قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأحد, 11 تشرين1/أكتوير 2020 10:06

الوازع الديني من نبوة أو دعوة حق

كتبه  د. أسعد بن أحمد السعود
قيم الموضوع
(0 أصوات)

الوازع لغة هو الحابس وهو القاسم وهو المُلهِم وكلها تقضي إلى حصر التفكير والتدبير بالمصدر الديني فقط ويجمع العلماء أن من يحمل الوازع الديني أو من يحبسه الدين الذي جاء به نبي أو داع حق يقل إقباله على أمور الدنيا فيذهب التنافس و يقل الخلاف و ينمو التعاون و التعاضد و يتسع مجال الكلمة، و بذلك يحصل الاستبصار في كل الأمور كما يقول ابن خلدون فتتخذ الوجهة و يتساوى المطلوب و يستميت المطالب و ينتهي ذلك باتساع الاجتماع و عظمة المُلك.

و الدراسات الميدانية التي أجريت على شرائح متعددة من الأطفال و الشباب و متوسطي الأعمار و بمجتمعات مختلفة و متباينة أعطت هذه الدراسات نتائج فاقت 98 - 99% من العينات: محصلتها أن سلوك الفرد الديني يتمشى مع اتجاه العقلي نحو الدين و قبوله للقيم الدينية. فكلما زاد إيمان الفرد الديني كلما زاد نشاطه الديني و العكس صحيح. و يورد الدكتور عبد الرحمن عيسوي في كتابه المترجم (النمو الروحي و الخلقي) دلالات من خلال التجارب الميدانية و الدراسات الاجتماعية على شرائح مختلفة و بأعمال مبكرة و متوسطة و بمشاركة علماء اجتماعيين و نفسانيين آخرين و في دول مختلفة يؤكد القول على أن الدين لا تقتصر آثاره و وظائفه على مرحلة واحدة من مراحل العمر و إنما يشمل أثره كافة مراحل النمو الإنسان و يدل على أن القيم الدينية و السلوك الديني يؤثران بصورة أو بأخرى في كل جوانب حياة الفرد إلا أن تأثيرهما أكبر في حياة الفرد الانفعالية (خصوصاً) في مرحلة الطفولة و المراهقة حيث مراحل التكوين و الصقل.

و قد أيد علماء آخرون بتجاربهم العديدة أن الكائن البشري يولد بحالة حيادية (حالة ساكنة) حيال الدين، بل أنه يمتلك الاستعدادات للتكيف و التي تجعل النمو ممكنا نحو التدين أو نحو معارضة الدين.

فالتعاليم الدينية إذا بدأت في فترات السنوات المبكرة من حياة الإنسان فإن اتجاهاته الدينية مع تقدم السن تصبح أقل تمركزا حول ذاته و يصبح وازعه الديني أكثر شمولا و هذا يعني عملية انتقال أو نمو خصوصيات نفسية و اجتماعية من الدائرة الأنانية إلى غير الأنانية و مع تقدم السن و التحول تظهر القوى الرادعة من كونها قوى خارجية أي صادرة من الخارج، من الآباء و الأمهات المدرسين و غيرهم من المؤثرات إلى أن تصبح قوى ذاتية داخلية هي ضمير أو وازع الإنسان و يتكون هذا الوازع عن طريق امتصاص قيم الآباء و اكتسابها، لتصبح معايير الإنسان نفسه، إذا نستطيع أن نتوصل إلى وصف أشبه ما يكون بمركبة لها موضع للقيادة، فالمركبة هي مجموع الأخلاق التي تتكون منها المركبة أو هي المركبة ذاتها و مركز قيادتها أو توجيهها هو الوازع فإذا كان الوازع ديني فإن المركبة ستسير و تتكيف باتجاه هذا الوازع أو هذا الضمير أما إذا كانت طبيعته التي اكتسبها غير ذلك، فاتجاه سيره و حركته ستكون موافقة له تمام (و يؤكد علماء النفس على أن هذا الوازع وظيفته في الكائن البشري في المجال الخلقي حيث يوافق أو يرفض على بعض مظاهر السلوك و هو يشبه في وظائفه و تكوينه (الذات العليا) في نظر التحليل النفسي و يوصف بأنه نظام الفرد في قبول المبادئ الخلقية أو مبادئ السلوك و يوصف الوازع أو الضمير بأنه القاضي الداخلي أو الرقيب أو رجل الشرطة الذي يحاسب صاحبه على ارتكاب (الأخطاء و المعاصي) (جملة الأخلاق معاكسة لتوجيهات الذات العليا) مما يجعله يشعر (بالذنب أو بتأنيب الضمير أو الوازع) أي يجعله في ركاب من ليس عنده وازع ديني (أي وازع آخر غير ديني).

سمات الوازع الديني:

من المهم جداً أن نتذكر أن أهم سمة للوازع الديني و تكاد تكون السمة الرئيسة أو السمة الوحيدة هي تطابق و تظافر السلوك للفرد البشري مع معتقده أو تفكيره العقلي أي الانقياد التام لجميع الأخلاقيات أو المكتسبات الباطنية لثنايا النفس لهذا الوازع، و هذه سمة أو خاصة حاضنة لكل من لديه وازع ديني بينما نلحظ و بشكل ميداني محسوس أن من ليس لديه وازع ديني (أي وازع مفتعل آخر) أن سمة التطابق غير مكتملة أو غير موجودة نسبية أو كاملة و قد أيد صحة هذا القول أو هذه السمة‘ وقوع أغلب المدارس أو النظريات التي تعتمد على جانب واحد في تحليل سلوكيات الفرد البشري في الخطأ و الفشل فمثلاً: (يعاب على المدرسة التي تعتمد على التحليل النفسي التي تعتمد على المظاهر السلوكية الصرفة في تفسير شخصية الفرد و دوافعه و اتجاهاته و عقائده (د.عبد الرحمن العيسوي) بينما المدارس الفكرية الدنيوية الأخرى التي تتبنى نظريات و تحليلات كثيرة و متشعبة حيث اعتمدت على تنوع المكتسبات العلمية و الفكرية كلا على حده أي تجزأت التحليلات تبعا لتفرع العلوم فهناك من ينتهج بعض المدارس السياسية يعبر أصحابها بسلوكيات فعلية مغايرة تماما لاتجاهاتهم العقلية فليس من الضروري أن يعتبر الفرد على اتجاهه العقلي في سلوكه الفعلي و على ذلك أمثلة كثيرة في حال كان وازعه غير ديني.

