قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الخميس, 03 آذار/مارس 2016 07:20

فقه التراكمات

كتبه  الأستاذ محمد الأمين مقراوي الوغليسي
قيم الموضوع
(0 أصوات)

قصة الإنسان في هذه الدنيا عبارة عن سلسلة من التراكمات الناتجة عن الحركة المستمرة للحياة، و اطراد الأحداث و تجدد الوقائع، فالاستمرارية و الحركة سنتان عظيمتان من السنن الكونية، التي تمضي عليها الحياة على هذه البسيطة، و هو ما نبه إليه الكثير من نصوص الوحيين، التي تعمق في نفس المسلم معاني الاستمرار و الحركة، و لعل أبرزها حديث الفسيلة العظيم، الذي يتجاوز بالمسلم أخص ظرف و أخطر مرحلة - نهاية العالم - ليرسخ فيه مبدأ التفاعل مع الحياة، لذلك يعد نصًا محكمًا في تعميق معانى الاستمرار و التواصل.

و برغم حيوية و أهمية عنصر التراكمات في حياة الأمم، باعتباره يشمل العنصر الزمني و المكاني و البشري، إلا أن الاهتمام به لم يجد حقه من الرصد و الاستقراء و التحليل و الاستنتاج، و لعل قلة الدراسات العميقة و الأصيلة منذ عصر  ابن خلدون إلى يومنا هذا - اللهم إلا صنيع مالك بن نبي رحمه الله - دليل قوي على هذه الملحوظة التي تنبئ عن ضعف الأمة في تجسيد منهج علمي حقيقي ترصد به حركة كل مرحلة من البداية إلى المصير، بل إن الأمة صارت عاجزة حتى عن تحديد البدايات و النهايات المرتبطة بالمراحل التي تمر بها، و هو إخفاق له ما بعده، من تعارض و تناقض في النظر لكل مرحلة و تجسيد كل مشكلة، و بناء الحلول عليها، و هو ما نعيشه واقعًا اليوم. لماذا فقه التراكمات؟

لأن الحياة مراحل تتوالى، لا قطع منفصلة تسقط مرة واحدة على الناس بين الفترة الزمنية و الأخرى، و هذا ما نجده في كل الأمم عند استقراء تاريخها المسطور، و ما دامت الحياة عبارة عن مراحل متسلسلة فإن هذا يعني بداهة تأثير كل مرحلة في الأخرى، و هذا ما نغفل عنه بصورة لا يقبلها عقل، و لا يتصورها منطق، حيث ضاعت الأمة بين تراكم التراكمات المهملة، و المرمية في زوايا التهميش و التجاهل، و الدليل على ذلك أننا نخرج من مرحلة إلى مرحلة و نحن لم نفقه ما عشناه في الأولى، و لم نحدد مشكلاتها و لا عقباتها و لا تحدياتها، و لا العلاجات التي كان يفترض تقريرها، و ندخل الثانية و نحن مثقلون بتراكمات الأولى، مما يجعل تحديد الغايات و الأولويات خارجًا عن أيدينا، بل إن التراكمات التي استصحبناها معنا هي التي تحدد غايات و أولويات و تصورات المرحلة الجديدة، مما يورث غبشًا في الرؤية، و غموضًا في التصور، و تخبطًا في تحديد الأولويات، و الثمن ضياع أجيالنا و ضمور حاضرنا و جهل مصيرنا، و لعل تعدد الجواب عن السؤال الذي حارت عقول المثقفين و النخبة في الإجابة عنه برهان ناصع على ذلك، و هو سؤال الأزمة: أية أزمة تعيش الأمة الإسلامية؟ حيث تتعدد الإجابات و تتضارب الرؤى، و تتصادم الاقتراحات و تتنافر المشاريع.

و كان يفترض أن تستقرئ العقول الفذة تراكمات كل مرحلة، ابتداء من مرافقة أحداثها إلى رصد صيرورتها، انتهاء لتقرير المشكلات و تجسيد الحلول، و إقصاء السلبيات و استصحاب الإيجابيات إلى ساحة المرحلة الجديدة.

