التفتت إلى والدتها المُتفجِّعة عليها، و قد غادرت البيت مساءً رفقةَ شابَّين منحرفين، و قالت لها :
• انصرفي عني، قلتُ لك أكثر من مرة : خارج حدود باب الدار، لا أنا ابنتك و لا أنت أمي، خارج حدود باب الدار، لا أعرفك و لا تعرفينني!
هكذا كانت تتردَّى أمام أعين الجميع، و قد أحجم الكلُّ عن انتشالها من حَمْأَةِ الوسط العفِنِ الذي غرِقت فيه؛ فالكلُّ خائف على عِرضه و نفسه من شِلَّة المنحرفين.
رجَّني ذات يوم حزين أنْ قالت لي:
• إي و الله، أعرف أن هذا الطريق نهايته إما السَّجن، أو الجنون.
• • •
وقفتْ إلى المكتب بجانبي، ألحَّتْ أن تُحضِرَ حقيبتَها معها، مما يعطي علامةَ تعجُّب ظاهرة؛ إذ إنها متَّهمة ببيع "الممنوعات" لزملائها من صغار الطلاب.
طمأنتُها إلى أن حِواري معها جاء من باب الرحمة، لا الفُضُول أو التجسس - كما قد يبدو لها - و أن كل كلمة تلفِظها سوف تُردم في هذا المكان.
قالت: "لا و الله ما فَرَرْتُ من البيت، و قد كنت ذهبت عند جَدَّتي، و بقيت هناك - و قد تأكد لي فيما بعد أنها تكذب - و لمَّا خافت أمي عليَّ، اتصلت بالشرطة التي حضرت إلى المؤسسة، و من ثم أُشيع الخبرُ بين زملائي.
والدتي كثيرة التَّشكِّي مني، و قد أمرتني أن أعدِل عن مرافقة شابٍّ أحبَّني، و هو راغب حقًّا في الزواج بي، إنه يحبني و لا يرضى بغيري بديلًا".
راحت تدافع عن فتاها، و تتهجم على المُراقِب، الذي حاول انتشالها من رِفاق السوء.
قلت: "كم عمرك؟ و ماذا يعمل هذا الفتى؟".
و لك - قارئي الكريم - أن تتساءل : أيُعقل أن يبنيَ ولد و بنت في المرحلة الثانوية بيتًا، و يتحمَّلا مسؤولية التربية و الإنجاب؟ مع العلم أن فاقد الشيء لا يعطيه.
شعَرتْ أنها تقول كلامًا أكبر منها بجُرأةٍ و حَذْلقةِ لسان؛ فعمرها لا يتجاوز الخامسة عشرة.
بَدَتْ كمن تريد أن تُريَني أنها تفهم و تعرِف كلَّ شيء، و لم تنتبه إلى أن محدِّثتَها تكبُرها بضِعفي سنِّها، و أنها تقرأ ما بين الأسطر، و تُجيد قنصَ فلتات اللسان، و ما ذاك لشطارة و لا لذكاء؛ بل هو راجع لعامل السنِّ و التجرِبة.
• • •
أدرتُ الكلام معها عن والدتها، التي قالت بأنها عاملة نظافة بإحدى المؤسسات الحكومية، ثم بَدَا عليها التأثر فجأة، و انهارت باكية:
"أيُرضيك - سيدتي - أن تَريْ أمَّك تكُدُّ و تشقى، تعمل طيلة النهار، تنفُض الغبار عن المكاتب و النوافذ، تنظِّف الأرضية و تلمِّعها، ليأتيَ صُعلوكٌ من هناك، و يرميَ بفضلة دخينته على هذه الأرضية، ثم يسحقها برِجله غير مبالٍ، لتُسارعَ هي لانتشالها من المكان و تلميعه؛ مخافةَ توبيخ المسؤولين لها؟".
اغرورقت عيناها، و أجهشت بالبكاء...
قلت: "تُكنِّين لها كلَّ هذا القدر من المحبة، و تُحرجينها أمام الناس كل يوم؟ احرصي على رضاها، و استوصي بها خيرًا".
أنهيتُ معها الحوار....
و ختمتْ سنتَها الدراسية بعراكٍ مع أستاذة المادة الرئيسية، شتمت الأستاذةَ على الملأ أمام التلاميذ، و كان ذلك كفيلًا لإعادتها السنة مع رفقائها من الراسبين.
