منذ أرسل الله جل شأنه رسوله صلى الله عليه و سلم بالهدى و دين الحق تعهد له و لأمته من بعده ببقائها و ديمومتها و استمراريتها إلى يوم الدين و لو كره الكافرون و ذلك بقوله النافذ بلا شك الحق بلا جدال (( هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون )).
و منذ انطلاقة هذه الرسالة الإلهية السامية حملت في ثناياها العدالة المطلقة و التسامح البين و الاحترام الجلي للعقل البشري مع الوضوح التام في المعتقدات و الشرائع فجاءت سامية المبادىء شاملة البيان سهلة التكيف مرنة الإندماج مع المتغيرات البشرية و الحياتية متناغمة بتآلف ودود مع الفطرة و الطبيعة الإنسانية.
محملة بالوصايا الربانية للنبي صلى الله عليه و سلم ثم لكل من ولي أمراً لبني البشر بالتزام الرفق و إحقاق الحق و محاربة الظلم و رفع العنت و الإصر و الأغلال عن رقاب طالما ناءت بحملها الثقيل و أنَت تحت نير الجهل و القهر و الاستعباد من الإنسان لأخيه الإنسان.
و لأن هذه الرسالة بكل أحكامها و تفاصيلها و مبادئها منزلة من الله على رسوله الكريم صلى الله عليه و سلم فقد جاءت خالصة النقاء العقائدي عادلة التشريع نابضة بالعطاء، و الحث على البحث و التفكير واضحة كل الوضوح في بيان ثوابتها و أدلتها براء من الجمود و التقوقع.
صريحة كل الصراحة في مناقشة و إيضاح دقائق المشكلات الأصيلة و الطارئة في حياة البشر مقنعة غاية الإقناع حاسمة غاية الحسم في اعتبار ثوابتها غير قابلة للتغيير و الزوال؛ لأنها الحق و ليس بعد الحق الا الضلال.
و لأن لكل خير و حق أعداء يحاولون طمسه و إضعافه فإن الاسلام و هو أصدق الحقائق و أجلاها له أعداؤه الكثر ابتداء من كفار قريش مرورا بكل حملات التشكيك القديمة و المعاصرة و إلى قيام الساعة و لذلك بات من المألوف أن لا تهدأ وتيرة الغمز الخفي أو الحرب المعلنة ترتفع هنا أو هناك على كافة الصعد و في مختلف الميادين.
و منها تلك التهمة التي تصور " بقاء الإسلام كفكر قوي و مؤثر محتفظا بكل قوته و كيانه بانه نتاج تقوقعه و عزلته و انفراده " بحسب قول احد أعمدة التبشير و هو " شاتلييه " و يقصد بقوله كما يقصد أمثاله أن الإسلام حظر التفاعل و الحوار مع الآخر، و هي فرية كبرى فندتها و ما تزال تلك الحضارة الماثلة بشواهدها العلمية و الفكرية و العمرانية حتى في قلب في و عمق حضارة الآخر.
و كذلك المبشر " زويمر " الذي دعا الى اعتماد أسلوب التشكيك بشريعة الإسلام و تغذية و تعميق الميل بل الاتباع لتلك الأفكار المفككة كما يقول لعقائد الاسلام و مبادئه الخلقية " وفق مزيتي الهدم و البناء للإرساليات التبشيرية ".
وهم يرون أن المسلمين متعصبين وأن تعصبهم يحول بينهم وبين محبة وتقبل الآخر.
يقول المبشر " رايد " ( إن ذلك الحاجز العظيم الذي يدعى عادة بالتعصب و هو ذلك الجدار الشاهق من الشك و الاعتزاز بالذات و من الكره قد بناه الإسلام حول اتباعه ليحميهم من داخله و يترك المبشر خارجه ) إلى أن يقول: (من الصعب أن تحب مسلماً؛ لأن المسلم ليس محبباً إلى النفس، و لأنه هو عادة يشمئز من اللذين يحاولون الاقتراب منه إذا نالوا ثقته ).
