أعرف الشعب السوري معرفة لصيقة، و قد عشت في سوريا زمنًا غير يسير، و كانت دمشق هي قبلتي المفضلة في العالم العربيِّ كله؛ أجد فيها الدفء و العلم و الوقار؛ و لو قيل لي حينها: "إنها ستصبح يوما ما مثل ما هي عليه اليومَ من فتن هوجاء خرقاء"، لأجبت القائل بصوت حادِّ: "إنك لمجنون".
اليوم، و نحن نشاهد ما يلمُّ بها من فتن مثل السرطان فتكا، ليس فيها جهة تقاتل أخرى، و لكن الكلَّ يقاتل الكلَّ، و قد تفتت المعارضة إلى ألف فصيل و فصيل، و صار الإنسان السوريُّ الطيب الهادئ الذي عرفناه (امرأةً، و رجلا، و طفلا)... صار ضحية بين فكَّي رحى، إن أخطأته هذه الرصاصة لحقته تلك القنبلة، وإ ن نجا من التشريد وقع في قبَّاضة الجوع... حقا إنها "فتن كقطع الليل المظلم".
الآن، و نحن نعاين و نعايش الحال في بلادنا، يحقُّ لنا أن نتساءل:
و كيف آلت الأمور في الأخت سورية إلى هذه المرحلة الخطيرة بين عشية و ضحاها؟
و هل نحن في مأمن من ذلك؟
الجواب بسيط و واضح:
و هو أنَّ النار حين تتحوَّل إلى لعبة بيد الصغار؛
و أنَّ الظلم حين يصير حلوى تلعقه الأطفال؛
و حين تُستباح الحرمات بمختلف المسمَّيات؛
و حين تتحوَّل الأعراض إلى كلأ مباح؛
و حين ينسى الناسُ مبادئهم و قيمهم و دينهم و تاريخهم؛
و حين نصرُّ على أن نخرق في جوف السفينة خروقا لنشرب الماء؛
و حين يصدِّق الناس كلَّ كذَّاب غشيم، و يصفِّقون لكل أفاك أثيم؛
و حين لا تنفعنا صلاتنا و لا تنهانا عن الفحشاء و المنكر في أمرِ الفتنة...
... حينها فقط، ستبدأ النار بقدح زنادٍ، ثم تصير شعلة صغيرة، ثم تكبر و تكبر و تكبر... يوما بعد يوم... إلى أن تصير لهيبا و جحيما و خطرا مُبينا... ثم لا يحسُّ الناس إلاَّ و قد غمرتهم ألسنتها الحارقة من كلّْ جانب؛ فيستحيل بعدها أن ينجو أحد، أو يكون منتصرا؛ فالكلُّ يومها سيكون خسران ندمان: السفينة و السفين، المكان و المكين، الفاعل و المفعول، الآمر و المأمور... و هذا مؤدَّى المثل العربي السائر: و معظم النار من مستصغر الشرر.
و إني لأحسب أنَّ العقلاء في بلدنا الطيِّب كُثرٌ، و أنهم قريبا ــ بحول الله تعالى ــ سيُعملون ضمائرهم و أخلاقهم لإحقاق الحقِّ، و إبطال الباطل، و نشر قيم الصلح و المصلحة، و نبذ معاني الجهل و الجهالة؛ و أنَّ بلدنا لن يكون سورية، و لا العراق... و إنما سيكون بابا للفرج عن أخواتنا العزيزات كلها (ابتداء من العراق ثم سورية)، و أنَّ العالم بحول الله سوف يتعلم قيم التسامح و الإنصاف من محنتنا هذه....
فهل سيصدق حدسي؟ و هل سنستعجل في نزع فتيل اللهيب من أيدي المتلاعبين؟ و هل سنُغيض بحكمتنا و حلمنا جميع الشانئين الحاقدين؟
ذلك ما نبغي، و ذلك ظنُّنا فيك أيها البلد الكريم، و نصيحتي لك و لي و لنا جميعا التأسي بقول ربنا في محكم التنزيل: "و لا تستوي الحسنة و لا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم، و ما يلقاها إلى الذين صبروا، و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم".
المصدر:
http://www.veecos.net/portal/index.php?option=com_content&view=article&id=10458:2014-01-14-17-57-55&catid=27:others&Itemid=17