قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

Saturday, 08 March 2014 21:29

ضريبة الذل

Written by  الأستاذ سيد قطب رحمه الله
Rate this item
(0 votes)
بعض النفوس الضعيفة يخيل إليها أن للكرامة ضريبة باهظة، لا تطاق، فتختار الذل و المهانة هرباً من هذه التكاليف الثقال، فتعيش عيشة تافهة، رخيصة، مفزعة، قلقة، تخاف من ظلها، و تَفْرَقُ من صداها، "يحسبون كل صيحة عليهم" ، "و لتجدنهم أحرص الناس على حياة".
هؤلاء الأذلاء يؤدون ضريبة أفدح من تكاليف الكرامة، إنهم يؤدون ضريبة الذل كاملة، يؤدونها من نفوسهم، و يؤدونها من أقدارهم، و يؤدونها من سمعتهم، و يؤدونها من اطمئنانهم، و كثيراً ما يؤدونها من دمائهم و أموالهم و هم لا يشعرون.
و إنهم ليحسبون أنهم ينالون في مقابل الكرامة التي يبذلونها قربى ذوي الجاه و السلطان حين يؤدون إليهم ضريبة الذل و هم صاغرون، و لكن كم من تجربة انكشفت عن نبذ الأذلاء نبذ النواة، بأيدي سادتهم الذين عبدوهم من دون الله، كم من رجل باع رجولته، و مرغ خديه في الثرى تحت أقدام السادة، و خنع، و خضع، و ضحى بكل مقومات الحياة الإنسانية، و بكل المقدسات التي عرفتها البشرية، و بكل الأمانات التي ناطها الله به، أو ناطها الناس … ثم في النهاية إذا هو رخيص رخيص، هَيِّنٌ هَيِّن، حتى على السادة الذين استخدموه كالكلب الذليل، السادة الذين لهث في إثرهم، و وَصْوَصَ بذنبه لهم، و مرغ نفسه في الوحل ليحوز منهم الرضاء !
كم من رجل كان يملك أن يكون شريفاً، و أن يكون كريماً، و أن يصون أمانة الله بين يديه، و يحافظ على كرامة الحق، و كرامة الإنسانية، و كان في موقفه هذا مرهوب الجانب، لا يملك له أحد شيئاً، حتى الذين لا يريدون له أن يرعى الأمانة، و أن يحرس الحق، و أن يستعز بالكرامة، فلما أن خان الأمانة التي بين يديه، و ضعف عن تكاليف الكرامة، و تجرد من عزة الحق، هان على الذين كانوا يهابونه، و ذل عند من كانوا يرهبون الحق الذي هو حارسه، و رخص عند من كانوا يحاولون شراءه، رخص حتى أعرضوا عن شرائه، ثم نُبِذَ كما تُنْبَذُ الجيفة، و ركلته الأقدام، أقدام الذين كانوا يَعِدُونه و يمنونه يوم كان له من الحق جاه، و من الكرامة هيبة، و من الأمانة ملاذ.
كثير هم الذين يَهْوُونَ من القمة إلى السَّفْح، لا يرحمهم أحد، ول ا يترحم عليهم أحد، و لا يسير في جنازتهم أحد، حتى السادة الذين في سبيلهم هَوَوْا من قمة الكرامة إلى سفوح الذل، و من عزة الحق إلى مَهَاوي الضلال، و مع تكاثر العظات و التجارب فإننا ما نزال نشهد في كل يوم ضحية، ضحية تؤدي ضريبة الذل كاملة، ضحية تخون الله و الناس، و تضحي بالأمانة و بالكرامة، ضحية تلهث في إثر السادة، و تلهث في إثر المطمع و المطمح، و تلهث وراء الوعود و السراب ….. ثم تَهْوِي و تَنْزَوِي هنالك في السفح خَانِعَةً مَهِينَة، ينظر إليها الناس في شماتة، و ينظر إليها السادة في احتقار.
لقد شاهدتُ في عمري المحدود - و مازلت أشاهد - عشرات من الرجال الكبار يحنون الرؤوس لغير الواحد القهار، و يتقدمون خاشعين، يحملون ضرائب الذل، تثقل كواهلهم، و تحني هاماتهم، و تلوي أعناقهم، و تُنَكِّس رؤوسهم …. ثم يُطْرَدُون كالكلاب، بعد أن يضعوا أحمالهم، و يسلموا بضاعتهم، و يتجردوا من الحُسنَيَيْن في الدنيا و الآخرة، و يَمضون بعد ذلك في قافلة الرقيق، لا يَحُسُّ بهم أحد حتى الجلاد.
لقد شاهدتهم و في وسعهم أن يكونوا أحراراً، و لكنهم يختارون العبودية، و في طاقتهم أن يكونوا أقوياء، و لكنهم يختارون التخاذل، و في إمكانهم أن يكونوا مرهوبي الجانب، و لكنهم يختارون الجبن و المهانة …. شاهدتهم يهربون من العزة كي لا تكلفهم درهماً، و هم يؤدون للذل ديناراً أو قنطاراً، شاهدتهم يرتكبون كل كبيرة ليرضوا صاحب جاه أو سلطان، و يستظلوا بجاهه أو سلطانه، و هم يملكون أن يَرْهَبَهم ذوو الجاه و السلطان! لا ، بل شاهدت شعوباً بأَسْرِها تُشْفِقُ من تكاليف الحرية مرة، فتظل تؤدي ضرائب العبودية مرات، ضرائب لا تُقَاس إليها تكاليف الحرية، و لا تبلغ عُشْرَ مِعْشَارِها، و قديماً قالت اليهود لنبيها "يا موسى إن فيها قوماً جبارين و إنا لن ندخلها أبداً ماداموا فيها فاذهب أنت و ربك فقاتلا إنا هنا قاعدون" فأَدَّتْ ثمن هذا النكول عن تكاليف العزة أربعين سنة تتيه في الصحراء، تأكلها الرمال، و تذلها الغربة، و تشردها المخاوف…. و ما كانت لتؤدي معشار هذا كله ثمناً للعزة و النصر في عالم الرجال.
إنه لابد من ضريبة يؤديها الأفراد، و تؤديها الجماعات، و تؤديها الشعوب، فإما أن تؤدى هذه الضريبة للعزة و الكرامة و الحرية، و إما أن تؤدى للذلة و المهانة و العبودية، و التجارب كلها تنطق بهذه الحقيقة التي لا مفر منها، و لا فكاك.
فإلى الذين يَفْرَقُونَ من تكاليف الحرية، إلى الذين يخشون عاقبة الكرامة، إلى الذين يمرِّغُون خدودهم تحت مواطئ الأقدام، إلى الذين يخونون أماناتهم، و يخونون كراماتهم، و يخونون إنسانيتهم، و يخونون التضحيات العظيمة التي بذلتها أمتهم لتتحرر و تتخلص.
إلى هؤلاء جميعاً أوجه الدعوة أن ينظروا في عبر التاريخ، و في عبر الواقع القريب، و أن يتدبروا الأمثلة المتكررة التي تشهد بأن ضريبة الذل أفدح من ضريبة الكرامة، و أن تكاليف الحرية أقل من تكاليف العبودية، و أن الذين يستعدون للموت توهب لهم الحياة، و أن الذين لا يخشون الفقر يرزقون الكفاية، و أن الذين لا يَرْهَبُون الجاه و السلطان يَرْهَبُهم الجاه و السلطان.
و لدينا أمثلة كثيرة و قريبة على الأذلاء الذين باعوا الضمائر، و خانوا الأمانات، و خذلوا الحق، و تمرغوا في التراب ثم ذهبوا غير مأسوف عليهم من أحد، ملعونين من الله، ملعونين من الناس، و أمثلة كذلك و لو أنها قليلة على الذين يأبون أن يذلوا، و يأبون أن يخونوا، و يأبون أن يبيعوا رجولتهم، و قد عاش من عاش منهم كريماً، و مات من مات منهم كريما.
المصدر:
Read 1889 times Last modified on Monday, 06 July 2015 15:55

Add comment


Security code
Refresh

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab