(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الأحد, 17 كانون1/ديسمبر 2017 13:52

الكِفاح المستمرّ

كتبه  الدكتور عبد الكريم بكار
قيم الموضوع
(1 تصويت)

خلق الله تعالى الدنيا داراً للابتلاء، فوفّر فيها كل شروط : الأغنياء و الفقراء، و الأذكياء و البلهاء، و الشرفاء و الوضعاء، و الأقوياء و الضعفاء.. كل واحد من هؤلاء مقيم في وضعيّة اختبار بما آتاه الله من مكنة و بما سلبه من نعمة.

إن على كل واحد منا أن يعمل أفضل ما يمكن عمله في إطار وضعيّته العامة و الإمكانات و الأدوات التي بين يديه. كما أن عليه أن يتمتع بروح الممانعة و التأبّي على كل ما يصرفه عن وجهته و هدفه. ليس في هذه الدنيا منطقة آمنة نلقي فيها مراسينا، و نركن إلى ما بلغناه من تقوى و ورع و تماسك خلقيّ و نفسيّ، إننا جميعاً واقفون على أرض متأرجحة و في منطقة تجاذب بين الصحيح و الخاطئ و الخيِّر و الشرير. و إن أيّ تراخٍ أو ترهل في الحاسة الأخلاقيّة يمكن أن يقذف بأحدنا في محيط الضياع أو الانحراف. إن كل ساعة تمرّ علينا تشكل تحدّياً جديداً. علينا أن نواجهه و من أجل مواجهته، فإننا نحتاج من الله -جل و علا- أمرين: الهداية و المعونة.

و إن سورة الفاتحة التي يُطلب من المسلم أن يقرأها في كل ركعة تشتمل على المعنيين:(إياك نعبد و إياك نستعين)، (اهدنا الصراط المستقيم)، و لم يلمح هذا المعنى المفسرون الذين قالوا المعنى: ثبّتنا على الصراط المستقيم. إن الاستقامة على أمر الله تحتاج إلى نوع من الكفاح المستمر و المجاهدة الدائمة، و لا سيما أننا نعيش في ظروف صعبة و حرجة؛ إذ المغريات الكثيرة بالميل ذات اليمين و ذات الشمال. إن المجتمعات الإسلامية باتت متخمة بأولئك الذين يقدمون نماذج سيئة للأجيال الجديدة ، و الأكثر إثارة للأسى أن ما يمكن فعله اليوم من أمور منكرة و شرّيرة دون التعرّض للعقوبة آخذ في التنوّع و الاتّساع، و كثرت المعاذير المختلفة: كل الناس يفعلون هذا.. نحن مضطرون لأن نعطي ضمائرنا إجازة بسبب الضغوط.. لو كان هذا العمل سيئاً ما فعله فلان، أو لما سكت عليه فلان، أو ما سمحت به الحكومة..!!

هناك إلى جانب هذا فيض من الرسائل التي تتدفق من كل اتجاه. و مضمون تلك الرسائل واحد، و هو أننا نستحق أكثر مما نلنا، و أن هناك وسائل سريعة للحصول على ما نريد. و ليس من حقك أن تبحث عن مشروعيّة تلك الوسائل، فالبحث فيها صار قيداً على الانطلاقة الكبرى التي على كل واحد منا أن ينهض لها!

واضح جداً أن ضمائرنا تتعرض لترويض عنيف كي تخفّف من حساسيتها تجاه الطرق غير المشروعة للنجاح و الثراء.

