قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 15 تشرين1/أكتوير 2014 12:24

قرن على الحرب الكبرى الأولى: علاقة الغرب بإلغاء الخلافة الإسلامية 2/2

كتبه  الأستاذ محمد شعبان صوان
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الصمود العثماني الأخير وعلاقته بإنهاء الخلافة

و لكن بقاء الكيان العثماني الموحد حمل في طياته خطر عودة الروح إلى هذا المجال الهائل، فبريطانيا لم تغفل يوماً عن خطر السيادة الدينية للخليفة العثماني على ملايين المسلمين الذين يحكمهم الاستعمار البريطاني، و لكنها أجلت مواجهة هذا الخطر لتواجه خطر سقوط الدولة العثمانية و ما سيعقبه من فوضى دموية بين الذئاب الأوروبية في المنافسة على اقتسام التركة،[49] و بعدما تغيرت الظروف باندلاع الحرب الكبرى و اللجوء إلى القوة العسكرية لحل الخلافات الأوروبية بين الأعداء و الاتفاقيات و المساومات السرية مع القوة العسكرية لحل الخلافات بين الحلفاء أولاً، و انضمام روسيا إلى الحلفاء ثانياً ثم قيام الثورة البلشفية التي أسقطت الحكم القيصري و تدخل الغرب عسكرياً لإسقاطها ثالثاً، لم يعد الخطر الروسي هو المحرك لفكرة التخلي عن بقاء الدولة العثمانية، و استجد مكانه الخطر الألماني الذي لاحظ لورنس العرب و غيره أنه نقل فاعلية الخطر العثماني إلى مستوى أكبر مما سبق[50] كما سيأتي في رسائله السرية، و لكن العثمانيين لم يكونوا مجرد أدوات بأيدي الألمان و كان لهم جدولهم و مصالحهم الخاصة،[51] و قد أفصحت نتائج الحرب عن إدراك الحلفاء ذلك إذ لم ينل الخطر الألماني من التصدي و المواجهة ما نالته الدولة العثمانية، و عن مكانة العثمانيين في هذه الحرب تقول الدكتورة تهاني عبد الرحمن: ’’ و لم تكن الدولة العثمانية في ذلك الوقت تقع في مصاف الدول الصغرى، رغم كل ما فقدته في فترات ضعفها و اضمحلالها، من ولايات تابعة، بل كانت تُعد دولة كبرى، و من ثم حرصت ألمانيا على جرها للصراع الدائر فوق أرض القارة الأوروبية’’،[52] و رغم تردد دول الوسط في ضم العثمانيين في البداية و خشيتها من تحولهم إلى عبء عليها فقد أثبت الجيش العثماني فعالية لم يتوقعها أحد،[53] و في ذلك يقول المؤرخ بيتر مانسفيلد ’’عندما اندلعت الحرب، و رغم عدم شك معارضي تركيا ببسالة و إقدام و شجاعة الجنود الأتراك في الحروب، فإنهم فوجئوا بأدائهم المتطور و ازدياد معارفهم في فنون القتال كما أن جاهزيتهم العالية في خوض الحروب الحديثة فاقت التوقعات،[54] و ستفصح الوثائق الغربية عن حقيقة النوايا تجاه الخطر الإسلامي، و بعد إلغاء الخلافة العثمانية نفسها و محاولة إحياء الخلافة العربية سنجد استمرار المعارضة الغربية لهذا المشروع الذي رعته دول أوروبا بأنفسها في البداية.

* علاقة الغرب بإلغاء الخلافة الإسلامية

1- وثائق دامغة

لما بدأت الحرب الكبرى الأولى (1914) أصبح القضاء على الدولة العثمانية هدفاً متداولاً و معلناً بين الحلفاء كما صرحت بذلك الصحف البريطانية فور الدخول العثماني في الحرب، فما ’’أن بدأت الأعمال العسكرية ضد تركيا، في 5 تشرين الثاني، سنة 1914، حتى شرعت الصحافة البريطانية بإيضاح ما سيحل بتركيا، و ما عسى أن يكون مصيرها، ففي يوم 23 تشرين الثاني كتبت جريدة الدايلي مايل (Daily Mail) تقول: ’’لسنا نشك في أن الامبراطورية العثمانية على الأرض الأوروبية التي أنشأها الأتراك بحد السيف، سيُقضى عليها بحد السيف’’، و في 31 تشرين الثاني كتبت جريدة الدايلي نيوز (Daily News) تقول: ’’إذا خسرت ألمانيا الحرب فإن عقاب تركيا لدخولها الحرب إلى جانب ألمانيا سيكون القضاء التام عليها كدولة’’، و بما أن هدف بريطانيا كان القضاء على تركيا قضاء مبرماً، فإنها وجدت نفسها عالقة في ديبلوماسية شائكة معقدة’’.[55]

بل إننا نجد قبل بداية الحرب الكبرى ما يشير إلى نوايا التقسيم و التجزئة منذ سنة 1912عند اللورد كتشنر القائد الأعلى للقوات المسلحة في مصر و سفاح السودان ثم المعتمد البريطاني في مصر ثم وزير الدفاع البريطاني، إذ تبين أنه كان أثناء وجوده في مصر راسخ الاعتقاد بأن سوريا الجنوبية من خليج العقبة إلى حيفا و عكا تؤلف ’’منطقة ذات مغنم لا يستغنى عنها بالنسبة إلى الإمبراطورية البريطانية’’ و ذلك بعد دراسة عسكرية لصحراء سيناء أمر بإجرائها سنة 1913.[56]

و قد صرحت الدوائر الرسمية للحلفاء بعد اندلاع الحرب بهذا الهدف كما كشف عن ذلك ’’بيان عن السياسة الخارجية مرفوع إلى المجلس الحربي الملكي’’ الذي قام اللورد بلفور وزير الخارجية البريطاني و صاحب الوعد المشئوم و رئيس البعثة البريطانية الخاصة الذي كان في زيارة للولايات المتحدة بتسليم نسخة منه إلى وزير الدولة الأمريكي و جاء في هذا البيان الصادر في سنة 1917: ’’لاشك أن القضاء على الامبراطورية العثمانية قضاء تاماً هو من أهدافنا التي نريد تحقيقها، و قد يظل الشعب التركي، و نأمل أن يظل، مستقلاً أو شبه مستقل في آسيا الصغرى، فإذا نجحنا فلا شك أن تركيا ستفقد كل الأجزاء التي نطلق عليها عادة اسم الجزيرة العربية (Arabia) و ستفقد كذلك أهم المناطق في وادي الفرات و دجلة، كما أنها ستفقد استانبول، أما سوريا و أرمينيا و الأقسام الجنوبية من آسيا الصغرى فإنها، إن لم تضم إلى الحلفاء، فمن المرجح أنها ستبقى ضمن حكمها’’،[57] هذا بالإضافة إلى وثائق كتبها لورنس العرب أثناء الثورة العربية.

ففي تقرير كتبه لورنس في يناير/ كانون الثاني/ جانفي 1916 تحت عنوان سياسات مكة قال: ’’إن تحرك (الشريف حسين) يبدو مفيداً لنا، لأنه ينسجم مع أهدافنا المباشرة: تحطيم الجبهة الإسلامية الموحدة و هزيمة و تمزيق الامبراطورية العثمانية، و لأن الدول التي سيقيمها (الشريف) خلفاً لتركيا ستكون غير ضارة بنا كما كانت تركيا قبل أن تصبح أداة في أيدي الألمان. إن العرب أقل توازناً من الأتراك، و إذا عولج أمرهم بشكل مناسب فإنهم سيظلون في حالة من الشرذمة السياسية، نسيج من الإمارات الصغيرة المتحاسدة غير القابلة للتوحد، و مع ذلك يمكنها الاجتماع في مواجهة أية قوة خارجية’’،[58] و هذا الاجتماع الذي يقلق لورنس و رؤساءه هو ما يعمل الغرب جاهداً لمنعه منذ تلك الأيام.

