ها هي بكة تتأهَّب لاستقبال الحجيج، مِمن لبُّوا نداء خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام!
دروبها تستحث شوقهم لموافاة طُهرها، و استشراف قداستها التي طالما لوَّثتها حجارة صماء، أعمت و أقفلت قلوبًا بدنَسها، قلوبَ كبراء و سادة، هم أولاء يَنفثون من أفواههم السم الزعاف، في كل المسالك و الدُّروب، يُحذِّرون و ينفِّرون من رجل يتلو قرآنًا له تأثير السحر على القلوب، يسلب إرادة سامعيه، و يسرق عقولهم، فيَنقلبون له أتباعًا!
إنَّهم يستنفرون جموعهم ضد من رد أصنامهم، و سفَّه أحلامهم، ينهون عن قرآنه و ينأون، مرهِّبين منفِّرين، محذِّرين متوعِّدين.
و مَن ذاك القادم من بعيد يتعثَّره الوجد و الرجاء بين أفواج حجيج أرض اليمن السعيد؟!
إنه الطفيل بن عمرو، رئيس دَوسٍ و شاعرها اللبيب، هاله ما سمع من أحاديث القوم، فاحتار كيف يواجه هذا الخطب و الأمر الجلل؟ ثم اهتدى فزعًا إلى حشو أذنيه كرسفًا[1]؛ علَّه بذلك يقطع الطريق عن السحر و تأثيره، ثم يقصد الكعبة مطمئنًّا ساكنًا.
و يتلألأ النور و يصدح الحق عاليًا، فيَقف الطُّفيل قريبًا من رسول الهدى، و يُلامس الإيمان شغاف قلبه، و تستجيب الجوارح، و يتهلَّل الوجه بالبشرى.
ينقلب الرسول راجعًا إلى بيته، و تأبى روح الرجل و وجدانه إلا الترقي و التسامي عن الباطل و الظلمات.
و يغشى هذه الفطرة ما يشبه التيقظ المفاجئ، فيَرمي ما بأذنيه من كرسفٍ، و يَستحثُّ الخطو خلف الرسول الكريم.
يستقبله النبي في بيته كأحسن ما يستقبل الشريفُ الشريفَ، يُسمعه القرآن، و يعرض عليه الإسلام، و يُعلن الطفيل إسلامه.
يا ألله! ما أعظم كلمة التوحيد! لقد غسلت قلب هذا الرجل فما بقي من درنه شيء، أشرقت بأنوارها على نفسه فارتقت روحه إلى عالم الطهر و الصفاء.
و يعود الطفيل ربانيًّا، حاملاً إلى قومه رسالة الخير و الهدى، يدعو إلى الحق بنبْل و كرَمٍ غير هياب و لا وَجِلٍ، و يأبى عليه قومه ذلك، و يُقابلون دعوته بالهجر و القطيعة، و يشتد عليه الأمر، فما تزيده المحنة إلا صلابة و ثباتًا، فيصبر و يحتسب الأجر عند الله.
و ما كان الله ليضيع أجر من أحسن عملاً؛ فها هو الطفيل بن عمرو يوفَّى الجزاء الأوفى، و يتفضَّل عليه ربه بالمزيد؛ لتُعلنَ دَوس إسلامها، و عن بكرة أبيها، و تأتي وفودها النبي بالمدينة مُبايعةً.
ثم يَختم الله للطفيل بالحسنى، فيَختاره للشهادة في معركة اليمامة سنة 11 للهجرة، و تعرج روحه الطاهرة إلى بارئها، و يرقى ذكره ليُطاول عنان السماء.
[1]الكرسف: القطن.
رابط الموضوع: http://www.alukah.net/literature_language/0/92768/#ixzz3qY85JxcA