قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 20 آب/أغسطس 2014 18:54

“مانديلا” ومسؤولية التحرير

كتبه  الدكتور محمد الأحمري
قيم الموضوع
(0 أصوات)

خرج “مانديلا” من السجن بعد عشرة آلاف يوم كاملة في المعتقل، و كان عمره واحدا و سبعين عامًا، و قاد دولته الجديدة في طريق لم يسبق أن سارت فيه من قبل. و كتابه: “مشي طويل نحو الحرية”[2] من أجمل الكتب بل و من كتب العالم الثالث المهمة التي روت واحدة من سير العالم المغلوب، و كيف كافحت أمة لتحصل بعد قرون متطاولة على حريتها، فقد احتاجت جنوب إفريقيا إلى ثلاثمائة و أربعين عامًا لتنال استقلالها، و لا تتوهموا أن جميع الأفارقة في جنوب إفريقيا سعوا إلى الاستقلال، و لا تتوهموا أن كل الرجال يحبون الحرية و يسعون لها ! فليس كل السود قاتلوا من أجل الحرية و الاستقلال، ول ا كلهم سجن ثلث قرن كما حدث لـ”مانديلا”. لا، بل استقلت جنوب إفريقيا أو نال السود حقوقهم على الأصح، على رغم كراهية عدد منهم غير قليل؛ فمنهم أعداد هائلة كانت تقاتل في صفوف المستعمرين – الأفريكانوا ” البيض” و ترى في “مانديلا” شرًا و شيوعيا أحمر يريد أن يحرمهم من الخير الذي جاء به السادة البيض، فقد جاءوا لهم بالإنجيل و الدخان و الموسيقى و الثياب الحمر المرقشة. لقد جاءوا لهم بالذل و الخنوع، و الراحة من التفكير و المبادرة، أراحوهم من مسؤولية القرار، و من ثقل الاختيار، و تلك نعم يهنأ بها العبيد دائما في كل مكان، و العبودية ليست لونا و لا جنسا و لكنها حالة نفسية، أو “عجز حكمي” كما يعرفها الفقهاء. و إن الأحرار من طراز آخر من الرجال أمثال “مانديلا” يهون عليه أن يموت أو يسجن ثلث قرن و لا تهون عليه كرامته و حريته. كان زعماء “المؤتمر” في السجن مطاردين أو يعملون ضد الاحتلال سرًا، و كان بعض المتعلمين الدكاترة و القساوسة و الصحفيين من السود أنفسهم -للأسف- ضد الاستقلال “الشرير” و ضد” سرطان ” الحرية، مع أن البيض “السادة” كانوا لا يؤاكلونهم ول ا يشاربونهم و لا يزاوجونهم، و لا يستخدمون المواصلات التي يركبونها، و لا يسمحون لهم بالسكن في مناطقهم، و يحرمون عليهم حتى بعض أنواع اللباس، و يمنعونهم حرية التنقل، و أنواعا من العمل، بل لا يرى فيهم البيض بشرًا من البشر، و مع هذا فقد كان طائفة من السود تقدس البيض و تعبدهم و تطيعهم بلا حدود. كان هؤلاء العملاء من السود خونة للحرية، و كانوا جواسيس للحكومة العنصرية، و كانوا رصاصًا في قلوب شعبهم لصالح الأجانب، و لكأن “الرصافي” عاش تلك السنوات في جنوب إفريقيا ليقول:

عبيد للأجانب و هم دومًا    على أبناء جلدتهم أسود

المتغربون و السماسرة الوسطاء

فقد كان العنصريون البيض يجدون طبقة متغرّبة من السود –يسمونها متعلمة- تافهة الشخصية تابعة للبيض، يحاربون بها الشعب الأسود نفسه، و قد كانت هذه الطبقة حذاء تسعى عليها الطبقة العنصرية لتحقيق مصالحها و خدمتها، أو وقاء للبيض، تقيهم من حراب الأفارقة، و يقع فيها الضرب و يتقي بها السيد الأبيض الأيدي المضرجة بالدم التي تطرق باب الحرية، و لكن أهل البلاد أدمنوا طرق باب الحرية حتى نالوها.

