(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الأحد, 26 حزيران/يونيو 2022 11:35

الرحلة التاريخية للدراسات المستقبلية

كتبه  الدكتور وليد عبد الحي
قيم الموضوع
(0 أصوات)

ظاهرة الفضول الإنساني لمعرفة الغد أمر مألوف، و كما قال آينشتاين عندما سئل عن سر اهتمامه بالمستقبل قال: ” لأني ذاهب الى هناك”. و قد عرف العالم أشكالا من محاولات الإطلال على الغد و معرفته، لكن مراحل هذه العلم كانت بداية ذات طبيعة ميتافيزيقية أو اسطورية ثم تحولت إلى مرحلة التخطيط المستقبلي أو التخطيط الاستراتيجي ثم أصبح علم الدراسات المستقبلية علما قائما بذاته. و تعود محاولات العقل البشري لكشف ما وراء الحاضر”أو الآتي بعد الحال” إلى عصور قديمة جدا، و ثمة مشكلة في هذه الناحية هي كيفية الفصل بين التنبؤ المجتمعي و بين التنبؤ الديني أو الكهنوتي و تحديد ” منهجية التنبؤ ” في كل منهما، و لتوضيح هذه النقطة مثلا لناخذ التنبؤ بانتصار الروم في بضع سنين الواردة في القرآن، هي نبوءة لكن كيف تم الوصول لها؟

هنا أمر ديني يخرج عن “العلم البشري” و من المتعذر تحديد” منهجية الوصول لهذه النبوءة للاستفادة منها و إعادة توظيفها، أما التنبؤات البشرية فهي مما يقع ضمن دائرة الوعي بها و امكانية تطويرها و توظيفها،  و هذه هي محط اهتمامي في هذا المقام. مع الإقرار بالتأثير للأولى على الثانية احيانا. و قد بذلت جهدا أظنه كافيا في البحث عن أصول التنبؤ “أو الدراسات المستقبلية” في التراث الانساني :

أولا : الصينيون  لعل ” كيان سيما ” (Sima Qian) الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد  يمثل محاولة جادة في هذا المجال عندما حاول فهم قوانين التاريخ و افتراض أن هذه القوانين لها طابع الديمومة، و عليه فإن بإمكانه إدراك القادم إذا أدرك القوانين الحاكمة لحركة الأفراد و المجتمعات والطبيعة.

ثانيا: التراث اليوناني بداية المنهج العلمي: 300 قبل الميلاد مع أرسطو (Meteorologica-meteorology) فقد حاول أن يرى العلاقة بين النار، و التربة، و الهواء و الماء، ثم تبعه تلميذه  ثيوفراستوس( Theophrastus) الذي وضع كتاب(on Signs) و كان يركز على “لون السماء، و الهالات (بقع الضوء) ليتنبأ بسقوط المطر، ثم جاء أبقراط، و ربط المرض بالحرارة أو الرطوبة أو الماء…أو الهواء. و كان الكهنة في معبد ” دلفي” يعيدون انتاج تنبؤاتهم استنادا لهذا التراث الذي يربط بين حركة البشر و مظاهر الطبيعة.

ثالثا: المصريون كان رع (إله الشمس) هو المصدر الرئيسي للمعرفة بالمستقبل، و كان في مصر القديمة معبدا للتنبؤات (القرنين السادس و السابع قبل الميلاد) و ما زالت بعض آثاره في واحة سيوه المصرية، و أخذ المعبد مكانته نظرا لأنه مهبط  وحي الإله آمون، فكان المصريون إذا اعتزموا القيام بشيء ذهبوا  لكهنة المعبد ليخبروهم عن طريق استشارة الإله آمون بما سيحدث. و كان الإسكندر الأكبر أحد الذين طلبوا من كهنة معبد آمون النبوءة له حول ما إذا كان سيحكم العالم، فقال الكهنة نعم و لكن لفترة قصيرة، و كذلك هناك حكاية جيش قمبيز الفارسي (القرن السادس قبل الميلاد) الذي جاء لهدم المعبد المصري و لكن الجيش ضاع و لم يتم العثور عليه و بقي لغزا (العلماء المعاصرون يميلون لتفسير الضياع بأنه نتيجة لعوامل طبيعية). و الملاحظ أن فترة ما قبل الميلاد و القرون الثلاثة ما بعد الميلاد بقي التنبؤ مرتبطا بقدر كبير بالميتافيزيقيا، مثل رع عند المصريين (اله الشمس) و زيوس عند اليونان، أما في الشمال الأوروبي نجد  إله الرعد والبرق(Thor) ، و كان الأزتيك يقدمون أضاحي لكي يرضى الإله و ينزل المطر. لكن الأهم أن هؤلاء المقربين لله كانوا يدعون  صلتهم بالآلهة فكانت لهم مرتبة عليا في المجتمع، كما وجدنا أن بعض القبائل كانت تعتقد في استراليا أن الرقص يأتي بالمطر.. ثم بدا بعد ذلك الانفكاك التدريجي و البطيء بين الميتافيزيقيا و التنبؤ لصالح بناء التنبؤ على أساس مظاهر طبيعية شاخصة و هو ما يتضح في العرافة و القيافة و بعض أشكال الكهانة و قراءة الرمل وصولا لفناجين القهوة و التطير (عن اليمين أو الشمال)….و أصبح الصيادون، والمزارعون و المحاربون، و الرعاة، و البحارة  يركزون على مظاهر المناخ أو مظاهر البحر أو الريح…الخ

رابعا: العرب القدامى  في تتبعي لهذا الجانب في التراث العربي عثرت على ما يمكن تسميته “حكايات” عن التنبؤ كتلك التي رويت عن رجال و نساء مثل شق بن أنمار بن نزار، و سطيح بن غسان، و الأشعث بن قيس الكندي، و الأسود بن كعب و طليحة بن خويلد، و مسيلمة بن حبيب الحنفي (المسمى لاحقا مسيلمة الكذاب)، و بعض النساء مثل طريفة الكاهنة، و زبراء، و سجاح بنت الحارث …الخ. و توقفت عند كتابات فخر الدين الرازي (بخاصة التنبؤ المبني على ما أسماه المزاج الخلقي و تأديب العقل و رياضة الشرع) و بعض إشاراته للتنبؤ بناء على حركة الجسد و هو ما يتضح مدلوله في قوله بأن العين صومعة الأعضاء-أي أنها تشي بما في العقل ، و لفت انتباهي بعض إشارات ابن القيم الجوزية عن الفراسة (و لو أنه حصرها في دور التنبؤ في أحكام القضاة و إشارته لما سماه التعريض. حاولت الربط بين بعض الإشارات الواردة في كتب التراث –و هي غالبا على شكل حكايات-، و حاولت أن استنبط منها “أدوات التنبؤ عندهم” ، مثل ما ورد في الرسالة القشيرية عن الشافعي و محمد بن الحسن في حكاية الحداد و النجار، أو حكاية الشافعي مع شخص تبحث الشرطة عنه، و قد عرفه لمجرد معلومات بسيطة مستندا لقاعدة كررها بأن “العبد إذا جاع سرق و إذا شبع نكح”. و يمكن اعتبار بعض التصورات المثالية –كالمدينة الفاضلة للفارابي- محاولة لتوظيف الخيال، لكني أرى أن الفارابي كان يحاكي –بخاصة منهجيا- جمهورية أفلاطون لا أكثر…كما أن موقف ابن رشد من مفهوم الزمن شكل في تقديري نقلة مهمة عندما أكد على موقف تيار في الفلسفة اليونانية من أن الزمن هو “كم الحركة”. كما مثلت محاولة بن خلدون  وضع قوانين للتاريخ و طرحه فكرة الدورة للدول محاولة جادة قريبة من محاولة الصيني كيان سيما الذي أشرت له. لكني و بكل أمانة- و في حدود كفايتي العلمية القاصرة- وجدت أن “أغلب” ما في تراثنا لا يعدو أن يكون في نطاق الفراسة و تفريعاتها مثل : علم الأسارير و الأكتاف و العيافة (أو القيافة) و الريافة(الخاصة بالماء)، و الاستنباط و نزول الغيث و علم الاختلاج (اختلاج الأعضاء في الجسم بطريقة غير إرادية و ربطها بتوقع حدوث شيء ما ) و التطير..الخ، و لو أن الجاحظ قدم شذرات بدا لي أنها الأصلح لتأصيل الموضوع رغم بقائه في دائرة الفراسة، لكنه لفت انتباهي في تناوله لما أسماه فراسة البشر، ثم – و هو الأهم – حديثه عن مسألتين هما : الأولى النصبة (الخصلة الخامسة في آلة البيان و تعني أن كل علامة تشير لعلامة أخرى إلى أن تنتهي لنقطة معينة) و الثانية ما أسماه الإشارة التي يبدو أنها تتوارى وراء الكلمات فقيل “رب لحظ أنَمّ من لفظ”. و قد غلبت التنبؤات على أساس الصفات الجسدية (الطول و القصر و العين و الانف..الخ) أو الحدس على كل منهجية أخرى، و لو أن الفراسة الصوفية أخذت منحى مختلف بعض الشيء من خلال ما أسموه “مكاشفة اليقين و معاينة الغيب”. كما لفت انتباهي بعض المحاولات للتنبؤ بأحوال الجو، و هنا ليست الأهمية في صدق أو خطأ التنبؤ بل ببداية الربط بين مكونات الظاهرة موضوع البحث (العلاقة بين الحر و البرد و المطر و الريح…الخ)، و قد ربط ابن خلدون بعض هذه الجوانب مع السلوك الإنساني، مما يؤصل للعلاقة بين البيئة و السلوك، و لو أن التنجيم أخذ حيزا أيضا في هذا الجانب، و ما ورد عن تنبؤات المنجمين لمعركة عمورية و التي سجلها أبو تمام كإشارة على نقده “لسود الصحائف لصالح تمجيده لبيض الصفائح  التي في متونها جلاء الشك و الريب، هز من مكانة التنجيم كإضافة إلى “كذب المنجمون و لو صدقوا”.