مصادر الوازع الديني:

في تجربة حسية على (عينة من الأطفال) أجريت عليها بشكل امتحان كتابي و سمح لفرصة غير مباشرة للغش للوصول إلى الحل و لم يعرف أي منهم أنهم كانوا تحت المراقبة، ثم بعد الانتهاء كشف لهم الأمر و أتضح كما بين ( د/عبد الرحمن عيسوي مترجم كتاب النمو الروحي و الخلقي) أن حوالي 15% من الأطفال الذين استعمل آباؤهم المعاقبات البدنية كان لهم وازع أو ضمير قوي أو أكثر من 30% ممن لم ينالوا تلك المعاقبات كان لهم وازع أو ضمير قوي أيضاً.

و تبين من تلك التجربة و أمثالها من التجارب أن الشيء الهام لتكون الوازع أو الضمير يبدو أنه ليس في شدة العقاب و لكن في طبيعته و طريقة عرضه و تقديمه. و قد بات من الواضح في محصلة تلك التجارب و الدراسات أن الطفل يتأثر بقوة كبيرة عن طريق القيم الحقيقية للوالدين و هذه حقيقة مؤثرة حيث يكون التقليد هو الآلية الفاعلة.

حقيقة الوازع: في دين الإسلام(مصادر الوازع في دين الاسلام)

قبل أن نبدأ بالحديث عن منابع الوازع في دين الاسلام أو في المجتمع الاسلامي أو في أمة الاسلام و كل هذه التسميات لا حرج لدينا إذا قلنا و بشكل مطلق أنها تعني و تعطي مفهوما و دليلا واحدا على اللفظ و المعنى و الغاية قبل ذلك يعترضنا سؤال لا بد من طرحه أولا حتى لا يتشكل لدينا عقبة أو غموض أو ما يشبه المصادرة المسبقة للنتائج و هذا السؤال هو:

لماذا التركيز على الأطفال و مراحل النمو الأخرى في الأعمار من حياة الكائن البشري في معرفة مصادر الوازع الديني و منابعه: و قد عرفنا بعضا من أوجه الجواب فيما ذكرنا من بعض الدراسات و التحاليل و التجارب التي قام بها علماء النفس و علماء الاجتماع و التربويون و ذوي الاختصاصات التي تهتم بهذا الجانب نعود و نذكر بعضا منها: يقول د.عبد الرحمن عيسوي في كتابه المترجم النمو الروحي و الخلقي نقلاً عن(Ingleby.A.Towards maturity .Robert Hale.ltd londonP.37.1966) مايلي (و في الطفولة المبكرة يكون سلوك الطفل ليس خلقيا أو لا أخلاقيا. ان حاجات الطفل الرضيع تشبه حاجات الحيوان، بمعنى أنها فيزيقية حسية و مباشرة فيحاول أن يحصل على الإشباع المباشر لحاجاته و ان يتجنب الألم. و في محاولاته لإشباع حاجاته يكون الطفل الصغير أنانيا متسلطا و من خلال شعوره بالدفء و البرد و الامتلاء و الفراغ يحصل الطفل الصغير على الشعور بالخبرات الجيدة و الخبرات الرديئة).

و يقول العالم بياجيه (Piaget) (عاش في جنيف و كان يعمل في علم النفس الخاص بالأطفال و صدر له أول مؤلف (1923) هناك نوعان من الأخلاق:النوع الذي يظهر مبكراً و هو ما يطلق عليه اصطلاح (الأخلاق الموضوعية).و هنا تكمن الصحة و الخطأ في بعض مظاهر السلوك، و يمكن ادراكهما موضوعيا. فالطفل الصغير يعتقد أن أي شخص يستطيع أن يدرك خطا أخذ أي شيء يخص الغير أو يخص شخصا آخر، و تبعا للرأي (بياجيه) فإن الأطفال في سن الثمانية سنوات يحكمون على أي سلوك تبعا لنتائجه بصرف النظر عن الدوافع أو النوايا التي تكمن وراء السلوك و بمرور الزمن يصبح الطفل قادرا على استيعاب الأفكار المجردة حول الخير و الشر بوجه عام. و اعتقد (بياجيه) أن هناك انتقالا من الضبط الخارجي و من الواقعية الخلقية إلى النسبية الخلقية. حيث يصبح حكم الطفل الخلقي نسبيا و ليس حرفي. يبدأ الطفل في تكوين فكرته عن الخطأ و الصواب عن طريق اكتشافه أن إشباع حاجته في الحب و الدفء لا يأتي إلا عن طريق إرضاء أمه، و عن طريق الحصول على موافقتها و هذا يضع الأسس الأولى نحو التعامل مع الناس. فموافقته أو رفض الآباء تمثل الجذور الأولى للمعايير الخلقية.

و يقول عالمان آخران هما (هارتشون وماي) من نفس المصدر:

(وجد أن الأطفال من سن تسع سنوات يعملون للخير العام و يتعاونون فيما بينهم و تثيرهم دوافع الإحسان) و على الرغم من (الجنوح) يزداد انتشاره في مرحلة المراهقة إلا أن جذوره الأولى ترجع إلى الطفولة المبكرة و لا شك أن النمو الداخلي الخلقي عامل أساسي محدد في إزالة (السلوك الجانح).

و في الطفولة المبكرة لا يدرك الطفل الصراع بين الأمانة و الولاء للأصدقاء مثلا و كلما تقدم الطفل في السن كان أكثر وعيا و إدراكا لهذا الصراع، و كلما تقدم الطفل في سن أيضا كان أكثر قدرة على ادراك المطالب (الثقافية و التوقعات الاجتماعية).

و أما عن (تطور) الحكم الخلقي عند الطفل، فهي في مرحلة الطفولة المبكرة تخلو من وجهات نظر متعددة فالأشياء إما بيضاء أو سوداء، صواب أو خطأ و بالتدريج يتعلم أن (القواعد الاخلاقية)التي يضعها (الكبار) ليست مطلقة و بذلك يمكن (تعديلها)لكي تتناسب مع الظروف المحيطة بكل (موقف معين). و في المراحل المتقدمة تظهر المرونة في الأحكام الخلقية و عندئذ يدرك الطفل أن (القاعدة الخلقية) يجب أن تتعدل (طبقا للظروف) و انها تكمن في تنفيذ روح (القانون)أكثر من حرفية القانون (القواعد الأخلاقية التي تلقاها و المحيطة في بيئته).