يقوم هؤلاء المتغربون -”طبقة الوسطاء” بين السود و البيض- بجمع السود في مصانع البيض و ترتيب عملهم و الإشراف على إخلاصهم، و بذل كل جهدهم للسيد الأبيض، منهم من يشرف على قومه العمال، و عملهم من قبل الفجر إلى الليل في مناجم الذهب و المصانع و أعمال البناء و تربية الحيوانات و المزارع، ينتجون الملايين للمستغل الأبيض، و يقنعون ببعض جنيهات في نهاية الشهور السود تحت أطباق الأرض، لا تكاد تكفي هذه المبالغ الزهيدة لطعامهم و مسكنهم غير الإنساني في مساكن المصانع و المزارع و أحياء الفقر حيث تقل كثيرًا عن غرف كلاب السادة البيض.

أما السماسرة الوسطاء فهم قيادات محلية يصنعها البيض -قساوسة و كتاب و موظفون- و يعطونها بعض المزايا عن الشعب، و يدفعون لهم أكثر ليستمروا في إخضاع جنسهم للمحتلين العنصريين المستغلين، و هذه الطبقة كانت رأس الحربة في قلب الشعب، و هي الأخطر في وجه “مانديلا” و المؤتمر الإفريقي، و هي التي كانت حاجزًا دون أن يتصل بالشعب و يبلغه رسالته و يلهمه حريته و كرامته، هذه الطبقة من الشعب الإفريقي جمعت اللؤم و الدناءة من الشعبين، و باعت كرامتها و حريتها للأفريكانوا، في البداية عن جهل و سذاجة، و شهوة للميزات المادية، و فيما بعد عن عمالة و لؤم و تنكر لإنسانيتها و عن آلية حيوانية و انعدام للإنسانية و الخلق في سلوكها “و من يهن يسهل الهوان عليه”[3]. كانت هذه الطبقة ترى إخوانها و أخواتها و شعبها يذل و يمتهن بها و هي لا تدري و لا تحسب لما تفعل حسابا، بل بعضهم يقول: “إنني أقوم بما يمليه علي عملي و واجبي” !!!

بل يجرؤ بعضهم ويقول: “بما يمليه عليه عقلي و وطنيتي”!!! و مهما وضعت من علامات التعجب فإنها لا تغني شيئًا تجاه هذا الموقف من شخص يتوقع أنه بقي له عمل و واجب و عقل و وطنية، و هو يرى قادة المؤتمر في السجن غذاؤهم الجوع أو حساء الذرة البارد و المتعفن، و لما طالبوا بالخبز قال لهم السجانون في صفاقة: ” الخبز ضار بالإنسان “! هكذا قالوا لـ”مانديلا” و رفاقه. لم لا يضر الخبز بالإنسان؟ و الحرية أضر بنفوس الشعوب من الخبز، فالحيوان يطعم و لا يثور، و لكن الحرية غذاء مدمر لكل نظام مستبد، غير أن المستبد يفقد الكرامة و الإنسانية فيتوقع أن الناس -و فيهم العباقرة و الدهاة -ليسوا بشرا! لأنه بلغ دركات العنصرية، و ظلام الظلم، و انحطاط العقل و العاطفة فتنقلب عنده الأمور، و يرى الكرامة و الطعام الطيب مضرا بالبشر، أو مضرا بغيره هو لأنه هو البشر الوحيد في العالم! هكذا يفكر اليهود و الأفريكانوا و النازيون.

و إذا كان الخبز خطيرًا إلى هذا الحد فكيف بالحرية؟!! إنها قنابل نووية.

