قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 29 تشرين1/أكتوير 2017 08:19

نحيا كراما.. أو نموت كراما..!

كتبه  الأستاذة أم وفاء خناثة قوادري*
قيم الموضوع
(0 أصوات)

 (هذه القصة مستوحاة من كتاب: "وقفات من تاريخ بوسعادة النضالي.. و ذكرى وراء القضبان" للأستاذ الفاضل و المربي الجليل "محمد يحيى حرزلي" مع أخلص عبارات التقدير و الإكبار..)

و تمتزج طقطقات حذائها البني الصغير بإيقاع الطبل في تناغم بديع، تدور بجسمها الغض و تتمايل كغصن بان، ليخفق الفؤاد هائما متبتلا في محراب سحرك يا جزائر.

كان يراها بعيني قلبه، يبارك رقصتها و يسرح في خدر جميل، يهيم بهذه اللحظات، يسجل بريشته نغمَ أحلى ناي، و يرن صوتُه الجهوري في عيد الحرية، حرية كان ثمنها النفائس و النفوس.

 *         *         *

يُطرَق الباب بقوة، و يصيب الثلاثة المتواجدين بداخل الدار رعب و فزع، تدور الأعين في المحاجر، و تخرس الألسن، فلا تكاد تسمع إلا همسا، يشتد القرع و يزيد:

  • افتح نحن العسكر، نحن الجيش هيا افتح بسرعة!

و يُفتح البابُ لتدخل فرقة الردع و التحقيق، و يوجه السؤال إليه مباشرة:

  • أأنت الشاب محمد يحيى مثقف الدشرة القبلية؟
  • أجل أنا هو، لست مثقفا بأتم معنى الكلمة، و لكنني فقط أجيد اللغتين العربية و الفرنسية.
  • إذًا أنت إمام الدشرة خلفا لأبيك، هات بسرعة وثائق الثورة و الإرهابيين الفلاقة[1] الخارجين عن القانون الذين تتعامل معهم.
  • لا أملك وثائقا و لا أتعامل مع أحد، أتردد بين المسجد و الدار، أعلم الصبيان نهارا لأغلق بابي مساء، أحترم قانون الحصار، و الدليل أنكم وجدتموني الآن هنا داخل بيتي.
  • قلت لك: مدنا بالوثائق السرية، فأنت كاتب اللجنة السياسية الإدارية[2].
  • لا أعرف هذه اللجنة، و لم يسبق لي أن تعاملت معها.
  • إذن هكذا، سترى يا مثقف الدشرة القبلية!

أُخْرِج محمد يحيى و أخيه العربي و ابن عمتهما من الدار بعنف و شراسة، و سيق الكل داخل سيارة "جيـب" إلى مركز التحقيق، تتبعهم المركبات العسكرية.

وحشية جنود الاستدمار تنم عن حقد صليبي دفين، تلتمع به الأعين، و تبين عنه الشتائم و الركلات.

جال محمد يحيى ببصره نحو السماء، و نبرات صدى صوت المرحوم والده تتردد في أذنيه: يا بني احرز الميم تحرزك[3].

*         *         *

انطلقت الحناجر فجأة بالأناشيد الوطنية، و ارتفعت الأصوات و علت مرددة في حماسة:

  • من جبالنا طلع صوت الأحرار...
  • شعب الجزائري مسلم و إلى العروبة ينتسب...
  • عليك مني السلام يا أرض أجدادي...

حدث ذلك بمجرد ما أخذ الطلاب أماكنهم داخل الحافلات، المتجهة إلى المدينتين الأثريتين "شرشال" و"تيبازة" في رحلة سياحية نظمت لصالح طلبة الثانوية الفرنسية الإسلامية في جوان 1955م.

تفاجأ الأساتذة المرافقون - و خاصة الفرنسيون منهم - إلا أنهم تظاهروا باللامبالاة، و تجاهلوا الأمر عن قصد.

*         *         *

كان محمد يحيى طالبا بالثانوية الفرنسية الإسلامية[4] بابن عكنون، التي اتخذتها فرنسا وسيلة لمحو كل أثر للأصالة و التاريخ بالجزائر، بدلا عن المدرسة الثعالبية الشهيرة، و هذه الثانوية بها خيرة أبناء الوطن، و النخبة من المتفوقين من طلبة الجزائر، لا يتجاوز عددهم 250 طالبا من مختلف أنحاء البلاد.

