يقول العلامة المفتي محمد شفيع العثماني رحمه الله في تفسيره:
و قد يتساءل البعض: نحن ننتسب إلى الإسلام و ننطق الشهادتين، أمّا الكفار فهم يحادون الله و رسوله، و لا يحبّون اسم الإسلام و لا رسم القرآن، ثم نراهم يتقدمون في جميع مجالات الحياة، و لهم حكومات كبيرة، و أنّهم يملكون ثروات و تجارات و صناعات. فلو أننا نجازي بالحرمان بما نعمل، فهم أولى بالمجازاة و الحرمان!؟
لكن عندما نتدبر قليلاً، تندفع هذه الشبهة؛ فلنعلم أولاً أن هناك فرقاً بين معاملة الصديق و العدو؛ إنّ الصديق يعاتب على كل كلمة أو خطوة غير صحيحة، و هكذا الأولاد و التلاميذ، لكن العدو لا يعامل كذلك، بل يمهل ثم يؤاخذ جملة.
إنّ المسلمين ما داموا يقرّون بالإيمان و الإسلام و يظنون أنّهم يحبون الله، فهم في قائمة الأحباء، فيعاقبون بسوء أعمالهم في الدنيا ليخفف عقابهم في الآخرة، بخلاف الكفرة لأنّهم يمهلون ثم يؤاخذون دفعة واحدة، و العذاب الخفيف في الدنيا لا يخفف عنهم العذاب في الآخرة.
قال النبي صلى الله عليه و سلّم: «إنّ الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر» رواه مسلم.
أمّا ما يقال بالنسبة لتأخّر المسلمين و تقدم الكفار و رفاهيتهم، فالجواب عنه أنّ الله سبحانه و تعالى جعل لكل عمل خاصية، و لكل نشاط فائدة تخصّه، فمثلا خاصية التجارة، الزيادة في الأموال، و خاصية الدواء، الصّحة في الجسم. فالذي مرض و لم يهتم بالتداوي بل اشتغل بالتجارة، لا تتحسّن صحته مهما اتجر و ربح. و كذلك التاجر إذا اشتغل بالتداوي لمرضه تتحسن حاله، و لكن لا يكثر ماله و لا تتسع تجارته. فما نراه اليوم من تقدم الكفار و كثرة الأموال لديهم و نجاحهم في الأمور الاقتصادية، لا يعود إلى ديانتهم و كفرهم، كما أنّ سبب الإفلاس و الفقر و التدهور لدى المسلمين لا يعود إلى إسلامهم.
إنّ الكفار لمّا غفلوا عن الآخرة و الاستعداد لها و صرفوا همّهم و فكرهم إلى جمع الأموال وا لحصول على الرفاهية، و اجتهدوا في تنظيم الحياة الدنيوية، و اجتنبوا ما يسبب الخسران، حصلوا على التقدم و الرقي و الرفاه، و لو أنّهم اكتفوا من الدين باسمه، و قعدوا عن الجهد في مجالات الحياة، و لم يدونوا أصول حياتهم، و أهملوا التنظيم، لما تقدموا و لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه الآن. إذن ليس سبب تأخّرنا الإسلام، و إنّما سبب تأخرنا و انحطاطنا في الأمور الدنيوية هو إهمالنا التنظيم و التخطيط في الأمور، و لا ريب أنّ العمل بالدين و تطبيق أصوله في الحياة يوجب النجاة و النعيم في الآخرة، و يسبب دخول الجنة، و الاهتمام بأمور الحياة و الكفاح في سبيلها، يسبب رفاهية العيش و الرقي في الحضارة و الحصول على الإمكانيات المادية، و لكل جهد نتيجة و لكل كفاح ثمرته. و أثبتت التجارب أنّ المسلمين كلّما تعلموا أصول التجارة و الصناعة و السياسة و طبقوها على الحياة، وصلوا إلى ما وصل إليه الآخرون بل فاقوهم؛ إذن ثبت أنّه ليس سبب بؤسنا و شقائنا و مشكلاتنا هو الإسلام، بل سبب ذلك كله عدم الاهتمام بالديانة و التقوى، و ترك الخلق الإسلامي و عدم الكفاح في تنظيم الأمور و سوء التخطيط و إهمال أصول التقدم و النجاح.
و مما يؤسف أنّ المسلمين لما خالطوا الأوروبيين تعلموا منهم الغفلة و الإهمال في الدين و المجون و المنكر و الفحشاء، و لم يتعلّموا منهم ما يسبب نجاحهم و تقدمهم في شؤون الدنيا، و لم يأخذوا منهم الثبات و المثابرة، و الصدق في التجارة، و التنظيم، و طرق التحقيق، و العمل الجادّ للحصول على النتائج الكبيرة، و لا شك أنّ ما يمارسه الأوروبيون من خير، أوصانا الإسلام به، و لكننا لم نطبق الإسلام في حياتنا، و لم نحاك أعداءنا فيما لا يخالف ديننا و ينفعنا في دنيانا.
(منقول من ترجمة معارف القرآن)