و على عكس تلك النوعية الرخيصة من السود يفاجئنا “مانديلا” بذكر قصة المحامي الأبيض “برام منيشر” و هو ابن لرئيس وزارء مستعمرة نهر أورانج، و كان والده رئيس قضاة، كان يدافع عن “مانديلا” و أعضاء المؤتمر، و كان يؤرقه أن الرجال الذين يدافع عنهم يذهبون إلى السجن، بينما يعيش هو حرًا طليقًا‍!‍ و بعد محاكمة “ريفونيا” قرر المحامي الأبيض أن يلحق بالعمل السري مع السود أنصار “مانديلا” ضد أعداء الإنسانية البيض “قومه”، و نصحه “مانديلا” أثناء المحاكمة ألا يفعل ذلك؛ لأنه يخدم المعركة أفضل في قاعة المحكمة، و حتى يرى العالم أفريكانيًا و ابن رئيس قضاة ينافح عن المظلومين، و لكن لشهامته لم يكن ليتحمل رؤية نفسه حرًا و الأبرياء يعانون، فقد كان كالقائد الذي يقاتل جنبًا إلى جنب مع جنوده، لم يرد أن يطلب من الآخرين أن يقدموا تضحية يتورع هو عنها، و التحق بالعمل السري ضد البيض قومه، فقبض عليه ثم أفرج عنه بكفالة، و قبض عليه مرة أخرى و حكم عليه بالسجن مدى الحياة، و لما أصابه السرطان في السجن شنت الصحافة حملة للإفراج عنه، و مات بعد خروجه، و استمرت الحكومة البيضاء في مطاردته حتى بعد وفاته و صادرت رماد جثته بعد حرقها. و هكذا قد يخرج حي الهمة شريف الطباع من منبت السوء و الوحشية أحيانا‍.

و يقول “مانديلا” بعد هذا: “قدم “برام فنيشر” أكبر التضحيات على الإطلاق، فمهما كانت معاناتي في بحثي عن الحرية فقد كنت أستمد القوة من كوني مناضلًا مع و من أجل شعبي، أما “برام” فكان رجلًا حرًا ناضل ضد شعبه، من أجل أن يضمن الحرية للآخرين”[4] إنه رجل شريف يحترم ذوي المواقف و يقدرهم، ألم يقل الرسول -صلى الله عليه و سلم-في أسرى بدر: ” لو كان المطعم بن عدي حيا، ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له”[5]. و قد وقف مع الرسول -صلى الله عليه و سلم- موقفا شهما لم ينسه له رغم كفره بنبوته. و قال “مانديلا” عنه مرة أخرى: “و مع أنه أفريكاني فقد فرض عليه ضميره أن يرفض إرثه الظالم، و نبذ قومه، و أظهر مستوى من الشجاعة و التضحية لا نظير له، فقد كنت أنا أقاتل ضد الظلم و ليس ضد قومي”[6].

دروس “مانديلا” السجن.

الحياة في السجون و الابتلاء سنة رافقت الأحرار في مختلف العصور و في عصرنا خاصة، و قامت ثروة فكرية و تجريبية متشعبة في بقاع الاستعمار العديدة، مما جعل دعاة الحرية و الاستقلال و الدعوة أحيانا يعتبرون المرور بالسجن علامة صدق الداعية و إخلاصة، و إن لم يمر بهذه التجربة فهو ليس في مرتبة هؤلاء.

قال “مانديلا” عن السجن:

“إن حياة المعتقل روتينية تتماثل فيها الأيام حتى تختلط الأشهر و السنوات ، و إن أي شيء يخرج عن القالب يقلق السلطات؛ لأن الروتين علامة من علامات حسن الإدارة في السجن. و قد كان امتلاك الساعات أو حملها من أي نوع ممنوعا، و كنا نعتمد على الأجراس و صفارات السجانين و صيحاتهم لمعرفة الوقت، و كان من بين أوائل ما فعلته هو أن أسجل تقويمًا على الحائط، لأن الإنسان إذا فقد قبضته على الوقت، فقد قبضته على سلامة عقله.