محمد يحيى ذلك الفتى الهاملي[5]، الذي أحسن والده الشيخ الربيع تربيته و تعليمه، فحرص على تحفيظه القرآن الكريم، و قد تم له ذلك دون الثالثة عشرة من العمر، كما لقنه مبادئ الدين و علوم العربية، و هاهو سعيد بتفوقه و فوزه في امتحان جوان 1954م، ليركبا الحافلة معا من مدينة بوسعادة متجهان إلى العاصمة الجزائر في الفاتح من أكتوبر 1954م.

و يرى محمد يحيى "ادزاير[6]" فتذهله شوارعُها و بناياتُها العريقة، و تهديه درسا عطرا يعبق بالأصالة و التاريخ، فالأم الرؤوم الجزائر تخشى على فلذات كبدها، فهي لا تسلمهم للغريب حتى تطبع على قلوبهم؛ حبها و عشق تاريخها و معرفة أمجادها، إنها أرض الإسلام.. الجزائر!

 *         *         *

و انقلب السحر على الساحر، فمثقف الدشرة القبلية، بات كالطود شامخا أمام زبانية العذاب، لم ينبس ببنت شفة، فعزيمته لم يفت فيها الحديد.

زمْجَر المشرف العام على التحقيق، أرعد و أزبد، نادى بأعلى صوته:

  • إئتوه بصاحبيه..!

ليرفع محمد يحيى رأسه المهشم، و يتفحصهما بوجهه الدامي، و قد عمَّ الشلل أطرافه، يخترم الضعف جسده، و يعصف به الدوار.

  • أتعرف هذين الرجلين ؟
  • أجل، فهما من رجال دشرتي.

لم يكونا بأحسن حال منه، لما لقياه من ضرب بالسياط و الحديد، و استعمال الكهرباء الراجفة، و الغرغرة بالصابون و استفزاز الكلاب المدربة، لم يصمدا فاعترفا أمام وحشية العذاب، حد النظر فيهما، شتمهما، و أنكر كل ما أدليا به..!

و يُرَد محمد يحيى إلى التعذيب و الاستنطاق ثانية، و تتفنن الوحوش البشرية في وسائل التعذيب، من كهرباء حارقة بالأعضاء الحساسة إلى نتف الشعر، و كشف العورة و التندر بالإنسان الجزائري، هي شراهة إرث محاكم التفتيش عليها ختم الصليبية الحاقدة.

حتى إذا كانت الساعة الثانية صباحا، ألقي بالزنزانة وحيدا منعزلا، مهشم الأعضاء، مكدود القوى، يهذي ببعض الكلمات، ليدخل في غيبوبة لم يستفق منها حتى وقت الضحى.

 *         *         *

أُعلِنَت حالةُ الطوارئ بالثانوية الفرنسية، و بدأت سيارات الإسعاف بنقل المرضى من الطلاب إلى مستشفى "مصطفى باشا"، أذيع الخبر بإذاعة الجزائر و تناقلته الصحافة، أصيب الأولياء بالهلع و الرعب، لما قد يلحق أبناءهم من أذى.

فما الذي جرى؟ تمكنت اليد الحمراء[7]، التي ما فتئت تراقب الثانوية و تترصد طلابها، من تسميم وجبة الغداء، و ذلك في شهر مارس 1956م، فقد لاحظت علو الروح الوطنية لدى الطلاب، و اهتمامهم المتزايد بحديث الثورة و الثوار، لا سيما و أن أحد كبار رجال المقاومة الوطنية، هو من طلاب الثانوية و قد أودع السجن، و هو الشهيد عمارة رشيد، فتكونت خلية لفرع الاتحاد العام للطلبة المسلمين الجزائريين، و تم انخراط الطلاب فيها.

بعد ليلتين قضاهما في المستشفى، تولته الألطاف الإلهية، و خرج محمد يحيى ليجد والده بالانتظار، فيحمد الله على سلامته، و قد أسَرَّ لابنه خبرا مفرحا، ألا و هو وصول أفواج من المجاهدين إلى مدينة بوسعادة، و استقباله لهم مؤكدا عليه بلزوم اليقظة و الحذر.

كان الطريق الرابط بين بوسعادة و الجزائر العاصمة، مليئا بالحواجز العسكرية الفرنسية و نقط التفتيش، فالجبال صارت قلاعا للمجاهدين، و معسكرات متنقلة يدعمها المدنيون؛ مسبلين و فدائيين و عيون و ممولين، و قد صدقت مقولة الشهيد البطل "العربي بن لمهيدي": ارموا بالثورة للشارع يحتضنها الشعب.

   *         *         *

ضابط الفرقة الإدارية المختصة يستشيط غضبا، يهدد و يتوعد، من يا ترى..؟

هؤلاء المتظاهرين المستفزين، الذين جاؤوا يطالبون بإطلاق سراح إمامهم، بحجة أنه الوحيد لديهم.