و يختم تقريره قائلا إن الشريف حسيناً ’’يفكر يوماً بالحلول محل السلطة التركية في الحجاز، و لو تمكنا من ترتيب هذا التغير السياسي ليكون بالعنف، سنقضي على خطر الإسلام بجعله ينقسم على نفسه في عقر داره، و سيكون هناك خليفة في تركيا و خليفة في الجزيرة العربية في حالة حرب دينية، و سيصبح عجز الإسلام كما كان عجز البابوية عندما كان الباباوات في أفنيون’’[59] (و هي فترة تراجعت فيها هيمنة البابوية و سميت الأسر البابلي للكنيسة 1309- 1377 تشبيها بأسر بني إسرائيل على أيدي البابليين في القرن السادس ق. م، و قد أعقبها انقسام وصف بالعظيم نتيجة وجود بابا في روما و آخر في أفنيون 1378- 1417).

و في تقرير حمل عنوان’’لو تم احتلال سوريا’’ و كتبه لورنس سنة 1916 أيضاً لاقتراح حل للمشكلة التي يسببها إعلان الخليفة العثماني الجهاد ضد الحلفاء الذين يحتلون بلاداً يقطنها ملايين المسلمين، قال لورنس: ’’مهما نتج عن هذه الحرب، فإنها يجب أن تقضي تماماً و نهائياً على السيادة الدينية للسلطان’’.[60]

2- اختلاف مصير الدولة العثمانية عن مصير ألمانيا بعد الحرب

و كان المصير الذي تعرضت له الدولة العثمانية التي ساحت جيوش المحتلين في أراضيها يختلف عما نال ألمانيا التي لم تحطم في نهاية الحرب، و هذا ما صرحت به الصحافة البريطانية منذ بداية الحرب كما سبق، و لم تخف هذه المفارقة عن ملاحظة المؤرخين: ’’إن الامبراطورية العثمانية لم (تنهار). هذا تعبير شديد السلبية. لقد مزقوها إرباً مثلما تخلع مفاصل الدجاجة قبل الأكل، حتى ألمانيا نفسها لم تتكبد تقطيع الأوصال و انتزاع الأحشاء ’’كما يقول المؤرخ جيرمي سولت.[61]

و قد لاحظ المؤرخ فيليب كورتن نفس الملاحظة حين قال إن الحلفاء وضعوا أثناء الحرب خططاً متنوعة لتقسيم تركيا (الدولة العثمانية)، و كان هناك تفكير مسيطر وراء العهود المحددة التي أطلقتها الطبقة السياسية في بريطانيا، و فرنسا و إيطاليا يتمثل بعدم عد الدولة العثمانية دولة مهزومة و عدواً متحضراً مثل ألمانيا، بل كدولة يجب أن تعامل كما عوملت ممالك أخرى غير غربية أثناء العهود الاستعمارية الكبرى، و كانت غايتهم تجزئة الإمبراطورية العثمانية و تقسيم الباقي إلى مناطق نفوذ مما أعطى فرنسا و بريطانيا و إيطاليا على التوالي سلطات واسعة في الإمبراطورية العثمانية السابقة و على ما تبقى منها.[62]

و قد شاركت الولايات المتحدة أوروبا في كراهية العثمانيين بشكل خاص، و في ذلك يقول المؤرخ أورين إن الرئيس الأمريكي وودرو ويلسن عندما حضر إلى مؤتمر السلام في باريس سنة 1919 كان يحمل قيمه و مثله و أفكاره المسبقة كذلك، فقد ’’كان يحتقر كل أشكال الاستعمار الأوروبي، و منها الاستعمار البريطاني (و نسي استعمار القارة الأمريكية الذي كان قد اكتمل قبل سنوات قليلة)، و أظهر نفوراً خاصاً للأتراك، و منذ 1889 كان يصف الإمبراطورية العثمانية بأنها غير طبيعية و مثال متأخر على الأشكال غير المتقنة للسياسة التي نمت عليها أوروبا’’، و يقر المؤرخ نفسه أن الرئيس كان ’’لا يعرف عن جغرافية المنطقة و ثقافتها و تقاليدها أكثر مما قرأ في الإنجيل’’.[63]

و كان التقارب الحضاري بين ألمانيا و بريطانيا و الولايات المتحدة مما دفع المنتصرين لتشخيص مصالحهم في بقاء القوة الألمانية و عدم الموافقة على تحطيمها لتظل عامل حفظ للتوازن الأوروبي تجاه فرنسا و للوقوف في وجه المد الشيوعي،[64] كل هذا يختلف عن حالة العداء الحضاري تجاه العثمانيين الذين كان القضاء عليهم قضاء مبرماً هو المصلحة الغربية، و مع ذلك لم تعجب الالمان سياسة الإملاء للحفاظ عليهم على مقاس المصالح المنتصرة و أدت شروط الصلح القاسية إلى اندلاع الحرب الكبرى الثانية في الوقت الذي كان الإجهاز على وحدتنا دافعاً لنا للتلاؤم مع المصالح الغربية و الانسجام معها إلى حد أداء الخدمات لها.

* عمر التآمر طويل و سياسة فرّق تسد

إن الضربات المتلاحقة التي وجهت للدولة العثمانية تثبت النوايا الغربية بشكل يلغي الحاجة إلى إثبات أن بريطانيا اشترطت إلغاء منصب الخلافة الإسلامية على الجانب التركي في مؤتمر لوزان سنة 1923، لأن الموقف الغربي عموماً و البريطاني خصوصاً لم يقتصر على لحظة واحدة فقط من التآمر السري على منصب أصبح هزيلاً و شبيهاً بوزارة أوقاف في ظل إعلان قيام الجمهورية التركية، بل كان عداء علنياً لفكرة الخلافة نفسها حتى مع وجود مصلحة في بقائها ضد التوسع الروسي، و قد اتضح ذلك من سياسة الدول الغربية تجاه إضعافها و نهش أطرافها لمدة تزيد على قرن من الزمان أثبتت فيها الحوادث و الحروب الكبرى حقيقة النوايا التي اختلفت فيما بينها فقط على طريقة اقتسام الغنائم، التي هي بلادنا، و لم تختلف على فكرة التقسيم ذاتها، و كان هذا هو محتوى ’’المسألة الشرقية’’التي تريد حلاً، أو كما قال مراقب أكاديمي أمريكي عاصر الحرب الكبرى الأولى و كتب في سنة 1917 أن ’’الأمم الأوروبية منذ بداية القرن التاسع عشر اجتمعت كالصقور حول الجثة لاقتطاع ما يمكنها من الامبراطورية التركية’’،[65] فكان احتلال الجزائر (1830) ضمن هذا الإطار و تبعه احتلال عدن (1839) ثم قبرص و البوسنة و الهرسك (1878) ثم احتلال تونس (1881) ثم جاء احتلال مصر (1882) ليكون ضربة قاصمة للعثمانيين، ثم جاء احتلال ليبيا (1911) و تبعه مباشرة حربا البلقان (1912- 1913) و التي سلخت جميعها أجزاء كبرى من الدولة بعد قرن من إثارة صربيا (1817) ثم اليونان (1821- 1830) ثم بلغاريا (1878).

