدي هزمتهم.

 علمتنا ياولدي أن الحب لايحتاج لمدرسة يرتادها الأنسان و لا لكتب يتعلمها  و لا لكلمات يرددها أو حروف يهجئها الحب يا ولدي فطرة من الله أستودعها الله قلب من أحب الحب يا ولدي لا يشتريه مال و لا جاه  الحب يا ولدي هبة من الله أعطاها آياك فطوبى لك بهذا العطاء. بعد قليل جاءت نور مع أختي عبير إلى المقبرة و أنا جالس على جثة ولدي رأسي على رأسه و يدي على يديه أهمس في أذنيه أقرأ القرأن و أدعو له و أحتسبه عند الله جلست نور بجانبي و دموعي تغرقني طلبت مني رؤيته فأجبتها لا تقدري على رؤيته يا نور فأصرت أريد أن أرى عظامه لن يبرد قلبي إلا برؤيته أستسلمت لطلبها  و فتحت سحاب الكيس فرأت وجهه و شعرت انها لم تطمئن فأكملت السحاب حتى رأت سروال الداخلي و عليه ماركة حنين الحمراء أيقنت أنه حمودة لا شك بذلك حمودة بلحمه و شحمه رفعت يديها إلى السماء و قالت بصوت مسموع سمعه كل من كان حاضرا معنا روح يا حمودة هديتك لله يا حمودة وهبتك لله يا حمودة الله يجعلك في عليين في جنان الخلد يا حمودة يا ربي وهبتك تقبله ياربي شهيد و أحتسبه من الشهداء . بهذه العبارات نعت أم محمد وليدها بهذه الكلمات زفت نور ولدها بهذه الكلمات أطفأت نارها و حرقتها .أيقنت أن النار التي محمد قد وصلت لقلب أمه  سمعت صراخه بكلماتها سمعت ألمه بنبراتها رأيت وجعه بدموعها بلوعتها شعرت بسكين تمزقها و تمزقني شعرت بألم الكون يعتصرها ويعتصرني .هل تعلم كيف يتمزق الانسان .عندما تفقد الأم ولدها يتمزق الأنسان عندما تفقد الأم ولدها على نحو حمودة يستوطن الألم قلبها و يسكن الحزن أحشاءها عندما تفقد الأم ولدها تموت الأمومة .       

تكلمت كثيرا عن ألمي و لكن يعجز قلمي ان يتحدث عن ألمها و وجعها قد تبرني كلماتي و حروفي عن أفصاحي عن مشاعري و أحزاني  لكنها لن تستطيع أن تختزل ملحمتها.

من حمودة بالنسبة لنور

حمودة كان حبها الأوحد بلا منازع، حمودة لم يفطم عن صدرها، حمودة فرحتها و ألمها حمودة رضيعها و صغيرها و ولدها و شبابها حمودة هوائها الذي تتنفسه، حمودة كان هدية الله إليها، حمودة ذخرها و كنزها حمودة حلمها و مستقبلها، و رجائها، كم من مرة التجئ إليها و التجأت إليه، كم من مرة جلست تحاكيه و يحاكيها، يقبلها و يغازلها يبكي بين يديها، يشكيها يناديها، حمودة لا يمكن أن يفارقها حمودة سكن فؤادها و استوطن قلبها و مشاعرها، حمودة نبض يبعث في قلبها الحياة، حمودة طيف يهب لها الضياء و النور، حمودة كان لها كل شيء، همها و فرحتها و سعادتها، هذا كله قبل وفاته.

بعد وفاته حمودة أصبح بقاءها و فناءها حمودة صوتها نبضها دمعتها حمودة غصتها دنياها و آخرتها، حمودة أضحى سراب عينيها تلهث خلف صدى ذكراه يتردد في جنبات روحها و نفسها، حمودة حلم يداعب مخيلتها يناديها يهفو إليها يداعبها يناغيها، حمودة عالمها ماضيها حاضرها مستقبلها.