إن التحدي الذي يواجه كل سجين -خاصة السجين السياسي- هو المحافظة على ذاته في السجن، و أن يخرج من السجن دون أن يتضاءل، و أن يحتفظ بل و يزيد من عقائده، و أول مهمة لتحقيق ذلك هو أن يتعلم المرء كيف يبقى، و لكي يتحقق ذلك فلا بد للمرء أن يعرف هدف عدوه، فإن السجن يهدف إلى هزيمة معنويات الإنسان، و تقويض عزمه، و لكي يتحقق ذلك تحاول السلطات استغلال كل ضعف و تحطيم كل دافع، و أن تبطل ما يدل على التفرد، و ذلك لكي تقضي على تلك الومضة التي تضفي على كل آدمي هويته.

و كان بقاؤنا يعتمد على فهم ما تحاول السلطة أن تفعله و تشارك ذلك الفهم كان من المستحيل أن يقاوم الفرد منفردًا، و كان خطأ السلطة الأكبر هو إبقاؤنا معًا؛ لأن ذلك قوى تصميمنا، و هكذا عاون الأقوياء من هم أقل قوة و صرنا جميعًا أقوياء، و في النهاية كان علينا أن نصنع طريقة حياتنا داخل المعتقل، و كما اعترفت بذلك السلطات فقد كنا نحافظ نحن على النظام أكثر من السجانين”[7].

و يقول في مكان آخر: ” إن المعتقل لا يأخذ من الإنسان فقط حريته، و لكن أيضًا يحاول أن يحرمه من هويته، فإن الجميع يرتدون نفس الملابس، و يأكلون نفس الطعام، و يتبعون نفس برنامج الحياة اليومي، و إن الدولة المتسلطة فقط هي التي لا تسمح باستقلال الإنسان و تفرده”[8].

 من أفكاره و مواقفه

في المحكمة قال مرة: إن شعبه الأسود كان قبل قدوم البيض يعيش في سلام و أمن و ديمقراطية قبلية، بلا ملكيات واسعة و لا استغلال للإنسان، و كان الشعب بلا طبقات كلهم سواسية، و كان ذلك دستور القبائل و مجالها، و ذلك التاريخ و الحرية هو الذي يلهمه موقفه الآن.

و قال: “إن حياتي في الخفاء أصعب من حياتي المحتملة في السجن في الهم، و إن تحدينا كان بسبب أعمال و مواقف الحكومة، و إن آخرين قبلي قد دفعوا ثمن معتقداتهم و آخرين أكثر سيدفعونه بعدي” ثم ختم قائلًا: “إن الشيء الوحيد الذي هو أقوى من كراهيتي للظروف البشعة التي سأخضع لها في المعتقل هو كراهيتي للظروف البشعة التي يخضع لها مواطني خارج السجون في عموم البلاد، و بعد انتهاء مدة الحكم علي فسأواصل المعركة لإنهاء تلك المظالم حتى تختفي إلى الأبد”[9] و قد عمل إلى أن أخفاها إلى الأبد.

و كان يرى أن النظام الظالم لا يمكن إصلاحه و لكن يجب التخلص منه.

و قال مرة في زمن المفاوضات معه: “إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها”[10].

 التفاؤل و الأمل 

يقول: “كنت حينذاك مهمشا، و لكنني كنت أعلم أنني لن أتخلى عن المعركة، كنت في بيئة مختلفة و صغيرة حيث الجمهور هو أنفسنا و سجانونا، و لكنا نظرنا للمعركة داخل المعتقل كميدان مصغر للمعركة ككل، فقد كانت هناك – في السجن – نفس العنصرية، و نفس الاضطهاد -كالتي في خارج السجن-، و لم يدر في خلدي قط أنني لن أخرج من السجن يومًا من الأيام، و كنت أعلم أنه سيجيء اليوم الذي أسير فيه رجلًا حرًا تحت أشعة الشمس و العشب تحت قدمي، فإنني أصلًا إنسان متفائل، و جزء من هذا التفاؤل أن يبقي الإنسان جزءا من رأسه في اتجاه الشمس، و أن يحرك قدميه إلى الأمام. و كانت هناك لحظات عديدة مظلمة اختبرت فيها ثقتي بالإنسان بقوة، و لكنني لم أترك نفسي لليأس أبدًا. فقد كان ذلك يعني الهزيمة و الموت”[11].