  • إي و الله، لقد أثقل ملفك يا مثقف الدشرة القبلية الآن!

و يستفيق محمد يحيى بزنزانته الانفرادية، ليجد نفسه مُضمَّخا بالدماء، ما في جسده موضع للسلامة، تجددت الآلام، و نكئت الجراح، عاد إليه الوعي شيئا فشيئا، و لبث يستعيد مشاهد الليلة الفارطة، و حدثته النفس قائلة: أتبوح لهم بكل شيء؟

و يعتصر قلبَه الألمُ، و هو يرى الجموع من إخوانه و أبناء دشرته، و قد جيء بهم و شرع في التنكيل بهم، يرمقونه بعيونهم متحسرين، و من الذي اعترف عليهم و رمى بهم في السجون؟

 إنه إمام الدشرة القبلية، أو يعقل هذا..!

 *         *         *

أصحيح ما يشاع؟ هي الفاجعة إذن قد حلت بالأمة إذ رزئت في أحد علمائها و رجالاتها العظام، وقع الخبر كالصاعقة مزلزلا طلاب الثانوية الفرنسية، إنه الموت المفاجئ للشيخ أحمد بن زكري مدير الثانوية و المفتش العام لهيئة التدريس بالعربية، و رئيس لجان امتحانات التوظيف في أسلاك المدرسين و الأئمة و قضاة الأحوال الشخصية.

الشيخ بن زكري من أشراف القبائل[8]، عرف بالعلم و الهيبة و الوقار، و بروحه الوطنية العالية و تفانيه في العمل، مع الحنكة في التسيير، يحترمه الكل و يهابه الصغير و الكبير، حامت الشكوك مرة أخرى باليد الحمراء، لأن الشيخ كان قد اطلع على الجهة التي قامت بتسميم الطلبة، فأنهيت حياته هكذا، و نتيجة لذلك سادت الروح الوطنية، و ارتفعت معنويات الطلاب، و كلهم جزائريون مسلمون.

و يا للنغمة الأخاذة! و يا للصَّوت الشجي!

فـلـسنـا بطيـر مَهيـضِ الجنـاح... و لـن نُـستـذلَّ و لـن نـُستبـاح

و في صبيحة 19 ماي 1956م أعلَن الإضرابُ العامُّ لاتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين، ليترك الطلاب - و عبر تراب الوكن كله – مقاعد الدراسة استجابة لنداء جبهة التحرير، و كم كان الخبر صادما و مفزعا للأساتذة الفرنسيين على الخصوص.

و هكذا اختار طلاب الجزائر الأحرار، الفوز بإحدى الحسنيين، فنال الكثيرون منهم الشهادة في ميادين الشرف، و عاش آخرون ليروا بشائر النصر و أعلام الحرية:

  إني لمن قوم

 إذا ما صودرت راياتهم ظنوا الحياة حراما..!

صبح تنفس في العروق.. يقول لي:

"نحيا كراما.. أو نموت كراما"..!

 *         *         *

و يشتد به الصداع، و تستولي عليه ذكريات و خبايا هو في غنى عنها..!

أتذكر يا محمد يحيى انخراطك في اتحاد الطلبة المسلمين الجزائريين و إضرابك في 19/05/1956م؟

أتذكر فرقة جيش التحرير التي استقبلها المرحوم والدك الشيخ الربيع سنة 1956م؟  ; ماذا عمن تجند من المجاهدين انطلاقا من بيتكم؟ و هل نسيت لقاءك بالمجاهدين؟ و أنك كنت كاتب المناشير و الخطب و الرسائل فيما بينهم، كما أنك قد عملت في مكتب شؤون الأمة خلفا لأبيك، الذي سجن و عذب و مات و هو ملاحق من طرف جنود الاحتلال، لتعاونه وصلته الوثيقة بالمجاهدين!

و يقطع محمد يحيى على نفسه الشك باليقين مرددا:

سـأعـيـش رغـم الـداء والأعـداء... كالـنسـر فـوق الـقـمـم الـشـمـاء

و أي قمم أشم و أعلى من أن تموت موزع الأشلاء فداء لوطنك، و في سبيل عزه و فخاره..!

ثلاثة عشر يوما من التعذيب و الاستنطاق ليلا، و الإعراء و الجوع نهارا، تضاربت على إثرها اعترافات صاحبيه في السجن، حَوْل عمله و علاقته بالمجاهدين، لينقل بعد شهر من العزلة و السجن الانفرادي، إلى مركز التصنيف و العبور، فيلقى أخاه و ابن عمته، و يا لها من نعمة عظيمة، رأى من خلالها النور، و صار يخاطب الناس!