 الإسلام و فقه التراكمات:

و إن المرء ليتعجب من غياب هذا الفقه الثقيل العميق، برغم وجود عشرات النصوص من الكتاب و السنة التي تدل على أهميته كفقه ركين لفهم صيرورة الحياة و سننها، و المطلع على تراث الخلفاء الراشدين و خاصة عمر رضي الله عنه، يجد أن ممارساتهم تحمل في طياتها ركائز هذا الفقه المؤصل في نصوص الوحيين، و سنضرب لذلك نماذج للتأصيل و التوضيح:

فقد عبر الكثير من نصوص القرآن عن أهمية التراكمات في التحكم في الواقع والمستقبل و المصير، و من أهم النصوص التي تناولت عنصر التراكمات كمؤثر فاعل في حياة الأمم القصص التي تتحدث عن بني إسرائيل، كيف كانوا و كيف تراكمت جناياتهم حتى أوصلتهم للضياع، و إلى التيه في الأرض عقودًا طويلة، و ما حكاية القرآن عن المشكلات و الآفات التي جاء يعالجها كل نبي في قومه إلا تأصيل لهذا الفقه المكين، فتراكمات الجريمة الاقتصادية في قوم شعيب عليه السلام جعلت العلاج النبوي لها في ترسيخ قيم التعاملات الشرعية السليمة من الخبث و الغش، و تراكمات الجريمة الأخلاقية في قوم لوط جعلت دعوة لوط عليه السلام أخلاقية بالدرجة الأولى، و تراكمات عقدة العلو و الاستعلاء في ثمود جعلت دعوة صالح عليه السلام تركز على ضعف المخلوق أمام جبروت الجبار، و تنبه على خطر الاغترار بالقوة، و تدعو لنبذ الكبر الذي جعلهم يتباهون بتحدي الخالق، و إرجاع الإنسان إلى حقيقته، و هي أنه عبد ضعيف أمام قوة الخالق العظيم. كما يتحدث القرآن عن سبب الجمود الفكري، و موت المنطق، و يربطه بالتقليد الأعمى الذي تراكم في العقل الجمعي السلبي للكفار {إنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَ إنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ 23} [الزخرف: 23]، و لا يتوقف القرآن هنا في توصيف التراكمات تلك، بل يحدد العلاج انطلاقًا منها، فيستعمل الحجاج العقلي و الحوار المنطقي لتفكيكها و هدمها، تمهيدًا لإحلال مفاهيم الحق مكانها، {قُلْ إن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ}[الزخرف: 81] دعوة للتحرر من التقليد و من ربقة عقيدة الآباء، نحو رحابة الفكر و التأمل و السؤال.

إن نصوصًا من أمثلة: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْـخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [العنكبوت: 20]، و قوله تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْـمُكَذِّبِينَ} [آل عمران: 137]؛ كلها تأصيل لوجود تراكمات يجب على الإنسان دراستها، هذه الآيات و مثيلاتها تحمل تنبيهات مهمة، على أن التراكمات نفسها تعطي النتائج نفسها، مما يجعل مؤشرات الصلاح و الفساد و النجاة و الهلاك واضحة جدًا في الخطاب القرآني على ضوء فقه التراكمات.

و لو جئنا للسنة و استقرأناها لوجدنا أمثلة كثيرة على فقه التراكمات المركوز فيها، و لعل من أوضح الأمثلة على ذلك حديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: «يا معشر المهاجرين، خمسٌ إذا ابتليتم بهن و أعوذ بالله أن تدركوهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قطُّ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا، و لم يُنقصوا المكيال و الميزان إلا أُخذوا بالسنين و شدة المؤونة و جور السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، و لولا البهائم لم يُمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدوًّا من غيرهم فأخذوا بعض ما في أيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» رواه ابن ماجه في سننه؛ إنه حديث عظيم، يؤصل لهذا المنهج السديد، و يدعو لرصد التراكمات في الأمة و فقهها، و إرسال أي إنذار أو خطة عمل إصلاحية بناء عليها.

و الناظر في عصر الخلفاء الراشدين يجد أن فقه التراكمات كان له حضور قوي في فتاواهم و سياساتهم، و لا شك أن أبرز فترة تجسد فيها هذا الفقه هي مرحلة العهد العمري، لما عرف عن الفاروق عمر رضي الله عنه من فقه سديد و سياسة محكمة، فها هو يجعل طلاق الثلاث في المجلس الواحد طلاقًا بائنًا بينونة كبرى، حماية للأسر من التفكك، بعد تراكم تساهل الناس في الطلاق، و ها هو يجعل حدًا ثابتًا لشارب الخمر بعد أن كثر شربه في عهده، حفاظًا على طهر المجتمع، بل إن عمر رضي الله عنه لا يقف عند اطراد الوقائع في الحاضر، بل يستشرف المستقبل و تراكماته، فيمنع انتشار الزواج بالكتابيات خشية الجاسوسية و عنوسة المسلمات، مما يخلق بعد ذلك واقعًا يصعب مجابهته، و يستشرف توالي و تكاشف المستجدات و النوازل، فيمنع خروج الصحابة رضوان الله عليهم، في حركة فقهية استباقية بارعة تضمن له وجود أكبر مجمع فقهي قادر على تحريك دواليب الحياة و الحفاظ على استقرارها الديني و الدنيوي.