و يعترف في مكان آخر أنه أصيب بمرض يجعل عقله ينقله إلى لحظات فرح و حزن غامرين، و يخيل له في تلك الأحوال مرة أنه أطلق و أنه يسير في الشوارع و البيوت التي أحبها، و يخيل له أيضًا أنه يدخل منازل أشباح!

و لم ييأس “مانديلا” و صحبه، فقد كان زعيم المؤتمر المطارد “أوليفر” و أتباعه يجوبون العالم كله يشرحون للناس عنصرية جنوب إفريقيا و شرها المدمر للإنسانية، و كانت صور “مانديلا” في كل مكان مع طلب بالإفراج عنه، وحينما كنت أدرس في معهد اللغة بالجامعة في (آن آربر) و أرى اللوحات بأيدي الطلاب و على الشوارع و مواقف الحافلات لم أكن أفهم وقتها معنى تلك الصور، و لا لمن هي، و بعد زمن و أسئلة عرفت عن وجود ناشطين في الجامعة يطالبون بحرية محام أسود معتقل في جنوب إفريقيا، و يتعاطفون معه ضد الحكومة العنصرية. نعم كانت هناك دول تتعاطف مع المؤتمر و السود، و لكن السود في جنوب إفريقيا لو لم يحرصوا على حريتهم و إنهاء التمييز ضدهم في بلادهم لما أهداها لهم العالم الخارجي، و لو لم يموتوا في سبيل حريتهم و يهتموا بحقهم لما سمع عنهم أحد أو لو سمع لأسكت بالذهب الأفريقي الأحمر الذي استخلص بعرق السكان الأصليين، و لكن العزيمة القوية و الصبر و الاستمرار و الإعلام المهيج، و كثير من عشاق الحرية في العالم وقفوا إلى جانبهم و سخروا الإعلام العالمي لمصلحتهم، حتى أصبحت الأخبار التي تنتشر ترهب السجانين أنفسهم و ليس الشعب المسجون، و من أمثلة التهويل الإعلامي من مناصريهم لصالحهم الذي مارسه نشطاء و أنصار الحرية في العالم ما ذكره “مانديلا”؛

قال: “إنه شكى مرة لزوجته “وندي” إن الحذاء الذي تسلمته أصغر من حجم قدمي، ثم سمعت بعد ذلك أن التقارير قالت: إنه ستجرى لي عملية لبتر إصبع قدمي، و جاءت محامية لرؤية قدمي لتجدها سليمة، و حدث أن شكونا من رطوبة الغرف، و نشرت الصحف أن زنزاناتنا قد أغرقتها المياه”[12]. و قد واجهت حكومة الإفريكانوا الهجين هذه الضجة الإعلامية بتعتيم كامل على قضية “مانديلا” و صحبه، يحاصرون أخباره و يمنعون نشرها و يبعدون ذكره بكل طريقة، و يحاولن -على طريقة المستبدين الأقزام- إشغال الناس بسماع أخبار منجزاتهم و ذكر أسمائهم هم، و قد بقي كلامه محرمًا في بلده على قومه لمدة عشرين عامًا.[13] و لكنهم في النهاية ينفقون أموال الدعائية ضد حرية الشعوب ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون، و يخرجون أو يستسلمون للسلطة الجديدة.

و مع هذا فقد كانت حملة المؤتمر الإفريقي لمناصرة “مانديلا” و صحبه كبيرة متنوعة شملت بقاع العالم الواسعة، و عمل المؤتمر على أن يحصل “مانديلا” على جائزة نهرو في الهند، و حضر “أوليفر” رئيس الحزب لتسلمها نيابة عنه. و لم يفت السجن في همته رغم قسوته، و ربما ساعده على ذلك كثرة عدد المعتقلين، و عالمية الدفاع و وضوح القضية، و التصميم على مكافحة العبودية، يقول لهم مرة:

“إذا خرجت من السجن في نفس الظروف التي اعتقلت فيها فإنني سأقوم بنفس الممارسات التي سجنت من أجلها”[14].