• • •
كان ذلك منذ سنتين، و نحن الآن في نهاية عامها الدراسي للثانية ثانوي، بدت أكثر نشاطًا طيلة العام، و لم تتسبب في أية مشاكل، باستثناء الشبهة إياها، التي ظلت تلاحقها...!
أثناء الحِصَّة الحِوارية، كانت تقاطعني بين الحين و الآخر، و لم تمنعْها جِديَّتي من غُنْجٍ و دَلالٍ تُبديهما للزميلين خلفها، فكلَّما قاطعتني، التفتتْ نحوهما لتضحكَ ببلاهة محفوفة بزَهْوٍ غريب.
• آهٍ لو تعلمين قصتي، إنها تُدمي القلوب، لعلك ترينني صغيرة ؟ بلى أنا كذلك، لكن تجارِبي القاسية في الحياة، جعلت مني عجوزًا في السبعين.
يا لي من مسكينة يتيمة ! و من عساه يلتفت بعين الرحمة إلى يتيمة مثلي ؟
اقترحتْ عليَّ أن تكتب لي، و بالفعل أودعتْني همومَها في رسالة مُطوَّلة، ضمَّنتْها شِكايتها من اليُتْمِ، و فقدان الدفء العائلي.
• • •
و بعدُ - قارئي الكريم - أتُرانا نُلام في محبَّتنا لهؤلاء المشرَّدين الغارقين في الأوحال؟!
اللهم لا، فما ذاك إلا تعبير راقٍ عن مشاعر الرأفة و الإحسان.
أوَ لسْنا في كثير من الأحيان نحب الشخص و نكره أفعاله؟ بلى.
فهذه اليتيمة كنتُ أرى فيها بذرةَ خير، فأشفقت عليها، و انبثق عن رحمتي بها حبٌّ جارف؛ لكنها كانت كفرس جَمُوح، في كَرٍّ و فَرٍّ، تُقبِل أحيانًا على النصيحة، فتدفعني إلى مجالستها و الاستماع لمرارة معاناتها، و تُدبِر أخرى فلا تُرى إلا ضاحكة مستهترة بالقيم و الأخلاق.
و اأسفي عليها ! فالإعصار المارِق كان أقوى مني و من الأحداث.
• • •
ما الجديد؟ اجتماع طارئ، و أنا واحدة من المدعوِّين.
الأستاذة ترفض التنازل عن حقها في تقديم إحدى طالبات القسم النهائي إلى المجلس التأديبي، الذي سيؤول - حسب طبيعة الموقف - إلى طرد الطالبة و فصلها نهائيًّا عن المؤسسة.
طال الجدل و احتدَّ النقاش حول سلوك هذه البنت، التي بلغ انحرافها حدًّا لا تُحمد عُقباه؛ فالبعض رأى بعينه، و البعض الآخر حدثتْه هي بما آل إليه حالها راجيةً العطفَ و المساندة.
لم تكن صدمتي كبيرةً فيها، فقد كنت أتوقع السوء؛ لكنني لم أكن أدري بأنها عديمةُ النسب، و لا تحمل اسمًا عائليًّا.
• • •
في يوم قائظٍ من أيام مدينة (الجلفة) ذات المناخ القاري، كنتُ برفقة عائلتي في السيارة، و كان المكان خاويًا خاليًا من المارَّة، لمحتُ شبحَ فتاة تتسكَّع وحدها، مفاتنُها صارخة بالشُّبُهات، و قد تعلَّقت بتلابيب فتنتِها ظنونُ السوء.
اقتربت قليلًا فعرفتُها، أطللْتُ برأسي و ناديتها، فأقبلتْ مسرعة و قبَّلتني قائلة:
• أمَا زلت تحبينني؟
قلت: "أجل، و أحبُّ لك التستُّر و العفاف".
ضحِكت المسكينة، سألتها عن أحوالها.
دسسْتُ بعض الكلمات في أذنيها، راجية من الله أن توقظ فيها بعضَ ضمير، أو تحييَ بعض شرف مات في بُرعُمة يتيمة، تتقاذفها السِّككُ، و تتجرَّع في غضاضة سمومَ الضحكات.
Comments
RSS feed for comments to this post