هذه رؤيا بانورامية معبرة تمام التعبير عن كل مدارس العلوم التربوية التي أسستها المجتمعات في بدايات القرن العشرين و بدأت تعتمدها كمرتكزات للنهضة العلمية و الثقافية و حتى السياسية في مناهج ما يسمى بالعالمين (الأول و الثاني) مع الإلحاح الشديد على مؤشرات واضحة المعالم على بدء نشرها و فرضها على بقية مجتمعات العالم الاخرى بغض النظر عن كونها مجتمعات دينية أو لا دينية)(العلمانية و العولمة).

و نعود الآن للحديث عن منابع الوازع الديني في المجتمعات الإسلامية و مرة أخرى يعاودنا ابن خلدون في مقدمته و يقول: (اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين، أخذ به أهل الملة و درجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان و عقائده من آيات القرآن و بعض متون الحديث، و صار القرآن أصل التعليم الذي يبني عليه ما يحصل بعده من الملكات. و سبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخا و هو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات. و على حسب الأساس و أساليبه يكون حلال ما يبنى عليه). و قد دعم هذه النظرية العلمية القاضي أبو بكر بن العربي من وجهة نظر تربوية علمية ثانية قائلا:(و يا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره، يقرأ ما لا يفهم و ينصب في أمر، غيره أهم عليه منه).و اتبع يقول: (ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث و علومه) و نهى ابن العربي مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلا لذلك بجودة الفهم و النشاط. لكن أهل الولد و هم أملك بالأحوال خشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات و القواطع عن العلم فيفوته تعلم القرآن آثروا تقديم دراسة القرآن إيثارا للتبرك و لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم، فإذا تجاوز الصبي و انحل من ربقة القهر، فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فتذهب به خلواً منه أو فارغاً منه).

و الحقيقة التي لا مناص من تبيانها و ذكرها و نشرها بكل دقائقها و تفاصيلها و لا يمكن لنا اغفال و لو جزء يسير منها هو تلك العلاقة التي تربط بين قانون الزوال أو التغيير و بين الوازع و مهما كانت صبغة الوازع سواء كان ديني ام غير ذلك و سواء طالت سرعة الزوال أم قصرت و مهما كانت اسبابه تغير او زوال ذاتي أم بالعنوة داخلي أو خارجي و هذه هي العلاقة التي ربطت بين المنزلتين اللتان استنبطناهما من سورة الأعراف و نحاول التعرف على ماهية هذه العلاقة.

منزلة التغير أو الزوال و علاقتها بالوازع:

و كما قلنا فإن التغير أو الزوال هو سنة الله في عالم الحياة الدنيا و قد أثبتها و أقرها الإنسان المخلوق الخليفة في الحياة الدنيا على وجه الأرض و صنف هذا الإقرار تحت مصطلح ما يسمى بالقوانين الطبيعية أو العلمية الثابتة و التي لا نقص و لا دحض لها مهما أوتي هذا الإنسان أو مهما ادعى من قوة أو خيال و مهما أوتي من عظمة أو ملك أو سلطان. و لكن الذي يمكن التحدث به أو الأمر الذي يعيشه الإنسان و يتفاعل معه و يعلو صوته و قوته فيه هو (الزمن) الذي يقضيه فيه (بالسلطان) و سواء طال زمن هذا السلطان أم قصر و مع تسليمنا المطلق كما أقررنا منذ البداية بأن الزمن هو منة من خالق الكون لخليفته الإنسان إلا أننا سوف نأتي ببعض آراء أو تفاسير هذا الإنسان لمعنى الزمن أو الحياة كوجه داعم لقصدنا.

فإذا سلمنا بمقولة (الناس على دين الملك) من حيث مقومات السلطان أو الملك الظاهرية فإن الوازع هنا يظهر للعيان جليا لا لبس في تحديده، و إذا كان وازع السلطان غير ديني فإن السلطان هنا و كما أشارت و تحدثت به كل أمثلة أحداث التاريخ يبرع في اتباع الأساليب و سن القوانين و الأنظمة لتثبيت أركان السلطان و تقوية دعائمه و في النهاية لبقاء سلطانه (أطول زمن ممكن) و سوف نسرد الأمثلة الكثيرة على ذلك قديمة و حديثة بائدة و حاضرة.

و من أشهر الأمثلة على السلطان البائد و الذي كان ينتهج وازعا غير ديني و هو الذي جاءت به حكايات شعوب ذلك السلطان المنحدرة منه منذ ذلك التاريخ أمثال الإمبراطوريات القديمة ذات الوازع الوثني، البيزنطية والرومانية القديمة و الإغريقية و الفارسية و الفرعونية و التي حكمت الأرض لعصور طويلة تحت تصورات و معتقدات (ثالوثية) وثنية كانت تعاليم السماء خلال ذلك غائبة كلية أو متغيبة حصرتها (كهنة ) تلك الامبراطوريات بالثالوث ذو الرأٍس الوثن أو (الإله) الموضوع من قبلهم و القاعدة التي عمادها القوة و العقل (العلم ) و كذلك من الأمثلة على الممالك أو السلطان البائدة من العصور القريبة و الحديثة و الذي نهج نفس النهج لتلك الإمبراطوريات هو ما كان يسمى بالاتحاد السوفييتي حيث اتخذ ذات الثالوث ذو الرأس الوثني و قاعدة القوة و العقل و قد عمل جاهدا للاستمرار و البقاء و السيطرة بالسلطان بهذا الوازع لكن الزوال كان زمنه قصيرا و سريعا.

و لعل من الواجب توفر أوجه المقارنة الحقّة بين تسميات هذه الأمثلة و بين تسميات أمثلة آيات و كلمات الله عز و جل في القرآن العظيم أننا نذكر تسمياتها كما جاءت في بدايات سورة الأعراف قال تعالى ﴿ وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ﴾ [الأعراف: 4] ﴿ فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 5] (ظالمين= مشركين) = يعبدون غير الله.

و الحديث عن الممالك و السلطان التي أخذت بالوازع الديني يسلك عدة أوجه نستقي أمثلة عليها من حياة شعوبها المنحدرة منها و من أمثلة آيات القرآن.