و يلاحظ المؤرخ جستن مكارثي أن الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر كانت مطوقة بخصوم أقوياء لم يتيحوا لها ’’فسحة للتنفس’’ لترتيب بيتها الداخلي ببناء دولة حديثة و جيش قوي و اقتصاد صناعي، و اضطروها لخوض حروب متتالية في الأعوام التالية كالحرب مع روسيا (1806- 1812) و الحرب الثانية مع روسيا أيضاً (1828- 1829) و الحرب مع محمد علي باشا التي أججتها أوروبا و منعت التفاهم بين طرفيها[66] (1832- 1833) و(1839- 1840) و حرب القرم مع روسيا (1853- 1856) و الحرب الرابعة مع روسيا كذلك (1877- 1878) و الحرب مع اليونان (1897) و حروب البلقان (1911- 1913) و الحرب الكبرى الأولى (1914- 1918) و حرب الاستقلال (1919- 1923)، إضافة إلى حوادث العصيان المسلح الكبرى في مصر عام (1804) و الانتفاضة الصربية (1815- 1817) و الثورة اليونانية (1821- 1830) و الثورة في جزيرة كريت (1866- 1868) و الثورة في بلغاريا (1875) و (1876) و التمرد الأرمني (1896- 1897)، و هلكت الجيوش العثمانية التي كانت في طور التدريب و أُجبرت على خوض الحروب و هي غير مهيأة، و أُنفقت الموارد المالية الازمة للتحديث على هزائم أدت إلى خسارة الأرض و الدخل، فكان الضعف هو سبب خسائر العثمانيين التي أبقتهم أضعف من القدرة على النهوض.[67]

و كانت الاتفاقيات السرية التي قسمت المشرق العربي و بقية الأراضي العثمانية و التي جرت أثناء الحرب الكبرى جهداً واضحاً موجهاً لإنهاء الدولة العثمانية (مثل اتفاقيات سايكس- بيكو و لندن و الآستانة و غيرها) و تندرج الثورة العربية برعاية بريطانيا (1916) ثم وعد بلفور (1917) ضمن محاولات تحطيمها و تقسيمها أيضاً، و لهذا كانت النهاية المنطقية لكل هذه الجهود السابقة هي القضاء الفعلي على الدولة العثمانية بعد فقدانها مساحاتها الممتدة، و لم يكن انهيارها وليد لحظة تآمر نظري في مؤتمر لوزان، و قد كان إنهاؤها من أبرز ’’إنجازات’’ الحرب الكبرى كما صرح بذلك ساسة و مؤرخون من أوروبا و أمريكا،[68] و يؤكد مصير الشرق العربي بعد الحرب حين اتفقت أوروبا على اقتسام بلادنا وفق اتفاقات التجزئة آنفة الذكر و نكثت بوعود التحرر التي بذلتها للعرب أن عداءها ليس مع كيان سياسي محدد، كما ادعت كذباً لتغوي العرب، بقدر ما هو عداء مع أي وحدة شاملة تلم شعث بلادنا كما أثبتت الأحداث لاسيما برفض الاعتراف بالخلافة العربية التي طالما رعى الغربيون الدعوة إليها، و في هذا السياق قال ونستون تشرتشل عندما كان وزيراً للمستعمرات سنة 1920 تعليقاً على محاولات التعاون العربي مع الأتراك مرة ثانية لمواجهة غدر الحلفاء، تلك المحاولات التي أقلقت بريطانيا فقال الوزير البريطاني: ’’هنالك جماعة من العرب تبدي تخوفاً من احتلال (الفرنسيين) سوريا، و هي تميل الآن، ول أول مرة، لضم صفوفها، بطرق مختلفة، إلى الأتراك الوطنيين على أن قضيتهم واحدة مشتركة، و هكذا تتم وحدة بين قوتين كنا نفيد دوماً من انقسامهما لا من وحدتهما’’،[69] و هكذا أسفر البريطانيون عن حقيقة نواياهم بأنها مجرد الإفادة من الانقسام العربي التركي و ليس تحقيق أماني العرب و لهذا احتلوا بلادهم غنيمة بينهم و بين الفرنسيين و لم يحققوا لهم آمالهم، و هذه هي النتيجة المثالية للاستقواء بالأعداء و تمكينهم من الهيمنة على الدار ليقوموا بضرب كل محاولات التوحد و النهوض فيما بعد، و ها نحن مازلنا في نتائج تلك الحقبة المريرة إلى اليوم.

* الغرب يمنح أرباب التجزئة ’’انتصارات’’ منسجمة مع مصالحه لأن طموحاتهم لا تتحدى هذه المصالح بل تخدمها و لا تنهض بالأمة و لهذا فإن ما قام به مصطفى كمال عندما ألغى السلطنة العثمانية و الخلافة الإسلامية يلتقي موضوعيا مع أهداف الحلفاء الغربيين و لم تخرج إنجازاته الجغرافية عما رسمه بلفور أمام الأمريكيين، و ما رسمه الرئيس الأمريكي ويلسن الذي صرح في سنة 1912 قبل اندلاع الحرب الكبرى بأنه إذا دخل العالم الحرب فلن يكون هناك وجود للدولة العثمانية،[70] ثم كرر ذلك في نقاطه ’’المثالية’’ الأربعة عشر التي لم تطبق جميعها و لكنها تفصح عن رؤية الولايات المتحدة تجاه تركيا كما جاء في النقطة الثانية عشر التي طبق شطر منها يناسب خطط بريطانيا و فرنسا: ’’يجب أن يُضمن الاستقلال الثابت لأجزاء الإمبراطورية العثمانية الحالية التي أغلب سكانها من الأتراك، و أما الأقوام الآخرون الخاضعون الآن للحكم التركي فيجب أن يُضمن لهم أمن على حياتهم لا شك فيه، و أن تُعطى لهم فرصة مطلقة لا يجدون فيها ما يعوقهم عن بلوغ استقلالهم، و أما الدردنيل فيجب أن يظل مفتوحاً و يصير ممراً حراً لسفن جميع الأمم و تجارتها في ظل ضمانات دولية’’،[71] و لقد استقل الأناضول بالفعل و استقلت القوميات غير التركية عن الدولة العثمانية و فتحت المضائق و لكن الانتداب حل بالبلدان غير التركية فلم يكن استقلالها كاملاً وفق البند الأمريكي، و قد أوضح مصطفى كمال للأوروبيين أهدافه بالقول ’’إنكم تستطيعون أن تنالوا سوريا و بلاد العرب، و لكن كفوا أيديكم عن تركيا، فنحن نطالب بحق كل شعب داخل حدود بلاده الضيقة’’[72] و هو ما يتفق مع المخطط الأوروبي السابق، و لهذا لم يمانع الحلفاء في إلغاء معاهدة سيفر المذلة (1920) بعدما منحهم النظام الكمالي في معاهدة لوزان (1923) الموافقة على تطبيق تلك المعاهدة السابقة على كل البلاد غير التركية وهو ما قامت به الدول الأوروبية بموافقة عصبة الأمم التي جعلت هذه البلدان العثمانية السابقة خاضعة للانتداب، و استثنيت تركيا من ذلك، فكان هذا الاستسلام هو ’’أهم الانتصارات السياسية’’ لاتجاه التجزئة القومية،[73] و لم تمانع أوروبا في المصادقة على ذلك التحجيم الذي ’’كرس دولياً نهاية السلطنة العثمانية و قيام الجمهورية التركية’’ الذي حقق حلم القوميين الأتراك و سياسة التتريك التي طبقوها و صار هذا هو الانتصار الكبير للدولة التركية،[74] و لكنه لم يكن انتصاراً على الأعداء بل بموافقتهم و تصديقهم و إقرارهم، فقد ’’أجبرت انتصارات مصطفى كمال – آنذاك- الدول الأوروبية على الاعتراف بأهمية حركة الأناضول، سيما و أن برنامجه استند على أسس قومية و انبثقت عنها مبادئ الميثاق التركي الذي أُعلن في 28 يناير 1920 محدداً أبعاد الدولة سياسياً و جغرافياً، و تنازلها عن كل المناطق المسكونة بأغلبية غير تركية، رفعاً عن كاهلها مشاكل إمبراطورية كاملة، و قد توالت اعترافات الحلفاء بالحركة الكمالية، و اعترفت فرنسا رسمياً بحكومة أنقرة، مما أنهى حالة الحرب بين الدولتين، و تجاوبت الدول الأوروبية كلها مع نظرية مصطفى كمال بشأن الإمبراطورية العثمانية، و حمدوا له نظرته المختلفة تماما عمن سبقوه في اعتبار مشاكل الإمبراطورية عبئاً ثقيلاً على كاهل الأتراك ينبغي عليهم أن يتخلصوا منه ليتفرغوا لحركتهم الوطنية القومية’’،[75] و الغريب أن لا تنصح الإمبراطوريات الغربية أنفسها بنفس النصيحة فتتخلص من الأعباء الإمبراطورية و تتفرغ لشئونها القومية(!)

