و يحدثنا التاريخ بكل قرونه الممتدة، و طيات صفحاته المتابعة و عبره المتعاقبة، عن أناس دفعوا حياتهم و هم يستقلون بها، و بذلوا أرواحهم و هم يسترخصونها، ثمنا لهذه الكلمات المقدسة، التي ارتقت بالإنسان إلى أعلى مراتب الإنسانية، و أذاقته حلاوة العدل بعد مرارة الظلم، و أخذت بيده عبر المتاهة الظلامية البشرية، إلى آفاق النور الرباني المشرق الواضح الفطري الجميل.
تظل الكلمات هي الوجه الأوضح و الأصدق؛ للتعبير عما نحمله من أفكار، و ما نؤمن به من عقائد و قيم بكل دقة، و الأكثر شفافية و إيحاء عما تحتضنه جوانحنا من يقينيات تمتلئ بها نفوسنا و تستيقنها، و تبقى صدى يتردد بكل ثبات و رتابة و اصرار، معبراً عن مدى إيماننا بمعتقداتنا و استعدادنا للتضحية من أجلها، و حماية أهدافها و الصبر على تكاليفها و متطلباتها، و بقدر ما نحسه تجاه هذه الكلمات من تقدير و تصديق، و بحسب ما نتوقعه من روعتها و قدرتها على الارتقاء بنا كبشر مكرمين، تكون تضحياتنا و ثباتنا على هذه الكلمات.
و الكلمات و الحال هذه، لابد و أن تكون ثمينة و عزيزة و صادقة، و آسرة للوجدان، و مطمئنة للأفئدة الوجلى، و النفوس المضطربة، و لكي تكون أهلا للافتداء و الإتباع، لا بد لها أن تكون مقدسة في سويداء القلوب[ ] مستقرة بها، لا تستطيع النفس[ ] الهمس حتى مجرد الهمس بتركها، و التخلي عنها، أو استغلاء أي غال في سبيل علوها و امتدادها، و بسطها وارف ظلالها على كل مكدود ضانك ملهوف مظلوم.
و تتألق الحقيقة بكل تجلياتها، لنخلص إلى أنها لابد و أن تكون كلمات الله التي لا يأتيها الباطل و لا يمر من خلالها، و لا يقدر على محوها زمن ول ا طاغوت و لا متجبر متكبر، و لا حتى تجرؤ على تجاهلها و الاستخفاف بها نفس سوية عاقلة مدركة متفكرة.
و يحدثنا التاريخ بكل قرونه الممتدة، و طيات صفحاته المتابعة و عبره المتعاقبة، عن أناس دفعوا حياتهم و هم يستقلون بها، و بذلوا أرواحهم و هم يسترخصونها، ثمنا لهذه الكلمات المقدسة، التي ارتقت بالإنسان إلى أعلى مراتب الإنسانية، و أذاقته حلاوة العدل بعد مرارة الظلم[ ] ، و أخذت بيده عبر المتاهة الظلامية البشرية، إلى آفاق النور الرباني المشرق الواضح الفطري الجميل.
يحدثنا التاريخ عن امرأة، في مقاييس الجاه أمة مملوكة، و في مقاييس الصور سوداء، و في مقاييس الأملاك و الأطيان معدمة، و لكنها في مقياس الإنسانية النقي الحقيقي إنسانة ممتلئة بإنسانيتها، كريمة النفس متفكرة الفؤاد، لامست كلمات الله وجدانها فالتقطتها، و تمسكت بها، و قد أدركت أنها طوق النجاة الذي بحثت عنه طويلا، ليرفعها على أجنحة الوحدانية المكرمة، إلى أعلى مراتب السمو و الكرامة، و رددت تلك الكلمات الخالدة خلود الأبد (لا إله إلا الله)، و استشعرت لذة القرب بعد الفقد، و عزة الجانب بعد الذلة، و خفة التحليق في أفق الحرية بعد ثقل الأغلال، و وجدت في ترداد هذه الكلمات حنين روحها، و برد راحتها، فاحتضنتها بكل جوارحها، و قد نسيت ما سواها من الكلمات الفارغة الجوفاء.
و حين راودها الطغاة عن دينها و ربها و كلماته المقدسة الغالية، تلفتت حولها فإذا هي أم تحنو على فتاها الذي اختار نفس الاختيار، و اعتنق ذات الدين، و ترنم بذات الكلمات، ثم التفتت مرة أخرى لترى الزوج[ ] الحاني، و قد أثقلته السنون وتبعات الجاهلية، و مرهقات الغربة، و ضحكت مشاعرها، و سمت روحها، و امتزجت مشاعر الأمومة و الحنو، و المحبة و الود، بمشاعر الفخر و الرضى، و الخوف الطبيعي الأمومي، فطافت بها طائفات شتى.