و التسميات التي تعارف عليها الناس في تاريخهم الذي وضعوه من دول و سلطان و ممالك و إمبراطوريات و ربما حتى الحديثة منها من اتحادات و جمهوريات و إمارات و مقاطعات جاءت التسميات في مفردات القرآن العظيم مغايرة تماما و يمكن حصرها على الشكل التالي:

1- تسميات إلهية صرفة لم يعتاد الناس على تداولها مثل القرون- و الأقوام - الجبلة - القرى.

2- تسميات نسبت إما إلى أسماء الأنبياء و الرسل مثل: هود صالح و شعيب و إسرائيل و يونس و لوط و آل عمران و يوسف و نوح - أصحاب الكهف و تسميات أطلقت للتدليل على الدعوة المضادة لدعوة الأنبياء.

و توحي هذه المسميات على شكل الدولة و أنظمة السلطان القائمة مثل:عاد و ثمود و الذي حاج إبراهيم في ربه و أصحاب الفيل و فرعون ذي الأوتاد و غلبت الروم - و الروم - و سبأ - بابل - يهود بني إسرائيل - أصحاب الجنة - دعوى الجاهلية - أصحاب السبت - عشيرتك الأقربين.

و نلاحظ هنا شدة زحمة و كثرة التسميات التي تبنت وازعا في السلطان غير الوازع الديني و من كثرة التسميات و المسميات أيضا تولدت كثرة الأساليب في اتباع ذلك الوازع لكن المفارقة الجديرة بتبيانها هي تلك التي ذكرتها الآية الكريمة السابقة من سورة الأعراف:﴿ وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ... ﴾ [الأعراف: 4] ﴿ .....قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ﴾ [الأعراف: 5].

والقاسم المشترك 1 هو: سلطان القرية = دعواهم .. كنا ظالمين.

و القاسم المشترك 2 هو: جاءها بأسنا = أهلكناها.

فالقاسم المشترك رقم1 هو الوازع و القاسم المشترك رقم 2 هو الزوال أو التغير و الزمن الفاصل بين الحدثين هو زمن أو حياة ذلك السلطان في تلك الدول و الممالك و الإمبراطوريات و الجمهوريات و الاتحادات و الإمارات.

و هذا الزمن ليس كما يبدو لنا من خلال هذا السياق زمنا مطاطيا يتحكم به بني البشر بحسب رغباتهم و تمنياتهم فهذا ليس من حكمة تكوين الكون فالزمن كما هو الزوال و الوازع يخضع لمشيئة الخالق الأوحد و قد بين و أوضح طبيعته و شروطه في مفردات و كلمات آيات القرآن العظيم.

قال تعالى في سورة الأعراف: ﴿ وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً  وَ لَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾ [الأعراف: 34].

و في سورة الحجر ﴿ رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * وَ مَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ ﴾ [الحجر: 2 - 4].

و قال تعالى في سورة الإسراء ﴿ وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ﴾ [الإسراء: 58]. و قال تعالى في سورة يس ﴿ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتَاعًا إِلَى حِينٍ ﴾ [يس: 44].

إذا ها هو الزمن أو السلطان في لغة الاجتماع محدد تمام التحديد له بداية كما له نهاية و ليس كما يتوهم أو يحتسب أولئك الذين يقومون على شؤونه.

و من طبيعته: كما بينته الآيات الكريمات أنه هبة من خالق الكون و مدبره و ليس من خلق أو صنع الإنسان أبداً.

و من شروطه: مناهضة العدل و المساواة و انتشار الظلم و اتساع مساحة أشكاله و أساليبه و تنوع ممارسته.

و نستدل على اثنين من هذه الخصائص  من سورة آل عمران قال تعالى ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].

و أما السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو لماذا يهب المولى عز و جل الملك أو السلطان بزمن قد قدر و قد حمل بطياته حكم الزوال؟ و لماذا و كيف يسعى هذا الإنسان جاهدا لمد عمر سلطانه و قد نشر أمامه كتاب زواله؟ و الجواب حتما هو الذي يعطينا اليقين البين على سر العلاقة بين الهبة و الزوال و بين الوازع و الزوال و نستدرك سؤالا آخر قبل أن نكمل الخوض في استكمال الدلائل و القرائن على مفردات العلاقة تلك و هو (هل كل الذين يمتلكون أو يعيشون السلطان يعرفون الزوال أو يعرفون أن لهم زوال هم بالغوه؟).

في البداية ذكرنا أن هناك سرا أودعه الله عز و جل في عبده الإنسان عندما خلقه، جعله سببا في اختلافه مع سائر مخلوقات الكون من مخلوقات الملأ الأعلى و مخلوقات الحياة الدنيا و هذا السر هو (التدبر و التبصر) و هاتين الكلمتين من مفردات كلمات الله في قرآنه العظيم تجئ دائما مرتبطتين بالمعنى و الدلائل و لغة و شريعة و لا تنفصل إحداها عن الأخرى أبدا و إن جاءت الكلمة الأولى منفصلة فإنها تخل بكل المعاني و الدلائل و بالتالي لا تحقق العلاقة بين الهبة و الزوال و بين الوازع و الزوال و إن جاءت الكلمة الثانية (التبصر) منفصلة وحيدة فإنها كذلك تخل في ماهية تلك العلاقة و يترتب على هذا الخلل جملة من الاختلافات في تثبيت و تحقيق ما سمي فيما ذكرناه سابقا بالقوانين الطبيعية التي اقرها الإنسان ذاته و اعترف بديمويتها في الحياة الدنيا فالتدبر هو فعل الأمر عن فكر و روية و النظر في دبره و هو عاقبته و آخره و التبصر و البصيرة هو العلم بالأمر و بصرت بالشيء علمت به و هي مكملة للتدبر و ليست مرادفة له و جاء قول الله عز و جل في سورة طه على لسان السامري ﴿ قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96].

فهذا السامري قصته من قصة بني اسرائيل فقد عاش السلطانين سلطان فرعون و سلطان النبوة و رأى وازع النبوة و الايمان و رأى ضدهما و مع هذا و ذاك لنرى ما اصطفى منهما لنفسه: قال (بصرت) أي رأيت و عملت بمعنى أنه رأى الأثر و علم ما يفعله ذلك الأثر فتدبر الأمر و قبض قبضه من ذلك الأثر و قبل ذلك كان قد من الله عليه و على القوم بسلطان النبوة و ليس ذلك فحسب و إنما برؤية و مصاحبة النبي و(مساسه)، فكيف كان وازعه بعدما قبض قبضة من أثر الرسول و هذه اصطفاءة ما قبلها اصطفاءة قال ﴿ فَنَبَذْتُهَا وَ كَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ﴾ [طه: 96] أي اتجه به وازعه إلى واجهة مضادة لدعوة النبوة فعظم ذاته و لم ينكرها و أراد لها طريقا منافسا و مضادا. و ما أحسن التدبر في العاقبة فكان أن اصطفى لنفسه منزلة أسرعت بزواله قال له النبي ﴿ قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ... ﴾ [طه: 97].و هذه دعوة نبي مؤيدة من مدبر الكون كله.

