(function(i,s,o,g,r,a,m){i['GoogleAnalyticsObject']=r;i[r]=i[r]||function(){ (i[r].q=i[r].q||[]).push(arguments)},i[r].l=1*new Date();a=s.createElement(o), m=s.getElementsByTagName(o)[0];a.async=1;a.src=g;m.parentNode.insertBefore(a,m) })(window,document,'script','//www.google-analytics.com/analytics.js','ga'); ga('create', 'UA-60345151-1', 'auto'); ga('send', 'pageview');
طباعة
الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2022 04:15

الكون .. ذلك الصديق الحميم

كتبه  الأستاذ عبد العزيز كحيل
قيم الموضوع
(0 أصوات)

يحتلّ الكون مساحة كبيرة في الثقافة الإسلامية يتناسب مع عظمته و قوّة حضوره في حياة البشر و حياة جميع المخلوقات، نجد ذكره في القرآن الكريم و في سنّة الرسول صلى الله عليه و سلّم و سيرته و في أدبيات المسلمين المختلفة، لكن عصور التخلّف ألقت بظلالها على علاقة المسلم بالكون حتى فهم الناس أنّ بينهما جفاء و سوء تفاهم أو أن لا دخل للكون في الإسلام و لا دخل للإسلام في شؤون الكون، و أصبح هذا الموضوع شأنا دنيويا بحتا احتكر الاشتغال به الغربيون وحدهم فخسرنا نحن مبدئيا و عمليّا، و هذا الوضع يقتضي أن نعود إلى تأسيس علاقة صحية طيبة بالكون باعتبار ذلك عبادة لله و زيادة في المعرفة و واحدا من أهمّ طرق الرقيّ الإنساني.

و تكمن نقطة البداية في إرساء أساليب سليمة للتعامل مع الكون المحيط بنا من كلّ جانب، فكما تعلّم المسلم من دينه حسن التّعامل مع الله بالعبادة و مع الناس بالأخلاق الرّفيعة فقد تعلّم منه حسن التّعامل مع الكون بأنواع من المعاملات. و الكون هو ما يسمّونه الطبيعة و ما فيها من تراب و ماء  و بحار و جبال و نباتات و حيوانات و طيور و حشرات و أسماك و نحوها، و هي خلق من خلق الله بل بعضها أمم لها تنظيماتها و سنن تحكم حياتها و مسيرتها و علاقتها بمحيطها: (وَ مَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ) [الأنعام: 38] و هي تؤدّي حقوق العبوديّة لله عزّ و جلّ بطريقتها الّتي ألهمها الله إيّاها (وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) [الإسراء: 44] وضع الخالق سبحانه هذا الكون الفسيح متنوّع العناصر في خدمة الإنسان، و هو ما يسمّيه القرآن الكريم التسخير (وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ* وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهَارَ) [إبراهيم: 32 – 33]. (وَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الجاثيّة: 13] و قد كان فضل الإسلام على البشريّة عظيماً حين جاء بحقائق تبيّن أن الكون في خدمتها و ليس عدوّاً لها كما تصوّر بعض العقائد، و لا هو شيء مقدّس تعبده و تخدمه كما في عقائد أخرى، و هذا ما أتاح للعلماء و المستكشفين و المخترعين أن يبحثوا و يتعرّفوا على سنن الكون  و يستخرجوا خيراته بدل أن يصارعوه أو يخافوا منه أو يعبدوه، فالعلاقة بالكون تعني الاستكشاف المعرفي و الانتفاع الماديّ متنوّع الأوجه و الأشكال كما تعني الاستلهام الجمالي، يقول الله تعالى عن قطعان الحيوانات الأليفة: (وَ لَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ)  [النحل: 6]، و يلفت النظر إلى جمال البساتين: (فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ) [النمل: 60] و يدعو إلى الاستمتاع بالنظر إلى الثمار في أغصان الأشجار: (انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ) [الأنعام: 99] و هكذا يجمع بين الإشباع الحسّي و الوجداني لحاجات الإنسان ليرتقي به ماديا و نفسيا و يحدث التوازن في شخصيته و حياته. و بذلك أنهى الإسلام العلاقة المرضيّة بالكون المتمثّلة في اعتزاله أو عبادته أو الصراع معه، و أسّس علاقة صحيّة تعود إلى وحدة الخلق من ناحية  و وحدة الخالق  من ناحية أخرى – لأنّ الإنسان جزء من الكون، و هما معا جزء من خلق الله الواحد –  و تتيح التّسخير للمنفعة الماديّة و الوجدانيّة بتنميّة الرّغبة في الاستكشاف و رهافة الحس الجمالي.