إن الله تعالى أمر نبيه صلى الله عليه و سلم بلزوم الاستقامة حين قال جل و علا 

فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَ مَنْ تَابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود:118]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-:”ما نزل على رسول الله آية هي أشد و لا أشق من هذه الآية”، و لذلك قال لأصحابه حين قالوا له: أسرع إليك الشيب:”شيّبتني هود و أخواتها”.
و هذا منه –صلى الله عليه و سلم- شعور و إعلام بجوهريّة الاستقامة في حياة المسلم، و كونها أساس الأصالة في الشخصيّة الإسلاميّة.
و قد أثبتت الخبرات العالمية المتراكمة أن الاستقامة هي الشيء الأفضل في العمل، و في العلاقات الاجتماعيّة، و في العلاقات الدوليّة، و الشيء الأفضل في ضبط المجتمع و السيطرة على الجريمة… و لم لا تكون كذلك و هي في معناها العميق تعني ملازمة الحق و الاعتراف به و البناء عليه. هناك أشخاص لا يُحصَوْن عدداً يملكون الكثير من مقوّمات التقدم و النجاح و التفوق، لكن منعهم الانحراف و الالتواء من التواصل مع أعماقهم، في عمق الإنسان المسلم طيبة و سكينة و تحفّز نحو الخير، لكن عدم الاستقامة لدى كثيرين منا يحول دون الاستفادة من ذلك و توظيفه في الحصول على تقدم شخصي و اجتماعي واضح، إن المعاصي حين تصبح جزءاً من السلوك اليومي للمرء تشكّل اتجاهه العام على نحو يحول بينه و بين تقديره لذاته و ثقته بنفسه. كما أنه يفقد المصداقية أو كثيراً منها في نظر الآخرين، و هذه الأمور كافية لإطفاء جذوة التألّق الروحي و الاجتماعي في آن واحد.
إن الاستقامة في دلالتها على أصالة الذات، شيء لا يقبل التجزئة؛ إذ لا يُقبل من المرء أن يكون مستقيماً إلا قليلاً أو أن يكون صادقاً في معظم الأحيان، أو أن يكون عفيفاً أمام المال القليل دون المال الكثير.. إن الاستقامة – بوصفها الطابع العام للشخصية – شيء شديد الحساسية؛ فهي إما أن تكون و إما ألاّ تكون، و جهادنا اليومي ينبغي أن يصب على صيانتها أولاً و على تعميقها ثانياً.
و لا أجد حرجاً في القول: إننا حتى نكون مستقيمين فعلاً نحتاج إلى أن نكون أكثر تأملاً و أكثر نشاطاً و أكثر تضحية مما نحن على استعداد لتقديمه اليوم.
و هذا يعني أن التقدّم على طريق الاستقامة يتطلب نوعاً من التطوير الشامل للذات. و هذا التطوير حتى يصبح حقيقة يحتاج إلى العزيمة، و الإصرار على السير في طريق التغيير. إن السلوك الممتاز يتشكل من مجموعة غير كبيرة من العادات الممتازة. و إن المرء إذا عقد العزم على أن يتخلى في كل سنة عن عادة أو عادتين من عاداته السيئة. و إذا فعل ذلك فإنه لن يمضي عليه أكثر من خمس سنوات حتى يجد نفسه و قد تحوّل من زمرة الأشخاص العاديين إلى فئة الأشخاص الجيدين أو الممتازين.
و إني لآمل أن ننظر إلى ضعف الاستقامة على أنه يشكل التربة التي تنبت فيها جذور معظم مشكلاتنا النفسيّة و الاجتماعيّة. و إذا تأمّلنا في الكثير من الصعاب التي نواجهها في الحياة لوجدنا أنها تعود إلى الأخطاء الشخصية المتكررة؛ إذ إن الانحراف سيلحق الأذى بصاحبه في نهاية المطاف بصورة من الصور. إنه طريق يؤدي إلى ممرٍّ خلفي ضيق و مظلم، و ذلك الممرّ سيفضي في النهاية إلى ممرٍّ مسدود، و لكن قد نحتاج إلى وقت أطول حتى ندرك ذلك.
بالاستقامة نحرّر أنفسنا من هيمنة الرغبات غير المشروعة، و نحرّر إرادتنا من ربقة العبودية و من أوهام التفوق المكذوب. بالاستقامة نتخلّص من القلق و الاضطراب الداخلي، و نحصل على الانسجام الذاتي من خلال اطمئناننا و اعتقادنا بأننا نفعل ما ينبغي علينا أن نفعله.
إن الاستقامة توفّر لصاحبها قدراً هائلاً من الشعور بالسعادة و القوة، و إن النظام اللغوي سيظلّ قاصراً عن التعبير عن ذلك.
في عالم كثير التغيّر و التحوّل يكون احتفاظنا بجوهر يستعصي على التغيير شيئاً يعادل بقاء نجم في مداره و قلباً على نظام حركته.
هل يكون ما خططناه صرخة في واد أو نقطة تحوّل من حقل الأشواك إلى حقول الورود؟
ليس عندي جواب، الجواب عند القارئ.

الرابط :http://www.drbakkar.com/2017/11/26/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%90%D9%81%D8%A7%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%85%D8%B1%D9%91/

قراءة 1473 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 26 كانون1/ديسمبر 2017 05:24