و مثال السامري: مثال كل إنسان على ظاهر الحياة الدنيا فهو خليفة الله و مثال التدبر و التبصر مثال كل خليفة يمن الله عليه بالسلطان و مثال أثر الرسول مثال كل مُلك أو إمارة أو ربوبية و قبضها يعني تدبرها و تدبرها يعني بما يصطفي لنفسه من وازع يكون أمر زواله.

و علماء الاجتماع و التاريخ يحاولون بما استجمع لديهم من تدبر و تبصر في تداول الدول و الأمم أن يضعوا عدة علامات على الوازع و الزوال و على مدى ارتباط بعضهما ببعض و هناك فريقان من هؤلاء العلماء فريق يمتلك وازعا دينيا و فريق يمتلك وازعا غير ديني و لا ثالث لهما إطلاقا.

و الفريق ذي الوازع الديني يشد بدرجة أو بأخرى على أن الزوال آت لا محال و سواء كان سريعا أم متأخرا و سواء كان عاصفا أم رحيما فبنعمة من الله و أنه أولا و أخيرا شهادة على حكم الله و رضائه و أن وازعه من دعوة حق أي أنه اصطفى وازعا يسير به إلى زوال موازيا لمشيئة الله و لا يعتبر زواله في الحياة الدنيا ذا أهمية بل أن الزوال الحقيقي هو زوال الحياة الدنيا باسرها أي بقيام الساعة.

و أما الفريق الثاني ذو الوازع غير الديني فإنه يذهب بعلامات الزوال مذهبا فلسفيا و جدليا مغايرا لصفات و معايير الوازع غير الديني با لرغم من التطابق الباطني غير المعلن لهما و يبعد أو ينكر كل ما يقربه من التفسير الديني أملا منه في اثبات قدرة الإنسان في التحكم في السلطان و الزوال كما أسلفنا. و لنتبصر في قول الله عز و جل و هو يلخص لنا هذه العلاقة في سورة البقرة ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ [البقرة: 258].

و كذلك في سورة القصص قال: على لسان قارون ﴿ قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعًا وَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ﴾ [القصص: 78].

و قال تعالى في سورة الزخرف ﴿ وَ نَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]. ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ﴾ [الزخرف: 54].

﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [الزخرف: 55].

هذه أمثلة جاءت بها مفردات آيات الله في كتابه العظيم عن الفريق ذي الوازع غي الديني و كلا منهم يحاول جاهدا إعطاء اثباتات على أن الملك أو السلطان الذي بين يديه إنما جاء به عن علم من تفكيره و فطنته و قوة يديه و هو الذي يعطيه للناس أو يقصره عنهم أو يكثره أو يقلله و في كل حالات الأمثلة هذه غابت عن أصحابها حالة واحدة فقط و هي ساعة الزوال و موعدها و كيفيتها و سبحانه و تعالى جعل الزوال هنا زوالا عقابيا ليس لصاحب الملك فقط و إنما للملك جميعاً بشر و حجر و شجر فأصبح أثرا بعد عين أو هشيما تذروه الرياح أو أملاكاً خاوية على عروشها أو صعيداً زلقاً.

و نأخذ مثلاً واحداً على الذي دعا ربه أن يأتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده قال تعالى في (سورة ص) على لسان سليمان عليه السلام ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]. و لنرى لماذا كل هذه الرغبة في الملك قال تعالى في سورة النمل على لسان سليمان كذلك ﴿ وَ حُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17] ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَ قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلَى وَالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].

فالذي نراه في المفارقة و المقارنة بين الفريقين أن كلاهما وهبا هبة هي في ظل ما عرفناه من القوانين الطبيعية أنهما زائلة أو بمعنى الإدراك الكوني لحياة الدنيا هما جزءان لا يتجزآن من الملك الكلى لله تعالى مالك الملك أي أنهما أمانتان و لا بد من مجئ الساعة لاسترداد أو لرجوع هذه الأمانة لمالكها أو لصاحبها فالذي يتردد في إرجاعها و يتململ و يتنكر لصاحبها فسوف تؤخذ منه عنوة و بالقوة أما الذي ينتظر تلك الساعة و قد أفنى سنين عمره خائفا قلقلا من ضياعها أو نقصانها أو حتى إصابة جزء منها بالضرر و هو في نفس الوقت فرح بقلبه و احاسيسه من لقاء صاحب الأمانة تلك و يتلهف لشكره و تفضله بالحفاظ على الأمانة و ارجاعها زكية كاملة طاهرة كما استلمها أول مرة فهو موعود وعد الحق و لا بد من أن يرى الحق مرة أخرى كما عاش مع الأمانة عيشة حقا و لا لبس في ذلك .فكل من صاحَبَ الأنبياء و الرسل و دعاة الحق و الرجال الصالحون لمسوا ذلك لمسا حقا و عاشوه بكل جوارحهم و لم يغالط أحدا نفسه حتى في رؤياه بدجى الليالي الحالكة.

أما ابن خلدون فيأتي على زوال السلطان و بقائه من جهة نظر تأملية اجتماعية و هو يحافظ على العلاقة بين الوازع و الزوال و يرجعه إلى أسباب يخاطب بها أهل الملك و السلطان و هو يرجعها بالنهاية إلى ذات الأسباب التي تشير إليها مفردات القرآن العظيم و لكنه لا يذكرها صريحة و إنما يلبسها ملبسا سياسيا ليبقى غير بعيد من أهل السلطان يقول في مقدمته:(أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها و السبب في ذلك أن الصبغة تذهب بالتنافس و التحاسد الذي في أهل العصبية و تفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الإستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة و المطلوب متساو عندهم و هم مستميتون عليه، و أهل الدولة التي هم طالبوها و إن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل و تخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم و إن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم و يعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف و الذل).

ثم يتابع (و اعتَبِر من ذلك إذا حالت صبغة الدين، و فسدت، كيف ينتقض الأمر و يصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين، فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غَلَبَتهم بمضاعفة الدين لقوتها، و لو كانوا أكثر عصبية منها و أشد بداوة).