و قد ظهر هذا الاتفاق بين توجهات الحلفاء و توجهات أتاتورك أثناء حربه الاستقلالية حين ’’اتفق مع فرنسا فسحبت جيشها من كيليكيا، و اتفق مع الطليان فانسحبوا من الأناضول’’ فتفرغ لقمع الأكراد فضربهم و أخضعهم بعنف ثم ضرب الأرمن بقساوة و قاد ضدهم حرب إبادة و تهجير و قتل الألوف و هجر الباقين، و الغرب الذي تاجر بدمائهم يقف متفرجاً، و لزم الإنجليز الحياد فيما هو يقود جيشه و يدخل إزمير و يحرقها و ينكل بأهلها ’’و بعد أن أتم مصطفى كمال السيطرة على آسيا الصغرى، انتقل إلى اسطنبول و فيها جيش إنكليزي، لكن لم يطلق النار’’،[76] و يتحدث الدكتور أحمد عبد الرحيم مصطفى عن توقيع الفرنسيين اتفاقية أنقرة مع الكماليين في سنة 1921 و تركوا لهم بعدها كميات كبيرة من الأسلحة و الذخيرة مما ساعد الأتراك على القتال ضد اليونانيين و أن هذه المعاهدة أكدت توجهات فرنسية سابقة لمساندة الحركة القومية التركية ضمن الصراع بين نفوذ الحلفاء في الأناضول و بموجب ذلك ’’أقرت فرنسا الميثاق الوطني و تخلت عن معاهدة سيفر و تفرغت بعد ذلك لمواجهة الحركة الوطنية السورية، كما جلا الإيطاليون عن المناطق التي كانوا قد احتلوها في جنوبي الأناضول و إن احتفظوا بجزر الدوديكانيز، و قد تخلوا هم الاخرون للوطنيين عن كميات من الأسلحة مما عزز مركزهم و جعلهم يقررون استكمال تحرير الأناضول و أراضي تركيا الأوروبية’’.[77]

و كما سبق ذكره لقد اتفقت توجهات الغرب مع توجهات الحكم الكمالي الذي منح الغربيين كثيراً مما طلبوه فلم يروا تضحية كبرى فيما طلبه لاسيما أنه ينطبق على ما كانوا قد خططوه لمستقبل المنطقة بعد الحرب إذ لم يكن احتلال الأناضول من ضمن أهدافهم بعد تقسيم الشرق العربي و القضاء على الخلافة العثمانية عملياً باحتلال معظم عمقها الجغرافي و لم يتبق سوى الإجهاز الرسمي عليها، و في هذا يقول المؤرخ كواترت إن دفاع الأتراك عن موطنهم القومي دفع بريطانيا و فرنسا إلى العدول عن احتلال البلاد بعد أن شعروا بأن ذلك سيكلفهم غالياً، و الحق أن القادة الأتراك آنذاك كانوا على استعداد للتفاوض مع الحلفاء حول قضايا معينة مثل (1) تسديد الديون التي تراكمت على الدولة العثمانية قبل الحرب، و (2) الممرات البحرية التي تصل البحر الأسود ببحر إيجه، و(3) التنازل عن سيادتهم على الأقطار العربية، و أخيراً تم الاتفاق بين القوى العظمى و القوميين الأتراك على الإقرار بزوال الإمبراطورية العثمانية الذي أصبح حقيقة واقعة’’.[78]

و يظل النقاش بعد ذلك على ما سمي شروط كيرزون الأربعة الخاصة باشتراط إلغاء الخلافة في مؤتمر لوزان سنة 1923 و محاولة إثباتها مقابل نفيها مما لا طائل منه، لأن مصطفى كمال تشرب الأهداف الغربية و تبناها - كما فعل غيره من دعاة النهوض عن طريق استرضاء الغرب- و نفذها من تلقاء نفسه و لا حاجة لإثبات أنه تلقى أمراً بذلك في عرض مسرحي أو لم يتلق، فما هو مثبت أنه تبني وجهة نظر العدو و هذا أسوأ من تنفيذ أوامره بالإكراه، و مع ذلك لا يغيب عن ملاحظة المؤرخين الصلات الموضوعية التي ربطت بين الحكم الكمالي و الغرب الأوروبي: ذلك أن النظام الدولي الجديد الذي أنشأته الدول الكبرى في منطقة الشرق العثماني بعد الحرب الكبرى قام على أساس إنهاء الدولة العثمانية و تقطيع أوصال البلاد العربية،[79] و قد تعاون الكماليون مع الغرب في النقطتين معاً بإلغاء الخلافة و بالتنازل عن الأملاك العربية للدولة العثمانية و هو أمر كان ذا أهمية قصوى للحلفاء المستعدين للانقضاض على أملاكها كي يرتبوا تقسيمها فيما بينهم بشكل قانوني يمنع التنازع فيما بينهم، و لهذا قال وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون في برقية إلى اللورد اللنبي في مارس 1920 إن نظام الانتداب يقتضي أن تعترف الدولة التي كانت صاحبة السيادة على إقليم بتنازلها عنه،[80] فلم يكن من الغريب بعد ذلك أن تؤيد الدول الكبرى النظام الكمالي الجديد.[81]

و هناك ما يشير إلى سعي مصطفى كمال المبكر، سواء لأسباب قومية أو غيرها، لإفشال محاولات رأب الصدع و رص الصفوف العثمانية، و من ذلك قيامه بحض الأمير فيصل بن الحسين على عدم الإصغاء لعروض الصلح التي قدمها جمال باشا للعرب بعد إعلان ثورتهم، و قد وعد كمال فيصلاً بدعم المعارضة التركية و مهاجمة الجيش العثماني و حلفائه الألمان من الأراضي التي تسيطر عليها عندما يستقل العرب و يستقرون في عاصمتهم دمشق، و قد تحدث لورنس العرب عن ذلك بالتفصيل،[82] و غني عن التوضيح من هي الجهات المستفيدة من الغدر بالجيش العثماني في أثناء الحرب الكبرى ضد الحلفاء، و عن الجهود البريطانية يقول كواترت: ’’كانت جهود بريطانيا لطرد العثمانيين من مكة و المدينة و تدمير خط حديد الحجاز أثناء الحرب الأولى ترمي إلى تجريد السلطان من مكانته الدينية في أعين المسلمين، و هو الهدف الذي سعى السلفيون لتحقيقه قبل أكثر من قرن’’،[83] و لهذا لم يكن من الغريب تعاون كبار السلفيين كمحمد رشيد رضا و محب الدين الخطيب مع الثورة العربية.