بل يتضح فقه عمر رضي الله عنه في فهم التراكمات أكثر فأكثر في قضية منعه سهم المؤلفة قلوبهم عن سيد غطفان، بناء على ما تراكم عنده من فهم عميق لمقاصد الإسلام، حيث ربط ذلك بفقهين تراكميين هما فقه الضعف و فقه القوة، اللذان يحددان ميزة كل مرحلة، فتراكم عناصر القوة له فقهه الخاص، و تراكم عناصر الضعف في الأمة يجعل الفقيه يتجنب الفتوى انطلاقًا مما تقرر في مرحلة القوة، و فقه عمري لامع استمده من فقهه للمرحلة المكية و المرحلة المدنية، باعتبارهما محلين لهذين الفقهين.

و هذا الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز رحمه الله يرد على ابنه الذي طالبه بتطبيق الشريعة تطبيقًا كاملاً، بفقه التراكمات، حيث يقول له مجيبًا: «يا بني لو حملتهم على الحق جملة لخرجوا منه جملة»، و لا شك أن هذا الفقه الراشد نتاج فقه لما تراكم عنده من علم و خبرات و سياسة سابقة.

و هذا المنصور يقول للإمام مالك بعد أن طلب منه وضع كتاب جامع للناس يكون فيه سنة رسول الله صلى الله عليه و سلم: «... و تجنب تشددات ابن عمر و تساهلات ابن عباس و شذوذات ابن مسعود» رضي الله عنهم، و هذا حكم مبني على ما تراكم عند هذا الخليفة من علم بما خلفته تلك التيارات الفقهية.

فقه التركات و فقه التراكمات:

إن الراصد للحركة الفقهية و الفكرية و السلوكية لأمتنا، يجد أن تعاملها مع الوقائع الحادثة، و النوازل الخطيرة، لا يخرج عن تعامل الفقيه مع تركة ميت يستعجل ورثته نصيبهم منها، فبدل استقراء الماضي و رصد الحاضر و دراسته، ثم تحديد مشكلاته و معضلاته، نجدها تتعامل معه بصورة رياضية جافة، فتقدم إجابات سريعة تتسم بالسطحية، و البعد عن المنهجية العلمية التي قررها علماء الإسلام بعد استلهامها من روح الشريعة و فلسفة التشريع، و على رأسها رصد التراكمات، و ربطها و تحليلها، و بناء الاستنتاجات و العلاج عليها، خاصة مع ما تعانيه الأمة من تداخل في التخصصات تداخلًا غير مدروس، فترى أن أغلب من يخوض في أزمات الأمة، ينظِّر و يؤصل و يطرح الحلول و يجزم بنجاعتها، بعد أن يؤكد بقطعية تحديده للمعضلة، و هذا ينبغي أن يختفي أو أن يقلل أهل البصيرة من وجوده في واقعنا، فضرره عظيم على مجموع الأمة.. و شتان بين فقه التركات و فقه التراكمات.

لماذا فشلنا في دراسة التراكمات؟

قد تكون إشكالية الإخفاق في استغلال التراكمات، في غرق العقل المسلم اليوم في ذهنية التجميع و التكديس، و إعطائها جل اهتمامه، تأصيلًا و حماية، و هذا قطعًا ليس بالمنهج الذي تستقرأ به كتلة التراكمات الضخمة التي تزخر بها حياتنا، و من المؤشرات الدالة على انغماسنا في تحويل كل جهودنا نحو عملية التكديس، ضعفنا في مناهج البحث، بل إن غالبية الباحثين يشكون من معاناتهم الشديدة في جانب المنهجية العلمية الرصينة، التي لم يتمكنوا من الإلمام بها و تحقيقها، بسبب ضعف حلقة مناهج البحث في عالمنا الإسلامي اليوم، و ما لم نعمل على تحقيق التخصص الدقيق في كافة الشعب و التخصصات الإنسانية، و إيجاد ملكة البحث و التنقيب فيها، فإننا لن نكرس إلا العجز في التعرف على طبيعة الأشياء، و التعمق في فهم منطقها، و التمكن من تحديد مساراتها و تفاعلاتها أثناء ذلك و محاولة تحديد مصيرها، و نحن لم نستخدم أدواتها أصلاً.

إننا نحتاج إلى مؤسسة الفكر، من أجل خلق تحول ناجح ينتقل بنا من ذهنية التكديس، نحو صناعة فكر التنقيب و الإنتاج، لأجل التعرف على طبيعة الأشياء، و التعمق في فهم منطقها، و التمكن من تحديد مساراتها و تفاعلاتها أثناء ذلك، و محاولة تحديد مصيرها، و هذا لا يتم إلا من خلال عمل مؤسساتي شامل يتصف بالتكامل، و يستند إلى دعامة الوحيين {قُلْ إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة: 120]، لأن أي بحث و تنقيب معرفي يبقى ناقصًا قاصرًا ما لم يستنر بقيم الوحيين، و المقصود هنا هو الاستظلال بظلال السنن الكونية في التعامل مع كل الظواهر الكونية، و التمسك بسنن الله في الحياة و الأحياء أثناء ممارسة ذلك.

الغرب و التراكمات:

لعل أهم ميدان يمكن من خلاله الحكم على فقه التراكمات عند الغرب هو ميدان التاريخ، الذي عرف في القرن التاسع عشر جهودًا راقية في استقراء التاريخ، و محاولة التعرف على ماهيته، ثم استغلاله و التحكم في مساراته ليكون في خدمة الغرب، و هذا ما يفسر ظهور نظريات مرموقة في تفسير حركة التاريخ في العالم الغربي، و لعل أبرز من تعمق في ذلك هم المؤرخون الألمان و أشهرهم أوزفالد شبنغلر، و لا يمكن تجاهل ألمع مؤرخي الغرب في ميدان دراسة التراكمات، الإنجليزي أرنولد توينبي، الذي أنتج في واحد و أربعين سنة موسوعة علمية هامة سمّاها «دراسة للتاريخ»، أبدع فيها و هو يصول و يجول في استقراء لتراكمات التاريخ و الحضارات، و ممارسة لعملية الحفر و التنقيب بشكل رأسي مكثف، مستعملًا مكلته العلمية الثقيلة و خبرته الحصيفة، إننا نجزم أنه لم يصل إلى حقائق كاملة أو نهائية في بحوثه تلك، لاعتبارات عدة أهمها عدم معرفته بقيم الوحيين، لكننا نصر على أن الغربيين تمكنوا فعلًا من إيجاد بعض أدوات التنقيب و الحفر في التاريخ و تجاوز مرحلة الجمع و الرصد، مما يجعل الاستفادة منهم أمرًا مطلوبًا، مادامت الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذ بها. خاصة أن هذا الغرب أثبت حلم عقله في الميل إلى المنهجية في التعامل مع أزماته من خلال فقه التراكمات، و ما فعله الإنجليز في الحرب العالمية الثانية إلا دليل على ذلك، فعندما تعرضت لندن للقصف مدة سبعة أشهر كاملة و بشكل مستمر، و مقتل الآلاف، و ظهور علامة الهزيمة الساحقة، جمع الإنجليز خيرة خبرائهم و مهندسيهم و مفكريهم و علمائهم من مختلف التخصصات، و قرروا دراسة أسباب إخفاقهم في الحرب، و سبب التفوق الألماني عليهم، و ظلت هذه النخبة شهورًا تحت الأقبية تدرس و تراجع كل المنظومات التي تحكم الحياة و الإنسان في إنجلترا، و كان ونستون تشرشل رئيس وزرائهم في ذلك الحين يقول لهم بصوت عالٍ: «لا أعدكم بشيء سوى مزيد من الدماء مزيد من الدموع مزيد من التضحيات»، و فعلًا بعد شهور طويلة نهض الإنجليز و دارت الدائرة و قصف الإنجليز برلين و أغرقوا السفينة الأسطورة البسمارك، كانت التراكمات التي وقف عليها نخبة إنجلترا رصدًا و تحليلًا و مدارسة بداية الحل و مفتاح النصر في الحرب، و الناظر في القرآن يجد أن الآيات التي نزلت بعد غزوة أحد حددت لهم تلك التراكمات النفسية التي قلبت المعركة من نصر إلى خسارة، داعية أهل الإيمان إلى الاعتبار بعد أن غيرت مفاهيم و قيم الحرب في نفوسهم.

 كيف نتعامل مع التراكمات؟

إن الجواب على هذا السؤال يحتاج إلى عمل جبار، تقوده نخب متمكنة من مختلف العلوم الإنسانية، و تتميز بالعمق في النظر و الطرح، و لا يمكن الإجابة عليه في هذه العجالة و من منطلق غير مؤسساتي، و لكننا نكتفي بذكر هذه القاعدة الذهبية التي ذكرها عالم المقاصد الطاهر بن عاشور رحمه الله عندما قرر قاعدة «الشريعة تقرير وتغيير»، و هي قاعدة جليلة عظيمة الفائدة، تؤصل لكيفية التعامل مع الواقع، انطلاقًا من رصده و تحليله، و انتهاء بإرساء الكيفية الصحيحة للتعامل مع مشكلاته و حل عقباته، و ترسخ مبدأ أن الواقع لا يقبل التعامل معه كوحدة موحدة لا تقبل التجزؤ، و دليل هذا حديث النبي عليه الصلاة و السلام: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»؛ فهو حديث أصل في هذا الباب أي فقه التراكمات، فالحكم الذي نطق به الحديث لم يبنَ على فراغ بل بني على واقع حقيقي يربط الماضي بالحاضر، لذلك جاء الإسلام فأقر ما تراكم من الأعمال الصالحة، و غيّر ما لا يتوافق مع الفطرة و رسالة الإسلام، و هذا هو المنهج الصحيح الذي على الأمة سلوكه و التلبس به، فخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم، لكن منهج التقرير و التغيير هو نهاية و ثمرة لمرحلة سابقة هي مرحلة الرصد و الدراسة و التأمل في الواقع، و ليس منهجًا منفصلًا عن باقي الحلقات و السلاسل التي يربط بعضها بعضًا، و يسلم بعضها ما فيه للبعض الأخر.

فقه التراكمات و مراكز الدراسات الإستراتيجية:

إن هذا الفقه العظيم يستدعي منا الحرص على إنشاء مراكز للدراسات الإستراتيجية المتنوعة، التي تتولى هذه المهمة الشاقة و العظيمة، و التي تستحق التعب و النصب لما لها من فوائد عظيمة تعود على الأمة في حاضرها و مستقبلها، و نظرة سريعة على واقعها في الغرب يدلنا على أهميتها.

و هنا يجب التطرق لنقطة مهمة جدًا؛ و هي أن هذه الكيانات العلمية القوية، لم تظهر في أوربا ثم أمريكا إلا بعد ظهور ثورة علمية هائلة في كل المجالات، تميزت بتسارعها في التطور، و التدفق العالي في المعلومات، ما جعلهم يتفرغون لها عن طريق خلق مراكز حسب كل مجال، ثم التخصص داخل كل مجال، و كان الأساس الذي تعمل عليه هذه المراكز هو التراكمي الحيوي الذي أنتجته الثورة العلمية و النهضة الأوربية، التي تمخضت عن الواقع الجديد بعد الثورة الفرنسية.

و لم يكتفِ الغرب بذلك بل سخر لها كافة الوسائل المادية و المالية و البشرية التي تكفل استمرارها و نجاعتها، و هذا أمر منطقي ما دامت هذه المراكز تشكل الإنذار المبكر، و تشكل أبرز الأسس التي يعتمدها الغرب في صناعة القرارات و اختيار الوسائل و المكان و الزمان في الصراع الحضاري المشتد يومًا بعد يوم.

و فكرة الإنذار المبكر هي فكرة عرفها المسلمون منذ قرون طويلة فهذا خالد بن الوليد يقول قولته الشهيرة لقادة الجيوش الفاتحة في الشام: «إنذار مبكر خير من طليعة جيش»، فهذه المراكز هي الإنذار الباكر الذي يدرس الماضي و الحاضر و يستشرف المستقبل، و لا يترك فرصة للارتجال و العشوائية.