إن هذه الأقوال التشكيكية المتجنية هي محض افتراء تفنده الحقائق التاريخية و شواهدها و تثبت أن محاولات الآخر التقرب و التآلف مع المجتمعات المسلمة لم يكن بهدف التبادل الحضاري أو الثقافي بل هو تقارب لأجل إقناعنا و إلزامنا بمبادئه هو وفق رؤيته هو دون الأخذ بعين الاعتبار البنية العقائدية و الحضارية لنا .
و نحن حين نرفض أيديولوجية الآخر حين يحاول فرضها علينا نصبح في نظره دعاة كراهية و نفور و انعزالية.
إن دعاة الفرنكفونيه ينهجون النهج ذاته و هم مازالوا يحاولون اقتلاع جذور القيم الاسلامية متمثلة بالحجاب و المظهر الاسلامي - كمثال - و يعتبرون قيمنا امر غير مرحب به في بلادهم حيث يقول " ساركوزي " ( إن البرقع الذي يغطي المرأة من رأسها إلى أخمص قدميها أمر غير مرحب به في فرنسا الفرنسيون لا يحبون رؤيته في بلادهم ).
و هل أحب الجزائريون و أهل الشام و غيرهما من بلاد المسلمين احتلال فرنسا لأرضهم و إلغاء لغتهم و محاربة عقيدتهم و ثقافتهم، و هل أحب التونسيون إلغاء الحجاب الذي فرضه الله على المسلمات فحورب على يد تلاميذ قيمكم.
لقد تذكرت و أنا اكتب هذه السطور أنني سألت والدي رحمه الله أثناء حديث دار بيننا حول الاستعمار الفرنسي للجزائر فقال: إن أخطر ما في الاستعمار الفرنسي غير الإبادة المليونية أنه تسلط بكل إمكانياته و قوته على مقومات وجود الأمة؛ عقيدتها و لغتها و قيمها ليسلخ الأجيال التالية عن السابقة فتنقطع حلقة الوصل العقائدية و القيمية بين أجيال الأمة الواحدة فتصبح امعة لا قوام لها. و هذا أخبث أنواع الاستعمار.
إن محاولات طمس الهوية الإسلامية و السعي الى تحجيم انتشار الاسلام و محاربة وجوده و تجفيف شرايين اتصاله بالآخر بكل وسيلة هو اكبر دليل على انه دين حي متجدد سريع التأثير منفتح القنوات يخشى من انتشاره بسهولة و يسر و ليس فيه صفة واحدة تدل على الانعزالية و التقوقع.
و لكي نكون منصفين فان الكثير من أقلام الغرب أنصفت الإسلام لقناعتها بعدالته و رحمته " فارنولد توينبي " يقول: إن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام أبان الفتوحات الإسلامية لبلادها إنما فعلت ذلك باختيار حر و إرادة كاملة و أن العرب المسيحيين يعيشون بين الجماعات المسلمة إلى اليوم و هو شاهد على تسامح الإسلام.
فهل يدرك أولئك الذين يلصقون تهمة الانعزالية بالإسلام و يعتبرونها السبب في ديموميته و بقائه أو الذين يصفونه بالجمود و التخلف و عدم صلاحيته لكل زمان و مكان هل يدركون مدى الخطأ المقصود غالباً و غير المقصود أحياناً و هم يرون و يلمسون حكمة و عملية وسعة افق الحلول الاسلامية لكل مشكلات البشرية قديماً و حديثاً.
أم أنهم يخشون يقظة المارد النائم على حسب تعبيرهم فيوغلون بالاستخفاف بعقول البشر و تفكيرهم مستمرين في محاولات إبقاء الأمم مخدرة غافلة عن الحق و هي تلهث خلف سراب المادية و الإباحية محقونة بجرعات متتابعة من الافتراءات على شرع الله ((يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم و الله متم نوره و لو كره الكافرون)).
http://www.denana.com/main/articles.aspx?selected_article_no=10752