و وجدت نفسها تقارن بين الأمومة و خالقها، و بين العاطفة و مسخرها، و بين المودة و ملقيها في القلوب فلا ترى فيها سواه فتسكن إليه روحها و تنحاز إليه تعابيرها فتنطلق كلمات التوحيد[ ] ردا قاطعا و تبحث في مواثيق ربقة الجاهلية و إصرها، و تقارنها بنور الإسلام و عدله، بين تلك الكلمات الخرقاء التي تمجد حجارة و جمادات و كل فان مهين، و بين هذه العبارة الرحيبة و الصادقة المهيبة، الباعثة للحياة في أرواح ماتت فيها كل إشراقات الحياة، فلا تأخذها مسيرة المقارنة طويلا، فالاختيار واضح لكل ذي لب لبيب، و الكلمات العظيمة أغلى من كل ما تملك و من تحب، و أسمى من كل المشاعر و الأحاسيس ما تحسه و تلمسه و تعيش في ظله، منذ آمنت بأنه لا إله إلا الله، فاختارت الموت[ ] الكريم على الحياة المجردة من روح الحياة، موقنة بأنه السبيل إلى الكرامة و الخلود، فخلد تسمية ذكرا و بطولة و مثلا و فازت بسبق الاستشهاد.
و يحدثنا التاريخ عن رجل عالم أديب توصلت نفسه إلى أعماق الكلمات الربانية، و تشربتها روحه الطيبة، و تمثلها سلوكا و فكرا، فحورب لأجلها و سجن و حكم عليه بالموت ظلما و عدوانا و فرعنة، حتى إذا آن أوان الاستشهاد من عليه الطاغوت بمن يذكره و ياللسخرية أن يذكره بالكلمات التي يحكم عليه بالموت لأجلها، فيلتفت إلى الشيخ المعمم و قد طلب منه النطق بالشهادتين، يلتفت إليه بكل اطمئنان المؤمن، و أدب الأديب، و سكينة من يحس بأنه يقف على عتبات الواحد القهار العادل، و بكل ثقة الراضي برضى ربه قائلا: "و هل تراني جئت إلى هنا إلا من أجل هذه الكلمات" فخلد سيد قطب[ ] مثلا و علما و أدبا و ثباتا و شجاعة و صدقا و خاب الفرعون و استنزل على نفسه اللعنات و أفضى إلى ما قدم.
و يحدثنا التاريخ و آه من حديث التاريخ حين يجنح به الريح إلى منازل العبر و العظات.. يحدثنا عن فرعون حين أصر على كلماته الخاسرة و صدّق كذبته التي ألقاها في روعه شيطان الكبر[ ] و طاغوت الجاه: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ} [النازعات:24]. فدارت عليه كأس السنن فشربها: {فَأَخَذَهُ اللَّـهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولَىٰ} [النازعات:25].
و يحدثنا التاريخ عن أمة عاشت في ظل كذبة كبرى، مبنية على كلمات مكذوبة، فأحرقت البلاد و أهلكت العباد، و استباحت بيوت الله و حرماته، و داست القيم و سرقت الأوطان، و زورت التاريخ، و علت في الأرض بغير الحق، و أسرفت في ظلمها و علوها، و لم تلق بالا لتلك الكلمات المقدسة المتوعدة الصادقة الربانية {لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ} [الإسراء من الآية:7] كل هذا و هي تدعي: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّـهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ} [المائدة من الآية:18].
و تظل الكلمات مدارا يسير في مساره، يعبر فيه أهل الصدق[ ] عن صدقهم، و يتلاعب فيه شيطان الكذب[ ] بأوليائه، و تبقى النفوس الرحبة المطمئنة الرجّاعة إلى ربها، تدفع راضية مرضية، ثمن ولاءها لكلمات الله الخالدة؛ لأنها تستحق التضحية و كيف؟ لا و هي النبع الفياض الدائم العصي على النفاد، الماضي دون تراجع و لا تغيير و لا تبديل، و كيف يتبدل العدل و بم؟ و كيف تنفد الرحمة و الرزق و العطاء و لم؟
{قُلْ لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109]
فتبقى كلمات الله هي الكلمات التي من اجلها تقبل الأرواح على الموت و هي مستبشرة بصدق الوعد و رحمة الواعد و روعة اللقاء.
اللهم ثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا[ ] و في الآخرة.
الرابط: