لا خلاف على أن باعث النهضة الوطنية الإمام عبد الحميد بن باديس، طيب الله ثراه، و خلد ذكراه، الذي احتفلنا بذكرى وفاته السادسة و السبعين هذه الأيام، قد أدى للأمة و الوطن ما عليه، و هو كما قال قد أبلى سواده و بياضه على خدمة الإسلام و العربية في ربوع هذا الوطن، فنفى عن الإسلام ما علق به من شوائب التفكير الخرافي، و ما تسلل إليه ــ بفعل فاعل ــ من نزعة جبرية توهم الإنسان بأنه مقهور على أفعاله، و أنه لا قبل له بالتصرف في الأمور، و ليس له إلا الرضا بالمقدور، فتصدى بشجاعة لهذا النمط من التفكير، الذي ضيع البلاد و أضر بالعباد، و رفع شعاره الذي استلهمه من القرآن:" إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " فمكن للأمل، و هيأ النفوس للإقبال على العمل، و اتخذ من تفسير القرآن و شرح الحديث سببا لتغير الأفكار، و بناء العقول، و علاج النفوس، و إعداد الرجال، و تكوين الأبطال، الذين أثبتت الأيام فيما بعد، أنهم اشبه ما كانوا في تصديهم للأهوال، و مقارعتهم للأخطار، بالصحابة الأفاضل أو التابعين الأوائل.
و قد خدم العربية خدمة جليلة، حيث فك عنها الحصار الذي ضرب عليها في المساجد و الزوايا، و تحول بها من لغة كانت مقصورة في الجزائر على العبادة، إلى لغة تدبج بها المقالات، و تكتب بها القصص و الروايات، و تقدم به المسرحيات، و تجري بها المجادلات، و تتم بها المفاوضات، و تطلب بها العلوم الحديثة في الكليات و الجامعات، و ماهي إلا سُنيات قلائل، حتى انتشرت المدارس، و عمت النوادي و تعددت الصحف و المجلات، و عادت بذلك الجزائر إلى الحياة، فتشوف أبناؤها إلى الحرية و الاستقلال، و تنافسوا في مقارعة الاحتلال، و بذلوا لأجل ذلك النفوس و الأموال، و صبروا على ما لا يوصف من الأهوال، حتى أذن الله باندحار الاحتلال، و بزوغ شمس الاستقلال.
فمن حق الرجل علينا اليوم أن نواصل جهوده، و نتم عمله، و نحافظ على الإسلام، و ندفع عنه ما يحاول البعض اليوم من إلصاقه به من صوفية منحرفة تتوسل بالدين لمطامع عاجلة، و فكر طائفي هو أضر عليه من عدو دخيل، و أن نمكن للعربية التي سهر على خدمتها و جعلها تقتحم الجامعات، و تلج إلى المختبرات العلمية، شأنها في ذلك شأن اللغات التي تكتب بها التقارير العلمية، و تحرر بها الرسائل الجامعية في الطب و الهندسة و الكيمياء، لا بد للعربية أن تتصدر المكانة اللائقة بها في هذا الوطن الذي أسهمت في تحريره من نير الاحتلال، و لا يعقل أن نجد في الجزائر اليوم من يسعى حثيثا للتمكين للفرنسية على حساب العربية، أو أية لغة أخرى، بل ينبغي أن نعمل على ترقيتها و جعلها هي لغة التفكير و التعبير و التسيير، من العيب كل العيب أن يتخذ الرسميون من الفرنسية لغة للتواصل مع شعبهم، و قد مضى على استقلال الجزائر ما ينيف عن أربع و خمسين سنة، و من العيب المعيب أن يطلع علينا بعد كل هذه المدة من يزعم أن العربية هي سجن للشباب في هذا الوطن، حقا قد جاز لنا أن نقول:" ماذا فعل المتاعيس بإرث بن باديس...؟".