و أما المؤشر المباشر و المؤذن في خراب العمران فيذكره ابن خلدون قائلا: (اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها و اكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها و مصيرها انتهابها من أيديهم.

و إذا ذهبت آمالهم في اكتسابها و تحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك. و على قدر الاعتداء و نسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها و إن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته. و العمران و وفوره و نفاق اسواقه إنما هو بالأعمال و سعي الناس في المصالح و المكاسب ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش و انقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران و انتقضت الأحوال و ابذعرَّ الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القطر، وخلت دياره، و خربت أمصاره و اختل باختلاله حال الدولة و السلطان،ل ما انها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة).

و يكمل ابن خلدون: (و المراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم و العدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، و وباله عائد على الدول.

و لا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض و لا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك. و كل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة، و المعتدون عليها ظلمة و المنتهبون لها ظلمة، و المانعون لحقوق الناس ظلمة. و غصّاب الأملاك على العموم ظلمة و وبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. و اعلم ان هذه هي الحكمة المقصودة للشارع من تحريم الظلم، و هو ما ينشأ عنه من فساد العمران و خرابه و ذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري، و هي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة، من حفظ الدين و النفس و العقل و النسل و المال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة، فكان تحريمه مهما.

و ينتهي ابن خلدون بالقول(إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة و السلطان فبولغ في ذمه و تكرير الوعيد فيه هي ان يكون الوازع فيه للقادر عليه نفسه).

الوازع و الفطرة:

و نصل هنا منعطفا مهما و حساسا عندما نحاول كشف الرؤيا عن تأثير الوازع الديني على الفطرة و مدى أهمية علاقة بعضهما ببعض و دورهما في تشكيل مرتكزات قاعدة الاصطفاء البشري و نذكر قول الله عز و جل في سورة الروم: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]. فهذه الفطرة هي الأرض المستوية التي لا ارتفاعات و لا انخفاضات تشوب سطحها و التي لا يظهر في طريقها أي اعوجاج، خط واحد في اتجاه تسبيح الله و توحيده تماما كباقي خلائق الكون كله و الإنسان بفطرته هذه يقف بموازاة بقية الأنعام و غيرها من البهائم و الحيوانات و الطيور و الدواب الأخرى السارحة الهائمة تبتغي وجه ربها و كذلك وقف على سوية مع الملائكة في الملأ الأعلى يسبحون بحمد ربهم ليل نهار و لا يستنكفون قال تعالى في سورة الإسراء ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].

فالإنسان بفطرته هذه التي فطره الله عليها لو وضعناه تحت معايير معينة كما حاول كثير من علماء الإنسان الذين برعوا في وضع النظريات و التصورات و حاولوا تصوره في حالة لا ارتباط فيها و لا يخضع إلا لفطرته و نمى و عاش هكذا فكيف يكون شكل اجتماعياته و للحديث عن هذا الأمر هناك افتراضان لا ثالث لهما:

أولهما: رؤية الإنسان على قاعدة انسانيته.

ثانيهما: رؤية الإنسان على قاعدة الحيوان.

فلو أنهم تناولوا انسانية الإنسان لما كان لهم أن ينجرفوا أو يظللوا لكنهم أصروا و استكبروا فلنرى ما قالوا:

و كان البادئ فيهم في العصر الحديث هو (داروين) أو ما سمي فيما بعد بالنظرية الداروينية أو نظرية النشوء و الارتقاء والتي الغت تماما الجانب الروحي و ارجعت الإنسان إلى الأصول الحيوانية و أنه خضع لتأثير البيئة شيئا فشيئا أي أنه أخذ يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه من الشكل المعرف به حالياً و أغفل تدخل الله في خلق الانسان نهائيا.

و جاء من يكمل هذه النظرية بالقول:أن الطبيعة هي التي أوجدت اجتماعية الإنسان بقواها المادية أي أن وجود هذا الإنسان هو الذي أوجد شعوره المعروف به حاليا و ليس شعوره الذي يعين وجوده، و الأطوار التي مرت بها البشرية من أول الشيوعية الأولى، إلى طور الرق إلى طور الإقطاع إلى طور الرأسمالية، إلى طور الشيوعية الثانية أو الأخيرة إنما أوجدتها التغيرات التي طرأت على أساليب انتاج الإنسان و هي القيمة الحقيقية و ليس الحق و العدل و هما من القيم الإنسانية التي لا أصالة لها أبدا في حياة الإنسان بل هما وهم مع سائر الأخلاق الأخرى و التقاليد و الدين كذلك و هكذا كانت نظرية كارل ماركس في تفسيره لتاريخ الإنسان فلا دين و لا أخلاق و لا مشاعر و لا تقاليد كل شيء منبعث عن الكيان الحيواني للإنسان و طالما الأوضاع المادية في حتمية التطور فلا يمكن الإمساك بها على وضع معين ثابت و القيم تنبعث في كل طور من أطوار التطور المادي و الاقتصادي للإنسان فهي متغيرة و لا ثبات في ذلك.

و أما فرويد فيصيغ نظريته من حيوانية الإنسان و يرسم تطور المجتمعات الإنسانية من جانب علم النفس و اعتبر النفس البشرية هي الميدان الأصيل للحياة و من تركيبتها تنبثق الأفعال و الأفكار و المشاعر و تتحول الى وقائع عملية في واقع الإنسان و أن الحياة النفسية للإنسانية ليست حيوانية فحسب و لكنها تنبع كلها من جانب واحد من جوانب الحيوان ألا و هو الجنس المسيطر على كل أفعال الإنسان حيث يبدأ كما يصوره فرويد في بحثه العلمي في علم النفس يبدأ الجنس مبكرا جدا ثم يتطور بمرحلة الطفولة ثم المراهقة ثم إلى آخر مهلة تنعدم فيها القيم و الأخلاق و الدين على صعيد الحياة كلها.