 *         *         *

و يطول الليل على المساجين، في غرف كأنها بقع من جهنم، مبنية بالطوب، سُقُفها من حديد، شتاؤها زمهرير، و صيفها حر و لظى، يفترشون فيها التبن و الحلفاء، و يلتحفون أغطية بالية لا تقيهم حتى لسع الحشرات، ينتظرون إما المحاكمة و التي هي في الغالب؛ سجنا قاسيا طويل الأمد، أو الأشغال الشاقة، أو الإعدام، و ربما التحويل إلى المحتشدات المنتشرة عبر الوطن، أما الإفراج فذاك حلم بعيد المنال.

السجناء لا يقصرون في صلاة الجماعة، و تلاوة الحزب الراتب بعد إغلاق غرف النوم الجماعية عليهم، و هو عبارة عن تلاوة جماعية لحزبين من القرآن الكريم يختم بالدعاء، و قد يلقي الإمام محمد يحيى درسا وعظيا لتثبيت القلوب، كما يحلو للبعض أحيانا السمر بقصائد من الشعر الملحون، أو الغناء الوجداني تسلية للنفوس و ترويحا عنها.

 *         *         *

محمد يحيى مكلف بتنظيف مكاتب الضباط، لذلك رَتَّبَ للاطلاع على ملفه الخاص، الموجود داخل الخزانة الحديدية، التي يغفل عن غلقها أحيانا.

«خلاصة التحقيق: عضو نشيط في المنظمة السياسية والإدارية، خطير مكلف بالكتابة و ترصد الأخبار عن طريق مراقبة تحركات جنودنا و أعواننا، مستعملا لياقته و ذكاءه، انظر التفاصيل المرفقة.

الاقتراح: نقله إلى أحد محتشدات الردع و التقويم.»[9]

مع ملاحظة عدم إطلاق سراحه، و في حال التخفيف عنه، يجب إشعار السلطات العسكرية المحلية، لتتحرز و تحتاط لذلك.

رَدَّ محمد يحيى الملف إلى مكانه بسرعة، و كانت يده مغلفة بقماش، راعه ما قرأ من سطور، و قل رجاؤه و أمله في الخروج، لكنه تعزى بحال إخوان له، هم في الجبال صامدون، يقاومون البرد و الجوع، و الخوف و المرض، و تذكر غيرهم ممن بترت أعضاؤه و ممن رزئ في الأهل و الولد، استغفر الله و ردد في يقين:

اشتــدي أزمــة تـنـفــرجــي... قــد آذن لـيــلـُك بـالـبــلــج

*         *         *

و في صبيحة 06 مارس 1961م نودي على محمد يحيى بمكتب قيادة السجن، قصد ترحيله إلى محتشد مارشال (تادمايت) بتيزي وزو، ليركب شاحنة عسكرية فجر 07 مارس 1961م رفقة أربعة من رجال الدرك.

و بمكتب الدخول إلى المحتشد صودر منه مصحف الوالد و كتاب قصص الأنبياء اللذين كان يحملهما داخل حقيبته، راعه أن المحتشد عبارة عن مدينة، يفوق عدد المساجين به السبع مئة سجينا، تسيطر عليه اليد الحمراء، فالأشغال به شاقة، و ضباطه ماكرون، و الإفراج فيه نادر الوقوع، القبضة حديدية، كما أن تحية العلم الفرنسي واجبة كل صباح مع رفع الصوت بـ:

"تحيا فرنسا و الجزائر فرنسية"

  *         *         *

انتبه محمد يحيى إلى نشاز الجملة الأخيرة "الجزائر فرنسية" ليتساءل: أ هذيان مخمور..!؟ أم تراها مزحة من  مزح ذاك الأوروبي القادم إلينا من وراء البحار..!؟ يا لها من مزحة مقرفة سمجة..!

لكن، أهكذا حقا يمزحون..!

قهقه محمد يحيى و الدموع في عينيه، و استحضر فيالق جند الأمير عبد القادر و أحمد باي و مقاومة الزواوة، و أحمد بن سالم و بومعزة و الزعاطشة و لالة فاطمة نسومر و الشريف بوبغلة، و أولاد سيدي الشيخ و الشيخ المقراني و بوعمامة و التوارق..! و أعداد أخرى أحصاها الله و نساها البشر، كلها سخرت من هذه المزحة البغيضة الفاجرة.