فقه التراكمات و المعادلات الاجتماعية:

يجب أن نقر بأن لكل شيء معادلته الاجتماعية التي من دون فهمها لا يمكن التعامل معها، و هذا يعني أن فهم واقع الفرد و الأسرة و المجتمع و الدولة و الأمة و العلاقات الدولية، لا يتأتى إلا من خلال فهم قاعدتها الاجتماعية و التاريخية، و هذا يتأتى للدارس حتمًا من خلال الإلمام بالأدوات التي تكفل له التحقق بفقه التراكمات تنظيرًا و تطبيقًا.

و هنا يجب أن نستدعي مفاهيم معينة و هي: العمق في فهم الرصيد الضخم الذي تراكم في أمتنا، و الابتعاد عن التوصيف السطحي لما نريد دراسته و معرفته، و يكون ذلك بتكوين قاعدة بحثية قوية و صلبة علميًا و عمليًا، و طريق ذلك جذب أهم و أجود الكفاءات البشرية التي تتمتع بها الأمة، و جعلها تتفرغ لهذا الفرض الكفائي المهم، و قد سبق فعل عمر رضي الله عنه فعل الغرب بقرون مديدة، عندما جعل مجلس شورى المسلمين قائمًا على خيرة الصحابة و أهل بدر الكرام.

فقه التراكمات و علم الاستشراف.. و صناعة المستقبل:

بدأت الأمة تعقد المؤتمرات و الملتقيات و تؤلف الكتب في علم الاستشراف، بل أنشأت بعض الدول وزارات خاصة سمتها وزارة الإحصاء و الاستشراف، و هذا أمر محمود، لكن الملاحظ أن الاستشراف الذي يتحدث عنه الكثيرون جاء في نسخته تقليدًا للغرب الذي ينطلق في الكثير من الأحيان من تحيين الواقع الحاضر و الانطلاق منه و فصله عن القيم و عالم الأفكار و ربطه بعالم الأشياء، بينما تختلف أمتنا في ذلك حيث تستند على رصيد تاريخي مهم - باعتبارها أمة شاهدة على الناس، مدعوة لتبوؤ الريادة في الحياة باعتبارها الأمة الهادية للبشرية أجمع - لا يزال يؤثر في حاضرها تأثيرًا قويًا و ملموسًا، لأجل ذلك وجب التنبيه على قضية مهمة و هي أن مراكز الاستشراف لا يمكن أن تنجح ما لم تهتم بفقه التراكمات، و ما لم تتقيد بحقيقة و هوية الأمة ماضيًا و حاضرًا أثناء الخوض في ذلك.

إن صناعة المستقبل لم تعد مركونة للمفاجآت، و المسارات العشوائية، و لم تعد الحياة تتقبل التغيرات غير المدروسة، و أمتنا لم تعد تتحمل توالي أثقال المراحل، و تحكمها في الحاضر و المستقبل، و قد علمنا الإسلام أن تصحيح الوجهة قبل وقوع الكارثة و الاصطدام ممكن في كل الأحوال، لذلك وجب علينا الاهتمام بثنائية الرصد و الاستشراف، و الجمع بينهما جمعًا حقيقيًا لا صوريًا وصفيًا.

و ختامًا فإن المشتغل بميدان المعرفة ليدرك حجم السعادة التي يعيشها الباحث و هو يقف على الجديد في ميدان بحثه، فكيف و هو يصل إلى مستوى أرقى في نظرته للأشياء، و إدراك أعمق للأشياء و خصائصها و تفاعلاتها و تطوراتها، و تزداد سعادة البشرية أيضًا كلما وصل وعيها للأشياء و للذات مرحلة متقدمة في تاريخ البشرية، و تزداد سعادة الباحث و هو في ذلك كله يشتغل بثغر من أهم ثغور الحياة.

هذه الصفحات لا تعدو أن تكون تنبيهًا لأهمية هذا الفقه، و حضًا للنخبة على الاهتمام به، و عقد الملتقيات و الندوات التي تنبه إليه و ترسخ قدمه في حياة المسلمين، لأجل مساعدة الأمة على الخروج من عثراتها، و الوقوف على رجليها، و الدفع بها نحو النهوض و الشهود الحضاري.

و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

:: مجلة البيان العدد  332 ربيع الآخر 1436هـ، يناير - فبراير 2015م.

الرابط: http://www.albayan.co.uk/mobile/MGZarticle2.aspx?ID=4096

قراءة 1542 مرات آخر تعديل على الجمعة, 04 آذار/مارس 2016 05:14

أضف تعليق


كود امني
تحديث