و الثالث من علماء الإنسان في العصر الحديث الذي استلهم من نظرية داروين الأصول الحيوانية للإنسان و مد بها إلى أوسع مدى حتى شمل الحياة كلها كما يقول عنه الأستاذ محمد قطب في كتابه التطور و الثبات و هذا العالم هو (دركايم) و تحت ستار من البحث العلمي في علم الاجتماع أخذ عن داروين فكرة التطور الدائم و الذي يلغي فكرة الثبات و أخذ عنه كذلك فكرة (القهر الخارجي) الذي يقهر الفرد على غير رغبة ذاتية منه فيطوره. ذلك أن هناك ضروب من السلوك و التفكير الاجتماعيين توجد خارج ضمائر الأفراد الذي يجبرون على الخضوع لها في كل لحظة من لحظات حياتهم و بمعنى أوسع هناك شعور اجتماعي يختلف عن شعور الأفراد و أن الحياة البشرية ذات الصفة الإجتماعية يمكن تفسيرها عن طريق وجود (العقل الجمعي) خارج نطاق الأفراد أي هناك تطور جماعي خارجي ضاغط على عناصر النفس المفردة و يقتحمها ). و يلخص محمد قطب ايحاءات هذه النظرية بالقول:(قد عنى دركايم في جولته الواسعة في علم الاجتماع عناية خاصة بقوله أن الدين ليس فطرة و الزواج ليس فطرة و الأخلاق ليست قيمة ذاتية و لا هي ثابتة على وضع معين. فإنما تأخذ صورتها من المجتمع الذي توجد فيه فإن (المجتمع )هو الأصل في كل الظواهر الإجتماعية و ليس الإنسان).

و هذا الأخير و بالرغم من معاصرة هؤلاء الثلاثة بعضهم لبعض و بالرغم من عدم صعود أي منهم إلى سدة السلطان سوى نظرية كارل ماركس و التي قيض لها أن تمتلك زمام السلطان بواسطة قميص الاشتراكية التي بهرت أعين البسطاء من الناس و من ثم فشلت فشلاً ذريعاً بعد انكشاف عجزها و تخلفها في تأمين و تحقيق الوعود التي زينتها سابقاً لهؤلاء البسطاء فقد استطاع هؤلاء الثلاثة و بواسطة الإعلام الذي امتلكوه أن يفعلوا فعلتهم في أغلب بلاد العالم من نشر الانحلال عن كل القيم و إهمال الأخلاق و المثل العليا و جعل مجتمعات كثيرة من شعوب أوربا و أمريكا و روسيا و بلاد أخرى يعيشون حياة الإنسان بفطرته الحيوانية و لكن الحسابات بدأت تطرح على الساحة الإنسانية من جديد و بأسلوب جديد و بجرأة لا مثيل لها في التاريخ و بدل مما كنا نرى و نعيش عدة نظريات و عدة منادين لها بدأ الأفق يلوح بنظرية واحدة و بمناد واحد و لكن بنفس المضمون و بنفس الرؤيا لكل من داروين و ماركس و فرويد و بصيغة دركايم (العقل الجمعي أو القهر الخارجي).

إذا استفسرنا عن التفاصيل فهي باختصار شديد هي نظرية العولمة بمضمون الدستور العلماني و(برغيف ) منظمة الجات و بالرغبات الجنسية الحيوانية لفرويد و بالمشاركة المتساوية لكل شعوب العالم لاساليب الإنتاج على مبدأ ماركس و بالضغط التراكمي لمجتمعات الدول الصناعية عن طريق مجلس الأمن أو مجموعة العشرين أو الثمانية، على مبدأ دركايم فأي اختيار من الاختيارات تلك سيقبلها الإنسان أو يرفضها حتى و لو صرخ بأعلى صوت له أن لي عادات و تقاليد و أخلاق خاصة فالأخلاق الجديدة للمجتمع الدولي أقوى أسرع و أفضل!! و حتى لو صرخ بأعلى صوت له أن لي فطرة أعيش و أقتات بثوبها البسيط! سيأتيه الجواب و الرد بأسرع و اقوى مما يظن و ذلك عن طريق الأقمار الصناعية و بكل الأقنية الفضائية و بالأجهزة الذكية، أنت لا تصلح لهذا الزمان فاختصر وجهة حياتك بأسرع وقت ممكن قبل أن تمثل (متهما)!!؟.

و هذا هو الوازع الجديد الذي أدخل قسرا على فطرة الإنسان في نهاية القرن العشرين و مطلع الواحد و العشرين وازع لا يحمل من أخلاقيات الأديان و  تعاليمها إلا أساليب مبتكرة للتحكم بالأفراد الذين لا تصل إليهم مؤشرات و دوافع هذا الوازع بسهولة و يسر، و هنا يحضرنا حديث شريف لنبي الخلائق أجمعين و لا بد من ذكره لأنه هو السند الوحيد في هذا المقال لإكمال فكرة الآية 30 من سورة الروم و هو قوله صلى الله عليه و سلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). و يحمل معنى الفطرة هنا التسليم لله فقط أي أنها فطرة إسلامية، جاء في معجم المصباح المنير،(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي ينقلانه إلى دينهم، ثم أسند إلى الأبوين توبيخا لهما و تقبيحا عليهما فكأنه قال و إنما أبواه بإقامتهما على الشرك يجعلانه مشرك و يقهم من هذا أنه لو أقام أحدهما على الشرك و أسلم الآخر لا يكون مشركا بل مسلما و قد جعل البيهقي هذا معنى الحديث فقال: و قد جعل رسول الله صلى الله عليه و سلم حكم الأولاد قبل أن يفصحوا بالكفر و قبل أن يختاروه لأنفسهم حكم الآباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا، و أما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجود الكفر من الأولاد). و لكشف الستر أكثر عن ماهية الفطرة وعما تحمله من ملامح للبحث و التسليم هو ما جاء في سورة الأنعام آية (75-76-77-78-79) تصف كيف خرج ابراهيم عليه السلام بفطرته يبحث عن ربه الذي فطره بفطرة صافية سليمة قبل أن يغوص في شرك أبيه و قومه يبحث متلهفا عمن يلقنه الوازع الذي يحمله و يحميه إلى شاطئ الأمان و الاستقرار و يحفظ به نفسه، إنه التدبر و التبصر الذي تميز بهما هذا الفتى عن سائر أفراد أسرته و قومه إنها فطرة تحمل في جبلتها السر الذي يتميز به صاحبها عن بقية الكائنات الأخرى، سر بعلن به الفرد انسانيته لا حيوانيته نعم إن الإنسان بفطرته السليمة الخالصة يسبح الله كباقي كائنات الدنيا و كائنات الملأ الأعلى و لكنه بالتدبر و التبصر المجبولان بفطرته يكون قد تميز بها تميزا حادا كذلك عن سائر الكائنات في الحياة الدنيا و كائنات الملأ الأعلى و يكون بذلك قد تميز عن المخلوقات الحيوانية التي ينعدم بها سر التدبر و التبصر خلقة و خليقة.