لم يستفق إلا و صرخة ابن باديس تنطلق مُدَويَّةً فتزلزل وجدانه.. فتأثر و بكى..! أجل بكى بحرارة و قد أحنى رأسه بين يديه:

شـعـب الـجـزائـر مسـلـم... و إلـى العـروبـة يـنتـســب

 مـن قـال حـاد عـن أصـلـه... أو قـال مـات فـقـد كـذب

 أو رام إدمـــاجـــا لــــه... رام المـحـال مـن الـطـلـب

*         *         *

«ها هي فرنسا الحنون تتنازل عن حقها لتعلن لكم حريتكم..» بهذه الكلمات افتتح الرائد الفرنسي خطابه، كان الحقد المغلف بالغرور طافحا على محياه، ليضيف: «و أملنا أن لا تسول لكم أنفسكم مرة أخرى للعمل مع الخارجين عن القانون»[10] محاولا تجاهل أن فرنسا في هذه الأثناء كانت قد اعترفت ضمنيا بالحكومة المؤقتة الجزائرية، مما يعني أن الاستدمار يلفظ آخر أنفاسه، و أن الذي قدم من وراء البحار، يلملم انكساراته تأهبا للعودة من حيث أتى!

كان محمد يحيى واحدا ممن شملهم قرار تخفيض العقوبة هذا، و ها هو يعود إلى بلدته -في ترقب و حذر فالاستدمار البغيض لا يزال جاثما على الصدور- ليلق أهله و أبناء دشرته.

لكنه لم يلبث أن طُرِق بابُه من جديد، مَن يا ترى..؟

إنهم رجال الدرك يلزمونه بالإقامة الجبرية.

و ما هي إلا أيام قلائل، و يعلَن توقيفُ القتال، و كان ذلك ليلة 19 مارس 1962م، لتستنشق الجزائر ريح الحرية، و تزغرد أمُّ الشهيد، و تشرق شمسُ الفرح على الأمة العربية و الإسلامية في أحلك أيامها، فتستعيد ابتسامتها، و ينبعث فيها الأمل من جديد.

*         *         *

و في صبيحة أحد أيام "أول نوفمبر" تدق صبية في عمر الزهور، بابَ أحد البيوت، لتنادي على صويحبة لها، كانت قد ارتدت أجمل حلة لديها، و لبست حذاءها البني، و اتجهتا مسرعتين إلى دار القسمة، فأفراح نوفمبر مقامة هناك.

رقصت ذاتُ الحذاء البني، و رقصت صويحباتُها، كما رقص اليراعُ في يد محمد يحيى على صفحات القرطاس، حين أُلْهِمَ الذكرى، مدونا صفحاتٍ من نور[11]، تشع بضيائها.

(*) أم وفاء خناثة قوادري: أستاذة تعليم ثانوي، ليسانس آداب إسلامية و دراسات قرآنية، كاتبة في الأدب الإسلامي 

هوامش

[1] الفلاقة هم مجاهدو ثورة التحرير 

[2] عبارة تطلق على اللجان المدنية التي تنشط في هياكل القسمات (وقفات من تارخ بوسعادة ص:168)   

[3] بمعنى أجب عن كل سؤال يوجه إليك بالميم النافية: ما رأيت، ما سمعت.. وهكذا 

[4] و تحت ضغط المعمرين الفرنسيين حذفت (فرنسية إسلامية) و حولت إلى ثانوية فقط (وقفات من تارخ بوسعادة ص:95)(و ابن عكنون:هو أحد أحياء العاصمة الجزائر) 

[5] نسبة إلى مدينة الهامل/بوسعادة و التي بها الزاوية القاسمية الشهيرة. 

[6] هكذا يسمي الجزائريون "الجزائر" و يقولون "دزيري" أي جزائري و للمؤرخ أبو القاسم سعد الله كلام في الموضوع انظر كتابه: (أبحاث و آراء  في تاريخ الجزائر)  

[7] منظمة سرية للغلاة المستعمرين و التي سميت بالأرجل السوداء أو المنظمة السرية (وقفات من تارخ بوسعادة ص: 183)

[8] القبائل هم فئة من أهلنا الأمازيغ يسمون أيضا الزواوة.. 

[9] وقفات من تارخ بوسعادة ص: 181 

[10] وقفات من تارخ بوسعادة ص:193

[11] للأستاذ الكريم محمد يحيى حرزلي و القصة مستوحاة منه كما سبق و ذكر  تقصد الكاتبة: (وقفات من تاريخ بوسعادة، و ذكرى وراء القضبان)

قراءة 2518 مرات آخر تعديل على الجمعة, 03 تشرين2/نوفمبر 2017 06:47

أضف تعليق


كود امني
تحديث