حمودة على ذكره تغفو و على ذكره تصحو و لذكره تضحك و على ذكره تبكي، حمودة مشعل حب أضاء جنبات بيتنا و هوى ذلك المشعل، لم أشعر كم من الوقت مضى و أنا بجانب جثتي و انتهى الطيبون من حفر القبر و نادوا على صلاة الجنازة، وقفت على رجلي و شعرت أني أحمل حزن العالم و ألم الكون، حملت جثته إلى داخل المسجد و وقفنا نصلي عليه هذه آخر جماعة تصليها معنا يا ولدي و هذه آخر فاتحة تحضرها معنا يا ولدي و هذه آخر تكبيرة تشاركنا فيها يا عمري، هذه آخر لمسات تمسك يا حزني يا فرحتي لم أعد أعي إلا بالدموع تغسلني، تطهرني، تفرقني، تجرفني، دموع محب، دموع مكلوم، دموع دموع...

و عندما أنزل إلى القبر شعرت بنفسي على حافة عالمي على حافة هاوية و أيدينا تفترق و أجسادنا تنفصل من عالم الحياة و عالم القبر شعرت به يبتعد يمضي يطير يضحك يحلق في السماء.

و سد في القبر انهالوا على قبره بالتراب فقبضت بيدي حفنة من التراب و قبلتها بشفتي و حثوتها على قبره و نترتها على قبره قائلاً: الله يرضى عليه يا حمودة الله يسمح عنك يا حمودة الله و السماء و العرش يرضو عنك يا ولدي و ختمت قول الملقن و المشيعين بالدعاء له و للقبر الذي كان بجواره.

اللهم أبدله داراً خيراً من دارك و أهلا خيراً من أهله و جيرانا خياً من جيرانه اللهم اغسله بالماء و الثلج و البرد و نقه من الذنوب و الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس

اللهم اجعل نزله نزل الشهداء و رزقه مرافقة الأنبياء، بتلك الكلمات ودعت ولدي احتسبته فارقته خرجنا من القبرة و وقف الزمان عند هذه اللحظات، وقفت هذه الحكاية عن الدوران لكنها لم تصمت.

عدنا إلى المزرعة صحوت من رحلتي من سكرتي لأشاهد الفراغ لأتحسس حجم المصيبة و هولها، اقتربت السيارة من باب المزرعة من سيفتح الباب من سيقبل يديك من سيركض حولك من و من و من

جدرانك باكية أشجارك شاكية، أرضك صامتة تغوص في الحزن و الألم، لا أستطيع أن أستوعب هذا فعل ابن الخامسة عشر ربيعاً نعم كان حبه أكبر من خمسة عشر قرناً

حبه تجاوزنا كبر علينا و سما به إلى الله، أصبحت ذكرى يا ولدي لن أنساك ما حييت لن أنساك ما بقيت، لن أنساك ما تنفست، ستبقى يا ولدي ملهمي و معلمي، ستبقى يا ولدي حزني و فرحي، ستبقى يا ولدي رجائي و دعائي.

علمتني الكثير علمتني كيف يصغر الوالد أمام ولده علمتني كيف يبر الولد أباه علمتني كيف يفوق التلميذ أستاذه، علمتني كيف يحب الله عباده، علمتني أن الحب هدية من الله إنك لا تهدي من أحببت لكن الله يهدي من يشاء، علمتني أن الفطرة كنز لا يفنى.

علمتني أن الخلود ثوب ينسجه الإنسان بيديه فطوبى لمن نسج خلوده بالحب، طوبى لمن عمر قلبه بالإيمان، طوبى لك يا ولدي، طوبى لمحياك و مماتك، طوبى لذكراك.

سلام عليك يا ولدي يوم ولدت

سلام عليك يا ولدي يوم قتلت

سلام عليك يا ولدي يوم تبعث حياً

نحتسبك من الشهداء و نرجو لقاءك مع الأنبياء في مقعد صدق عند مليك مقتدر "الرحمن".

الرابط:

http://www.odabasham.net/show.php?sid=75563

قراءة 2310 مرات آخر تعديل على الإثنين, 13 تموز/يوليو 2015 09:29

أضف تعليق


كود امني
تحديث