أما العنف: فليس العنف دائما خيارا منبوذا عنده، بل يقول: “إن خمسين عاما من عدم العنف من جانب المؤتمر لم ينتج عنها سوى القوانين الظالمة و الاستغلال و الاضطهاد للأفارقة، و هكذا بدت السياسة التي تهدف إلى إقامة الدولة غير العنصرية عن طريق عدم العنف غير مجدية”[15] فقد أجبرتهم غطرسة المحتلين العنصريين على المواجهة بوسائل أخرى.

ثم يتواضع و يتفلسف متحدثا عن علاقته التي انتهت مع زوجته إلى الطلاق: “لكني مقتنع أن حياة زوجتي أثناء وجودي في السجن كانت أصعب من حياتي، و كانت عودتي أكثر صعوبة بالنسبة لها، فقد تزوجت رجلا سرعان ما تركها و صار ذلك الرجل أسطورة، و عند عودة الأسطورة إلى المنزل ظهر أنه مجرد رجل”[16]. و هنا لمسة تواضع جميلة، فقد قل عنده الغرور الذي يركب من كان له أقل من إنجازه.

المعتقدات الراسخة

ساق الكتاب بلا تهويل -كالذي حدث في بعض الكتب التي تصف ملامح السجون العنصرية- أنواعا من العذاب الدائم و التصميم المستمر عنده وعند صحبه على المواجهة و التعلم و التطور ترقية القدرات العلمية و العقلية، و قد حصل على شهادة جامعية في السجن. يقول: “أما جسم الإنسان فيتكيف مع أي ظروف قاسية، كما أن المعتقدات الراسخة هي سر البقاء في ظروف الحرمان”[17].

و يقارن هذا بما ورد عند “فرانكل”: “إن السجين الذي فقد ثقته في مستقبله و في المستقبل عامة يكون قد حكم على نفسه بالفناء، و هو مع فقدانه للثقة في المستقبل يفقد تماسكه المعنوي، و يكون بذلك قد ترك نفسه للتدهور، و أصبح عرضة للانهيار العقلي و الجسمي”[18].

إن أمانة الكلمة و الموقف، و صحة التوجه و القصد تلزم الشرفاء المخلصين و زعماء الأمة و دعاة الحق أن ينادوا بحرية الأمة و زرع أخلاق العزة و الاستقلال و كرامة الأنفس و الحرمات و الأعراض و البيوت من أن تكون نهبا مستباحا، فلم يستبح الغزاة دول و أقطار المغلوبين و حرماتهم و أعراضهم و ثروتهم و حدودهم إلا لأنهم قد قبلوا قبل ذلك بمستبيح مستبد صغير لا يرعى لهم حرمة، و لا يقدر لهم قدرا و لا دينا؛ و لأنهم سكتوا عن طلب العدل و الحرية و المساواة، فلم يعرفوها و لن يروها و لن يذوقوها حتى يدفعوا ثمنها و يلتزموا طريقها.




[1] نشر المقال كعرض لكتاب مانديلا في عام 1995، وهو فصل من كتاب: “مسؤلية المثقف”.

[2] الطبعة التي نقلت عنها النصوص هنا هي طبعة دار الهلال 1995، ترجمة: د. فاطمة نصر.

[3] من قول المتنبي.

[4] ص 257

[5] صحيح البخاري  – كتاب فرض الخمس  باب ما من النبي صلى الله عليه وسلم على الأسارى

[6] 209-210

[7] ص 210

[8] ص 180

[9] 177

[10] 287

[11] 211

[12] ص 283

[13] ص 287

[14] ص287

[15] ص 195

[16] ص 347

[17] ص 226

[18] ص 105

الرابط:

http://alahmari.org/?p=359

 
قراءة 2184 مرات آخر تعديل على الثلاثاء, 21 تموز/يوليو 2015 16:34

أضف تعليق


كود امني
تحديث