* الاستقلال السياسي لم يكن يعني استقلالاً حقيقياً عن الغرب بل ربما كان باب التبعية

مع سريان موجة الثورات التحررية من الاستعمار في العالم الثالث كان كثير من قادتها معجبين بالغرب إلى حد الانبهار و الهوس، و لكنهم كانوا يطلبون الاستقلال السياسي مع التبعية الحضارية دون فك عرى الروابط السياسية التي ظنوا أنهم سيحققون بها المصالح الضيقة للأمم الصغيرة المكونة حديثاً على أنقاض الوحدة العثمانية السابقة، و لأن حجم الأمة يفرض عليها حجم طموحاتها و مدى إدراكها فإن طموحات الصِغار فرضت عليهم منطق الصَغار، فمن زعماء ’’التحرير’’ من قاتل المستعمر للحصول على الاستقلال السياسي ضمن التبعية الحضارية لنفس الدولة التي يقاتلها، و منهم من استقوى بدول غربية أخرى تنافس الدولة المستعمرة لبلاده و راهن على هذا التنسيق ليحقق به شيئاً و ليظل فيما بعد في ظله أو ليخيب أمله بعد اكتشافه أن الغربيين لا يختلفون عن بعضهم البعض، و منهم من كان المستعمر يحركهم للقيام بثورات تستبق تحركات شعبية متوقعة بعدما وصل السيل الاستعماري إلى الزبى، أما من أصيب بجنون العظمة من الحكام فكان أقصى ما يرجوه هو دور الوكيل الإقليمي للدول الكبرى ليتباهى به على أقرانه الصغار، أما من تجاوز هذا الحد بعد زمن من التنسيق مع الكبار و أخذته العزة بالإثم من وجهة نظر المستعمرين فلم يكن له إلا المقصلة، و لكن في جميع الأحوال لم يتحقق التحرير الحقيقي من الروابط الاستعمارية نتيجة قلة إمكانات و قدرات دولة التجزئة المجهرية التي فقدت العمق الجغرافي و القدرات السكانية و الموارد المادية الضخمة التي كان من الممكن أن يحركها حكم قوي للوصول إلى مكانة الدولة العظمى، و الغريب أن زعماء التغريب لم يسعوا لتقليد الغرب في وحداته السياسية الكبرى العابرة للقوميات لاسيما الولايات المتحدة التي كانت محط الأنظار آنذاك.

و يندرج الحكم الكمالي ضمن الفئة التي قاتلت للحصول على الاستقلال السياسي مع الهوس بالتبعية الحضارية التي تشترط نسيان كل الروابط و الجذور الحضارية و المصالح الكبرى المتخطية للحدود التي رسمها الاستعمار، و من ذلك أنه ’’كان يثمن إنكلترا و يحترمها، و لكنه كان يؤمن إيماناً راسخاً بمبدأ الاستقلالية و الذي ربطه بمقولته الشهيرة: لكي تعيش في سلم و صداقة مع إنكلترا، فقد ترتب على تركيا أولاً أن تقاتل’’،[84] و لعل هذه الفكرة تذكرنا بقتال قادة مثل الرئيس اللبناني السابق كميل شمعون ضد الاحتلال الفرنسي للبنان مع إعجابه الشديد بالثقافة الفرنسية و إيمانه بضرورة الاحتفاظ بعلاقات خاصة مع فرنسا بعد الاستقلال، و قد رأينا ما جرته هذه الأفكار على استقرار لبنان و محيطها فيما بعد، و من أقوال مصطفى كمال في شأن التبعية و الاستسلام الحضاري بعد ’’الاستقلال’’: ’’إن هناك الآن طريقين علينا أن نتبعهما، فإما أن نقبل الهزيمة و الفناء أو أن نقبل ذات المبادئ التي أوجدت الحضارة الغربية المعاصرة، و إذا كنا نرغب في البقاء، فإن علينا علمنة نظرتنا للدين و الأخلاق و العلاقات الاجتماعية و القانون... إن هذا ممكن فقط بقبولنا بشكل علني و غير مشروط لذهنية و سلوك الحضارة التي نحن ملزمون بمحاكاتها’’،[85] و يتضح من الفقرة أن صاحبها يعتقد أن عدم الاستسلام المطلق يعني الفناء الفوري، و هي قدرية سبق أن عرضتها حضارة الحرية الغربية على شعوب أخرى كسكان أمريكا الأصليين: الاستسلام للتحضر أو الفناء،[86] و لكن هذه الشعوب لم تجن البقاء المتوقع و ذلك بسبب أنانية الغربيين الذين دفعوها إلى الفناء و لم يرغبوا في نشر التحضر بينها بالفعل سواء بعد مقاومتها أو استسلامها، و كان تصوره للتمدن متعلقاً’’ بالتصرفات، القيم الجديدة المأخوذة نماذجها عن تفكير الأوروبيين، التقويم الغربي، الحروف اللاتينية، الموديلات، الأزياء و أشكالها، القبعة الأوروبية’’،[87] و لو رأينا حياته الشخصية بصفته حامل رسالة و فكرة لرأينا أنه ’’كان دمثاً و عاقلاً، إلا أنه كان رديء السمعة، سكيراً، مع حياة عائلية فظة، مولع بالمقامرة و النساء.. و كان قاسياً متحجر القلب في التخلص من الذين خاصموه سياسياً و أيديولوجياً، و كانت لهم خطورتهم عليه و على حكمه، فنفى بعضهم، و شنق بعضهم الآخر.. كانت له طاقة هائلة، و اقتدارات ذاتية ثابتة’’.[88]

و لم يكن مصير المحاولة التركية بعد جهود جاهدة بذلها أتاتورك للحاق بالغرب سوى البقاء ضمن البلدان النامية و عدم القدرة على الوصول إلى مصاف الدول الصناعية و استمرار الاعتماد على الأموال الخارجية لسد الاحتياجات المحلية،[89] و هي تبعية كان يتوقع منها حصول التابع على القوة و عدم التهديد من المصالح الدولية الكبرى ما أثبتت التبعية جدواها للدول الكبرى و هو ما سيواصل التابع السعي إليه،[90] و لكنها أنتجت ما رضي أن يمنحه الكبار فقط بما يتلاءم و مصالحهم[91] كما فعلوا مع من قبلنا و الفرق أنهم احتاجوا بقاءنا في الوقت الذي أفنوا غيرنا، و إن ظن المستظلون بحماية الدول الكبرى المنتفعة بهم أنهم حصلوا على ما يبتغون،[92] أو تخيلوا ذلك لعدم وجود بديل أمامهم، أي أن مصطفى كمال قدم استعداداً كاملاً لخدمة الأهداف الغربية مع محاولة تقمص هذه الأهداف و تصويرها أهدافاً ذاتية و هذا لم يكن تصوراً حقيقياً لأنه بمجرد النظر نعرف أن الانضمام لحلف شمال الأطلسي مثلاً، و هو إجراء يصنف ضمن سياساته التي حكمت خلفاءه ضمن نظرته الخاصة للعلاقة بالآخرين[93] و هي العمل على ’’كسب القبول في الغرب’’،[94] يلبي أهداف من بادر لتأسيسه و ليس من كان على هامشه يقدم الخدمات العسكرية و الاستراتيجية دون أن يكون حراً في الإفادة من التطوير الذي حصل عليه إلا بمقدار ما يقدم الخدمات لسادته (كوريا مثلاً حيث لا مصلحة وطنية لتركيا)[95] أو بمقدار فسحة الخلاف الموجودة بين السادة أنفسهم (الحرب الكبرى الثانية مثلاً)،[96] فأتاتورك مثلا و خلفاؤه اتبعوا قوله إنه بدلاً من ملاحقة أهداف مثالية لم و لن نقدر على تحقيقها لنتمسك بالعقل و نعرف حدودنا، و من ذلك مثلاً قوله: ’’أليس من أجل الخلافة و الإسلام و رجال الدين قاتل القرويون الأتراك، و ماتوا طوال خمسة قرون؟ لقد آن الأوان أن تنظر تركيا إلى مصالحها، و تتجاهل الهنود، و العرب، و تنقذ نفسها من تزعم الدول الإسلامية’’،[97] و قال أيضاً: ’’إن شعبنا قد ترك ملايين البشر في كل مكان ذهب إليه ليخدم فيه، هل تعرفون عدد أبناء الأناضول الذين ماتوا و دفنوا في صحراء اليمن؟ و كم من البشر ماتوا من أجل المحافظة على العراق و سوريا، و من أجل السيطرة على مصر، و من أجل الاستحواذ على إفريقيا، هل تعرفون هذا؟’’.[98]

و بالطبع فإن هذا ليس منطق الولايات المتحدة مع نفسها، فهي لا تريد أن ’’تنقذ’’ نفسها من زعامة العالم الغربي، بل العالم كله، ول ا تعد الزعامة مصيبة أصلاً يجب التخلص منها، لأن هذا منطق الصغير العاجز و هي ليست كذلك، ول ا تتساءل عن جدوى موت أبنائها في أطراف العالم البعيدة مثل أوروبا و فيتنام و كوريا و أفغانستان و العراق و عشرات الدول التي تدخلت فيها أكثر من 130 تدخلاً عسكرياً قبل احتلال العراق،[99] و مازالت تتغنى بتدخلها في تلال المكسيك و شواطئ طرابلس الغرب في القرن التاسع عشر، و لا تصف أي هدف مهما بعد بكونه مستحيلاً بل تستمر في السعي كي لا يكون كبيراً في العالم غيرها، و هذا هو الفرق بين منطق الكبار المتبوعين و منطق الصغار التابعين، و بين مصالح الكبار المستقلة و مصالح الصغار التابعة، و بنفس المنطق الصغير يرفض الكماليون زعامة المسلمين و الموت لأجل القضية الإسلامية و ينسى أتاتورك أو يتناسى ما ذكره بنفسه من استشهاد غير الأتراك كآلاف المصريين و السوريين و العراقيين دفاعاً عن عاصمة الخلافة في الحرب الكبرى الأولى[100] في دولة كان جميع من فيها يعمل و يقدم لأجل بنيانها الإسلامي الجامع دون حسابات و فواتير الانقسامات الإقليمية، و لكن الكماليين في الوقت الذي يضنون فيه بدمائهم الغالية على قضايا ’’مثالية’’ لا يرفضون أن يموتوا هم لأجل الولايات المتحدة في حرب كوريا مثلاً و ينتشون بكلمات الإعجاب الغربي الفارغ بشجاعتهم،[101] دون أن يشركهم الغربيون إشراكاً فعلياً في مغانمهم بقبول تركيا مثلاً في مجتمع الاتحاد الأوروبي الذي لم يترك متسولاً أوروبياً دون ضمه مع الضن على تركيا بهذا المقام.

* هل كانت بلادنا ضعيفة في ظل الدولة العثمانية و هل أدى زوالها إلى قوتنا

نشأت الدولة العثمانية في نهاية القرن الثالث عشر (1299) و ظلت مندفعة حتى هزيمتها الثانية على أسوار فيينا (1683) و شملت بلاداً لم تصلها الدول الإسلامية الكبرى قبلها، و قد قوّمها كثير من المؤرخين بكونها ’’من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ و أكبرها و أطولها عمراً’’[102] كما يقول دونالد كواترت، و بكونها ’’أعظم امبراطورية إسلامية و أقواها’’[103] كما يقول زين زين، كما قال زاكري كارابل بأن انتصارات العثمانيين ’’لا يضارعها إلا انتصارات الخلفاء في القرنين السابع و الثامن الميلاديين’’،[104] و رغم عدم شمول السيادة العثمانية جميع العالم الإسلامي أصبح الخلفاء العثمانيون يتولون ’’المسئولية العليا للسلطة الزمنية على المسلمين إلى حدود بعيدة كالسنغال و سومطرة’’ كما يقول المؤرخ نيكولاس دومانيس،[105] و لكن المعضلة التي وجد العثمانيون أنفسهم فيها هي معاصرتهم صعود القوة الأوروبية في نفس الوقت الذي كان منحنى قوتهم يتجه للهبوط، و بدأ تراجع الدولة العثمانية بعد هزيمة فيينا كما تجسد في معاهدة كارلوفتج (1699) و معاهدة بساروفتش (1718) اللتين خسرت بموجبهما مناطق في أوروبا و ليست في صلب العالم الإسلامي، أول خسارة إسلامية ملحوظة هي الاحتلال الروسي للقرم في معاهدة كوجك قينارجة (1774) التي تبعتها الحملة الفرنسية على مصر (1798)، ’’لكن تقهقر الدولة العثمانية في الحقبة التي نتحدث عنها (1683- 1798) لم يكن أمراً واضحاً لأولئك الذين عاصروا تلك الأحداث و ذلك لأن العثمانيين حققوا أيضاً عدداً من الانتصارات الهامة و خاصة في النصف الأول من القرن الثامن عشر’’ كما يقول المؤرخ دونالد كواترت،[106] أي أن فترة الضعف الملحوظ بدأت بخسارة مصر في نهاية القرن الثامن عشر، و لهذا يؤكد المؤرخ زين نور الدين زين أنه ’’ليصح القول بأن الحكم العثماني حمى الأقطار العربية و الإسلام من التعدي الخارجي قرابة أربع مئة سنة’’،[107] مما يؤكد أن حالة التراجع كانت طارئة في عمر الخلافة العثمانية و لم تشمل سوى قرنها الأخير بحكم سنة الحياة و الموت التي تسري على البشر و الدول، و حتى في زمن ضعفها كانت صامدة صموداً تحسد عليه كما يؤكد ذلك المؤرخ الشهير إريك هوبزباوم بكلام كثير عن هذا الصمود العثماني في القرن التاسع عشر و ذلك في ثلاثيته المعروفة (عصر الثورة و عصر رأس المال و عصر الإمبراطورية) كما سبق ذكره، و ليس من الإنصاف مطالبة الدولة العثمانية بالخروج على سنة الحياة و البقاء قوية أبد الدهر، أي عكس ما يسري على الجميع، فقد أدت ما عليها بكفاءة و العيب فينا إذ لم نستطع القيام بمسئوليتنا بعدها و تلقفتنا دولة الاستقلال الوهمي و التجزئة المجهرية التي انبطحت لمنشئيها المستعمرين، فماذا أنجزنا نحن بها بعد قرن من رحيل العثمانيين و هي فترة شهدت صعود السوفييت من مستوى روسيا القيصرية الذي كان يوازي المستوى الذي تركتنا الدولة العثمانية فيه في نفس الزمن (1917) و ساد الروس نصف العالم بعد مدة قصيرة ثم انهار الاتحاد السوفييتي و نحن ما نزال نلوم حظنا العثماني على تراجعنا المستمر.

المهم أنه بعد زوال الدولة العثمانية لاحظ كثير من المؤرخين تدهور المكانة السياسية للشرق الذي كان عثمانياً، ذلك أن ’’نظام الشرق الأوسط كان كسيحاً منذ ولادته من خلال الانقسامات التي حلت به و تبعيته لدول أعظم من نظام سائد، و طبقاً لذلك، قد يبدو الشرق الأوسط برمته، فعلياً، و تركيا الاستثناء الرئيسي، أنه انتقل من تعددية المسألة الشرقية إلى ثنائية المستعمِر/ المستعمَر’’،[108] و’’مع تقهقر و تجزئة الإمبراطورية العثمانية عام 1918، و التي كانت القوة الإسلامية العظمى الأخيرة في العالم، فقد انتقل العالم الإسلامي ليصبح في مواقع دفاع هشة للغاية’’.[109]

* زوال الخلافة لم يأت بالديمقراطية

أذاع الغربيون، لاسيما الأمريكيون و رئيسهم ويلسن، في الحرب الكبرى الأولى (1914- 1918) أنهم يقاتلون لأجل عالم ديمقراطي و ليس للحصول على مكاسب مادية،[110] و تمسك الضحايا العرب بهذه الشعارات و المثاليات لتحقيق أهدافهم، و لم يكن عندهم من القوة ما يفرضون بها سياستهم على الواقع الأوروبي الذي ساوم أعضاؤه بعضهم بعضاً حتى كان كل ما تمكن منه ويلسن في صراعه مع أوروبا هو القيام بتغييرات شكلية لا قيمة لها بأن حولت ’’مثاليته’’ الهيمنة على البلاد الأخرى من اسم الاستعمار إلى اسم الانتداب دون تغيير في الجوهر الحقيقي للعملية بعد رفض الأوروبيين تطبيق نقاطه الأربعة عشر إلا فيما يتفق مع أطماعهم.

و عندما زالت الخلافة الإسلامية من الشرق العثماني لم يكن البديل أنظمة ديمقراطية على الطراز الغربي الداخلي، ففي تركيا الجمهورية ’’اعتبر الحكام الجدد لتركيا الشعب التركي قاصراً عن ممارسة الحكم و الحقوق السياسية، و زعم مصطفى كمال أن هذا الشعب لا يعرف كيف يقرر مصيره، فراح يقول: إن نظام الحزب الواحد يعد أنسب التنظيمات السياسية... و استمرت أعمال القمع في البلاد، بينما كان النائب بالمجلس الكبير إذا لم يلتزم بطاعة الغازي، عند التصويت على مشروعات القوانين، أو جرؤ عضو الحزب الجمهوري على مخالفة النظام الحاكم، سرعان ما يُفصل من الحزب المهيمن، و يفقد تبعاً لذلك عمله، و يتعذر عليه إيجاد البديل و لو مات جوعاً، و تزايدت سطوة الحزب بعد هدم الكيان السياسي للدولة و تم فصل الدين عن الحكم... و رفعت الثورة الكمالية شعار: (إن الثورات يجب أن تبنى على الدم و إلا انهارت و لا تدوم)، و رغم ذلك لم يخل الحال.. من قيام معارضة عنيفة ضد النظام.. وقُدم الجميع لمحاكم الاستقلال.. وتتابع صدور أحكام الإعدام’’ كما تقول الدكتورة تهاني عبد الرحمن،[111] و ظل مصطفى كمال إلى آخر حياته يعتقد أن الشعب التركي ’’لم ينضج بعد ليستحق نظاماً تسوده حرية التعبير’’ كما يقول الكاتب الفرنسي بنوا ميشان،[112] و قد كان الغرب يرفض هذه الحجة من أمثال السلطان عبد الحميد رغم التطورات التحديثية الضخمة التي قام بها، و يقبل الغرب في نفس الوقت هذه الحجة من أنظمة أكثر استبداداً و دموية لكونها أقل حجماً و أكثر تعاطفاً مع الأهداف و المصالح الغربية لا يألوا الغربيون جهداً في دعمها وإسنادها وما زال التنظير الغربي يرجو لنا مثل أتاتورك حتى اليوم،[113] و يمتدحه بالبطولة و العبقرية السياسية و العسكرية رغم شح الإنجازات لكونه حافظ على استقلال تركيا، و هو هدف تناغم مع أهداف الحلفاء كما رأينا، و لكونه ’’حوّل تركيا من دولة إسلامية إلى دولة قومية علمانية’’،[114] و هذا هو المهم عند الغرب، أما كونه ’’سحق حركة الاستقلال الأرمنية (التي دعمها الغرب) و أخمد الأكراد الانفصاليين، و في منطقة سميرنا (أزمير) قتل عشرات الآلاف من الأرمن و اليونانيين، و تم تشريد 250 ألف شخص عندما هاجمت القوات التركية المدينة و أحرقتها’’،[115] فأمر لا يهم عملية التقويم الغربية، و لكنه يهمها جداً عندما تدافع سلطة إسلامية عن شعبها ضد التدخلات والمؤامرات الغربية التي أذكت نار الكراهية ضد الحكم العثماني ثم اتخذت من هذه الكراهية التي اختلقتها ذريعة أخلاقية لتفكيك الدولة العثمانية،[116] و الخلاصة أنه لا الحرية و لا الديمقراطية و لا التقدم و لا الإنسانية هي المهمة، و لكن لو جاء متغرب شبيه بأتاتورك و حاول لأي سبب الخروج من الطوق الغربي سرعان ما يجري تحجيمه ثانية بالاستعانة بقذف كل تهم الاستبداد و الدموية و الديكتاتورية في وجهه مع أن نفس هذه التهم لم توجه لأول من علّمها لجميع حكام التجزئة و هو أتاتورك نفسه بسبب تناغمه مع الغرب.

* تبعات إلغاء الخلافة على بلادنا

ينقل المؤرخ زين نور الدين زين عن مجموعة من الساسة الأوروبيين في القرن التاسع عشر أقوالهم بضرورة الحفاظ على بقاء الدولة العثمانية صوناً للسلام، فقد كان الإيرل بيكونسفيلد يرى أن المحافظة على استقلال الدولة العثمانية و سلامة أراضيها أحسن ضمان للسلام في أوروبا، و في بيان للورد ألنبورو قال ’’إن الامبراطورية العثمانية قائمة ليس لصالح الأتراك أنفسهم و حسب، بل لصالح أوروبا المسيحية، و ليس بغية المحافظة على بقاء المسلمين في الحكم بقدر ما هو لإنقاذ المسيحيين من حرب لا يمكن تحديد الغاية من شنها و لا معرفة الزمن الذي تستغرقه هذه الحرب’’، و يعلق زين على ذلك بالقول إن تقسيم الدولة العثمانية كان العامل الرئيس في نشوب الحرب الكبرى الأولى، و إنه بعد انتهاء الحرب الكبرى الثانية انسحبت الدول التي تنافست في السابق في المسألة الشرقية من حلبة السباق و نالت دول الشرق العربي الإسلامي استقلالها، و لكن هذا الجزء من العالم وجد نفسه متورطاً في مشكلات معقدة جداً بسبب قيام الكيان الصهيوني والصراع بين العملاقين السوفييتي و الأمريكي، و تتابعت الانتفاضات و محاولات حل المشكلات القديمة المتجددة بالمساعدات أحياناً و بالقوة أحياناً أخرى، و نشأت حالة من اليأس و القنوط، فمنذ ’’سقوط الامبراطورية العثمانية، لم تحسم قط، في هذه البقعة من الدنيا، قضية واحدة حسماً نهائياً، و لا يزال الشرق الأدنى منطقة يكتنفها الإبهام، كما أن شئونه و مشكلاته لا تزال تنتظر حلاً’’.[117]

* النهاية: الغرب يواصل عرقلة النهوض و الوحدة في سبيل الحفاظ على مصالحه

استمرت جهود الغرب في عرقلة نهوض بلادنا و اتحادها، و ليس هنا مجال تفصيل ما حدث بعد الحقبة العثمانية، و لكن الجهود المستمرة متصلة منذ ما قام الغربيون به لإلغاء الخلافة، وفي ذلك يلاحظ الدكتور ناظم الجاسور أن الوطن العربي شهد منذ بروز شخصيته الدولية العديد من مشاريع التقسيم و التفتيت و طمس الهوية و اللغة و الانتماء، و كان لكل طرف دولي أدواته الخاصة ’’إلا أنها تجتمع على هدف واحد أصبح جزءً من التراث الفكري و السياسي و الأمني و الثقافي و العسكري للقوى الغربية، التي تعد أي تلاق أو اندماج، و إن كان على الورق، بين هذه الدولة العربية و تلك، يعني تهديداً لمصالحها، و لا بد من تقويضه و تحطيم أي أسس يمكن أن تبرز في المستقبل من شأنها تهديد المصالح الغربية و وجود إسرائيل’’.[118]