و قد عثرت على عدد من الدراسات العربية في مجال التأصيل لموضوع التنبؤ في التراث، لكني لم أجد القدر الكافي من المعلومات في هذا الجانب، و لعل دراسة محمد سهيل طقوش تمثل محاولة جادة لكنها ركزت على الربط بين التنبؤ و ادعاءات النبوة كما جرى مع الأسود العنسي في اليمن، و مسيلمة الكذاب في بني حنيفة في اليمامة، و طليحة في بني أسد، و سجاح التميميَّة.

خامسا: النقلة العلمية الابتدائية في التنبؤ في القرن الخامس عشر بدأت فكرة مراقبة الظواهر و قياسها تأخذ أهمية أكبر،لاففي هذه الفترة  صمم ليوناردو دافنشي آلة لقياس الرطوبة (و بالتالي تحديد آلية لتوقع سقوط المطر)،  ثم جاءت فكرة دوران الأرض على يد جاليليو  الذي اخترع (thermometer)  فأصبحت النظرية الأولى له تربط بين دورة الأرض و المواسم الزراعية و المظاهر الأخرى المرتبطة برتابة الحركة، و ساعد الثاني على قياس درجات الحرارة لبناء تنبؤات على أساسها، ثم جاء تورشيللي(Torricelli) و اخترع آلة قياس ضغط الهواء(barometer)، و لعل ذلك ساهم في تزايد ثقة العقل البشري بقدرته على “الرصد للحركة المنتظمة و للحركة العشوائية، و هي نقلة هامة في مجال رصد التغير الذي يشكل وحدة التحليل في الدراسات المستقبلية. و تدعم التوجه العلمي بظهور  نظريات اليوتوبيا (توماس مور)  في بداية القرن السادس عشر، و هو ما مهد المسرح لأدباء الخيال العلميJules Verne  الفرنسي و H. G. Wells  البريطاني(حيث ركزا على انعكاس التطور التقني على الحياة الإنسانية، و انتقل الأمر للشركات غير العسكرية، ثم ظهرت فكرة الخطة الخمسية لكهربة الاتحاد السوفييتي في عام 1921 مع لينين، ثم التنافس العسكري بين شركات انتاج الأسلحة و تنبؤ كل منهما لما سينتجه الطرف الآخر، و انتقل الأمر بعد نجاح تنبؤات العسكريين إلى الشركات غير العسكرية، ثم أصبح علم الدراسات المستقبلية فرعا علميا أكاديميا في منتصف الستينات من القرن الماضي. ثم بدأت مناهج الميدان تتطور بتقنيات علمية، و ظهرت دراسات مستقبلية متنوعة لكنها مثيرة في هذا المجال مثل دراسة الحرب النووية) التي طرحها الأمريكي هيرمان كان (Herman Kahn) و دراسة جوفنيل الفرنسي(-Bertrand de Jouvenel-) حول المستقبلات الممكنة و دراسة الهنغاري غابور دينيس (Dennis Gabor  حول (اختراع المستقبل) ثم (Buckminister Fuller) بخاصة اللعبة العالمية، إلى جانب دراسات الهيئات العلمية مثل نادي روما و الجامعات، لنصل إلى طرح الموضوع كتخصص علمي منفصل تطرحه أغلب جامعات العالم المتطور(إلا الجامعات العربية) في مراحل الدراسة الجامعية الثلاث و ما بعدها.

قراءة 607 مرات آخر تعديل على الأربعاء, 29 حزيران/يونيو 2022 08:59