بهذا الانسجام بين البشر و الكون يصبح هذا الأخير عاملاً من العوامل الّتي تدلّ على الخالق و تقود إليه : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَ النَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَ قُعُودًا وَ عَلَى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 190 – 191] (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصّلت: 53] فالكون مصدر للمعرفة العلميّة – و هذا ما يسلّم به الجميع –  و المعرفة الإيمانيّة – و هو ما يعتقده المسلمون –  باعتباره كتاب الله المجلوّ الّذي تتناغم آياته الصامتة مع آيات الكتاب الناطقة لتسوق الناس إلى ربّهم بملاطفات الإحسان ، و كم أجرمت الحضارة الغربيّة في حق الدين و العلم و الإنسان حين ألغت الدلالات الغيبيّة لآيات الكون و قصرت التعامل على المعرفة الماديّة و الاستغلال من منطلق الصراع مع الطبيعة و قهرها و إخضاعها للرجل الأبيض، ثم أجرمت مرّة أخرى حين تقدّمت ركب البشر في الاستغلال الفاحش لثروات الكون الأرضيّة و الجوفيّة و الجويّة فاختلّ التوازن البيئيّ بشكل ينذر بالوبال على البشرية كلّها، أمّا الإسلام فقد علّم أتباعه التعامل مع الكون برفق للمحافظة على التوازن  بين بقائه إلى ما شاء الله و بين إشباع حاجات الخلائق كلّها، لذلك ينبغي صوغ منظومة معرفيّة و سلوكيّة قوامها صيانة ثلاثيّة للكون من التلف و التلوّث و التبديد بالإسراف نجد أصولها في القرآن و السنة ، النهي عن الإسراف و التبذير، النهي عن التبوّل في الماء، النهي عن إبادة أيّ فصيل من الحيوانات أو الحشرات، الإشادة بأعمال الزرع و غرس الأشجار، الأمر بالاعتدال في الاستهلاك. كون صديق للإنسان  الثقافة المستقاة من القرآن و السنّة تبني تصوّراً متكاملاً لعلاقة المسلم بالكون نجد فيه أن هذا الكون صّديق للإنسان و كأنّه كائن حيّ له إحساس و شعور (وَ لَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ)   [سبأ: 10] “أحد جبل يحبّنا و نحبّه ” – حديث رواه البخاري و مسلم – فكأن للجبال عواطف نسجت شبكةً من التجاوب بينها و بين عباد الله الصالحين ملؤها الحب و التعاضد في تمجيد الله تعالى، بل إن جبل أحد اهتزّ هزّة طرب شعر بها من كان عليه، فخاطبه الرسول – صلّى الله عليه و سلّم –: ” أثبت أحد فإن فوقك نبيّاً و صدّيقاً و شهيدين”. و تبلغ رعاية الكون للإنسان مداها حين يحتضنه و يرعاه في ظروف قاسية، فالنار تحسن معاملة إبراهيم – عليه و السلام – بدل أن تحرقه كما أراد خصوم دعوته : (قَالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَ سَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ)  [الأنبياء: 68-69]. و البحر يحتضن موسى – عليه السلام – و هو رضيع فارق أمّه و أهله و يحفّه بالرعاية حتّى يبلغ مأمنه : (وَ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لَا تَخَافِي وَ لَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) [القصص7:] و الكهف الموحش – و هو مظنّة الهلاك – يؤوي الفتية المؤمنين الفارّين بدينهم فيجدون فيه السكينة الّتي افتقدوها في الدور القصور بين أهلهم الكافرين : (وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا) [الكهف: 16] الريح تسارع  بحمل البشرى إلى يعقوب عليه السلام قبل أن يصله قميص يوسف بأنّ ابنه المفقود حيّ يرزق: (وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ) [يوسف:94] و يرفق البحر و الحوت معا بيونس – عليه السلام – فيخرج من المحنة العجيبة سالما لم يغرقه الماء و لم يأكله الحوت  و إنّما ابتلعه فحسب : (وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ *فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [الصّافّات: 139-144] و يصطفّ الكون مع المسلمين في معركتهم الفاصلة ضدّ اليهود فينادي الشجر و الحجر المسلم و يدلّه على مخبأ اليهوديّ ليخلّص الأرض من رجسه و ظلمه – من حديث رواه البخاري و مسلم . الكون مهدنا و مصدر رزق الله لنا و كتاب مفتوح نقرأ فيه آيات التوحيد و نلمس دلائل القدرة والعظمة : (فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) [المؤمنون: 14] و ما زال في هذا الكون البديع من الأسرار و المنافع و المفاتيح ما يغري المسلمين بالسعي في جنباته و استكشاف كنهه و استخراج خيراته و سلوك دروبه للوصول إلى الحقائق العلمية و الإيمانية التي تزيدنا رفاهية و تزيدنا علما بالله تعالى و قربا منه .

الرابط : https://islamonline.net/%D8%A7%D9%84%D9%83%D9%88%D9%86-%D8%B0%D9%84%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%AF%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%8A%D9%85/

قراءة 497 مرات آخر تعديل على الأربعاء, 12 تشرين1/أكتوير 2022 06:06