و أصبح مجرد وجود الصهاينة في بلادنا عاملاً في تفتتها ’’فثمة أمر ليس بوسع إسرائيل أن تطيقه، وهو وحدة الدول العربية المجاورة لحدودها، لأنها تدرك أن بقاءها مرهون بتشرذم هذه الدول’’، وفقاً لاستنتاج الكاتب الفرنسي المعروف بنوا ميشان،[119] و قد قام الأستاذ الدكتور أحمد سعيد نوفل بتوثيق ’’دور إسرائيل في تفتيت الوطن العربي’’ في كتاب شامل خاص جال في مخططات التفتيت الصهيونية في العالم العربي من مشرقه إلى مغربه و من شماله إلى جنوبه.[120]

و يؤكد الدور الغربي في عملية تحطيم الوحدة والنهوض في بلادنا عميد السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرة هنري كيسنجر في أحد مقالاته: ’’لمدة أكثر من نصف قرن، وجهت عدة أهداف أمنية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط: منع أية قوة في المنطقة من الظهور والهيمنة، ضمان تدفق موارد الطاقة التي مازالت ضرورية لتشغيل الاقتصاد العالمي، و محاولة القيام بدور الوسيط بين إسرائيل و جيرانها من أجل قيام سلام دائم’’ وزير الخارجية الأمريكي السابق هنري كيسنجر في مقال بعنوان: ’’توجه جديد للتدخل’’ (صحيفة الواشنطن بوست 2012/3/31).

و مما يؤكد تواصل هذه الجهود استخدام ساسة الغرب حديثاً بعبع الخلافة في دعايتهم ضد العالم الإسلامي أثناء الحملة ضده لاحتلال أفغانستان والعراق ’’إذ مضى كل من الرئيس بوش (الإبن) ووزير دفاعه رامسفيلد إلى مستشاره للشئون الأمنية ستيفن هاولي، وكذلك الجنرال جون أبي زيد، ونائب الرئيس تشيني و إريك إيدلمان و وكيل وزير الدفاع للسياسات و غيرهم إلى التحذير جميعاً من خطر قيام إمبراطورية إسلامية شمولية على امتداد الشرق الأوسط كله’’[121] و لا يهمنا مدى مصداقية هذه الدعاية و هل هناك مبرر فعلي آنذاك لاستخدام هذا البعبع أم لا، أو مدى انطباق دعوات التنظيمات التي ترعب الغرب على فكرة الخلافة الجامعة كما تمثلت في تاريخ الإسلام، و هو  ما لا دليل عليه حتى الآن، ما يهم هو مدى تجذر فكرة معاداة وحدة المسلمين في هواجس الغربيين إلى درجة جعلت الساسة الغربيين يستدعونها لدعم مشاريع احتلال ضخمة كتلك، فمجرد استخدام هذه المادة في الدعاية يدل على إدراك الساسة أنها محرك مقنع لجماهيرهم التي ترعبها وحدة المسلمين تحت راية واحدة و إلا فإنها لن تلتفت إلى هذه الأحاديث و سيكون ذكر الساسة لها مجرد لغو لن يقدم عليه سياسي يحرص على شعبيته.

و مما يؤكد معارضة الرأي العام الغربي لأية وحدة في بلادنا ما يقصه الأستاذ احمد الشقيري أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية من ذكرياته أيام الوحدة الثلاثية بين مصر و سوريا و العراق (1963) بعد فشل الوحدة الثنائية بين مصر وسوريا (1958- 1961)، إذ يقول في كتابه حوار و أسرار مع الملوك و الرؤساء: ’’في تلك الفترة امتلأت ملفاتي بقصاصات من الصحافة الغربية، و كلها تصب جام غضبها على الجمهورية العربية المتحدة الجديدة التي تضم أقوى أقطار العرب الثلاثة، مصر و سوريا و العراق... و كلها تدعو إلى حماية إسرائيل من الخطر الذي يحدق بها... و كلها تدعو إلى المحافظة على مصالح الدول الغربية من هذا العملاق العربي الذي يوشك أن يهوي على المصالح الغربية، و يشعلها ناراً و دماراً... أما إسرائيل، فقد تهيبت المصير قبل أن يحل المصير، فاستنفرت الرأي العام الدولي، و نشط سفراؤها في كل أنحاء العالم، و تحركت القوى الصهيونية في واشنطن و لندن، و اقتحمت البيت الأبيض و قصر باكنغهام، فاستجاب لها أعضاء الكونغرس الأمريكي، و نواب مجلس العموم البريطاني، و جميعهم يطلب حماية إسرائيل، فإن العرب، الهمج، الوحوش، يوشكون أن ينشبوا مخالبهم، في إسرائيل، و يلقوها في أعماق البحر!! و لقد كانت هذه المخاوف في محلها، سواء على المصالح الغربية أو على إسرائيل نفسها، و إسرائيل هي في رأس هذه المصالح الغربية... فإن الجمهورية العربية الجديدة تملك إمكانات و مقدرات ضخمة، بشرية مادية و روحية، فضلاً عن أن هذه الدولة التي تقوم من النيل إلى الفرات ستتبعها خطوات وحدوية أخرى، ستفضي في النهاية إلى قيام دولة الوحدة الكبرى من المحيط إلى الخليج، و لكن الاستعمار، و معه إسرائيل، لم يكن جاهلاً بالأمور التي تجري في الغرف العربية المقفلة... لقد كان يعرف دخائل النفوس... دون أن تخدعه العناوين الحمراء في صحافتنا، و الأصوات الساخنة في إذاعتنا... و دون أن يرتجف أمام الحماسة المتصاعدة في الآفاق، المتبخرة في الهواء!!’’.[122]

 و رغم فشل مشروع الوحدة الثلاثية فقد ظل شبحها مهيمناً على المشاعر الغربية المتحفزة ضد أية عملية نهوض من كبوتنا الطويلة، فقد طرح ممثل الولايات المتحدة في اجتماع مجلس حلف شمال الأطلسي الذي عقد في الربع الأول من سنة 1965 أهمية ’’الشرق الأوسط’’ بصفته جناح أوروبا الأيمن عسكرياً و مخزن ثلثي احتياطي النفط العالمي، و أشار إلى أهم الأخطار التي هددت المصالح الغربية في ذلك الزمن و منها مشروع الوحدة العربية المدعومة بأموال الكويت (إذ طرح العراق اقتراح انضمام الكويت لمشروع تلك الوحدة المجهضة بين مصر و سوريا و العراق)، و زيادة مبيعات الأسلحة المتقدمة لدول المنطقة، و الاشتراكية العربية التي اقترح محاولة استيعابها و عدم مواجهتها عسكرياً لما في ذلك من مجازفة لا حدود لها،[123] فإذا كانت الولايات المتحدة ترفض وضع ثروة الكويت وحدها في خدمة مشروع وحدوي بين ثلاث دول أو أربع فقط، و ظلت كوابيس هذا المشروع تلازمها حتى بعد فشله، فإنها ستخوض حرب حياة أو موت لإجهاض وحدة الأمة كلها .

المصدر:

 

http://wefaqdev.net/index.php?page=study&sub_page=view_one&ar_no=492&ty=1

 

قراءة 1962 مرات آخر تعديل على السبت, 11 تموز/يوليو 2015 09:50

أضف تعليق


كود امني
تحديث