الفطرة و الاصطفاء:

جاء في فاتحة سورة الأعراف قول الله عز و جل: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3].

و نقرأ هنا مفردات الآية بأنها مخاطبة و أمر (اتبعوا) و(لا تتبعوا). و لو تساءلنا من هم هؤلاء المخاطبون و من هم المعنيون بالأمر؟ و باعتبار أن هؤلاء معروفون لدينا تاريخيا و هم أولئك الذين نزل هذا الأمر بين أظهرهم و هم الذين اتخذوا وازعا غير ديني (مشركين) و وازعا دينيا هم (أهل الكتاب) و الفريقان ليسوا على الفطرة بل أن الوازع أخذ محله في سلوكهما و الاختيار عندهما محسوم و مقضي فيه و الخطاب و الأمر حتما كان موجها إليهما و لا جدال في ذلك. و محصلة هذا الكلام أن كلا الفريقين ليسا على الفطرة أبدا و معنى هذا أن كلاً منهما قد اصطفى لنفسه وازعا نراه قد ضبط سلوكه و حسم كثيرا من جوانب حياته الاجتماعية و النفسية و حتى المادية و من جهة أخرى فإنه لو كان هناك فريق ثالث نفترض أنه موجود أيضا و يعيش بحالة كما فطر عليها من يوم ولادته فإنه يعين أن الأمر و المخاطبة كذلك تكون موجهة إليه و طالما أن هذا الفريق ليس لديه وازع أهل الكتاب و لا وازع أهل الشرك فإن الأمر سيكون لديه حالة (ترقب) و هو الإتباع و اصطفاء الوازع الأمثل و الأقرب إلى فطرته و هو اتباع ما أنزل و ليس اتباع الاشراك من دونه، و لنرى كل فريق من هؤلاء الثلاثة كلاً على حالته الراهنة:

أولاً:

فريق أهل الوازع الديني (أهل الكتاب):

و لديهم سابق معرفة بالأمر و الاتباع و لكن لماذا هذا التكرار بالأمر بالاتباع مرة ثانية و ثالثة؟ أليس التكرار يحدث دائما للتنبيه في الدرجة الأولى و للتأكيد بالدرجة الثانية و للإنذار بالدرجة الثالثة في حال وقوع مؤشرات على الاغفال أو الخطأ أو الانحراف!  و الآية الكريمة السابقة رقم 3 من سورة الأعراف إذا كان الأمر فيها كان موجها إليهم فإن طبيعة الحال التي كانوا عليها تحثهم باتباع ما انزل إليهم أي اتباع ما جاء بالتوراة في أول الأمر و من ثم اتباع ما انزل إليهم من الإنجيل ثاني الأمر و ثالثا اتباع ما انزل من القرآن، و الأمر في الحالات الثلاثة واحد و هو توحيد الله و اتباع أوامره و نواهيه و أن لا يتخذوا من دونه آلهة أخرى بمسميات متعددة و لكن و في الحالات الثلاثة و في نهاية زمان كل أمر تقول لهم نفس الآية ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3] و نسيان الأمر هو عدم التذكر كليا أو قليلا و هم القلة القليلة من أهل الكتاب يظلون على عهدهم الأول محافظين مجددين بالاتباع. و نلاحظ هنا خطا بيانيا مزدوجا يسير باتجاهين متضادين، أحدهما خط الفطرة و الآخر خط الشرك و هما متلازمين باعتبار كونهما واقعان تحت مسمى وازع، فخط الفطرة يظل ملازما لها باصطفائه عبودية الأول و الخط الثاني يتجه إلى الابتعاد عن الفطرة و بالتالي عن الله أي باتجاه الشرك به و اصطفاء عبوديات أخرى من الأوامر و النواهي، و هنا لا بد من العودة إلى البدء أي إلى نزول أوامر جديدة بالاتباع و التذكر. و هنا نحب أن ننوه بأن هذا الخط المزدوج لا يظهر إلا عند أصحاب الوازع الديني سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أو من أهل القرآن. و أما اذا ظهر في السلوك بشكله الحاد، و ان ظهوره هذا هو ما يطلق على صاحبه (المنافق) و هذا اصطفاء بأخلاقيات و سلوكيات متعاكسة الاتجاه مع حالة الفطرة.

ثانياً:

فريق أهل الوازع غير الديني ( المشركين ):

و هؤلاء ليس لديهم سابق معرفة بالأمر و الاتباع، و يقولون عن وازعهم هذا الذي يعتقدونه كما جاء في سورة البقرة ﴿ وَ إِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَ لَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170].

فالوازع عندهم خط واحد و باتجاه واحد و سلوكيات أفراد هذا الفريق متوافقة تماما مع اعتقادهم، أي أنهم يعيشون في حالة اصطفاء لأخلاقيات متناقصة تماما مع أخلاقيات أصحاب فريق الوازع الديني و بصورة حادة مبتعدين ابتعادا كبيرا عن الفطرة و هناك مسافة أو هوة تفصل بين الاثنين، و بالمدلول الشرعي لهذه الحالة أن خاصية التدبر و التبصر منصرفة كليا عن الفطرة و أي محاولة تبذل لايقاظ هذه الخاصية سوف تصطدم بحواجز ليس من السهل تخطيها إلا مع مرور زمن ليس بقليل، و ربما تصل هذه المحاولة إلى الفشل المتكرر و ربما لاتكون هناك محاولات اطلاقا" و عن هذه المحاولة يقول الله عز و جل فيهم بسورة الروم ﴿ وَ مَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [النمل: 81].

إن هذه المسافة أو الهوة يغمرها ظلام دامس و حالة عدم رؤيا تتكثف ما بين الفطرة و خاصية التدبر و التبصر، و هذا الظلام و عدم الرؤية في حقيقة الأمر هو الوازع بعينه المتراكم عبر السنين و ربما أجيال و هو الذي يحول ما بين (المرء وقلبه) و من هنا جاءت صعوبة و تعثر الهداية و الإتباع و لعل من الجدير هنا أن نتساءل إذ كيف اهتدى كثير ممن كانوا يحسبون على هذا الفريق في بداية الدعوة إلى الإسلام و الجواب ببساطة هو عدم اكتمال التراكم ما بين التدبر و التبصر من و إلى الفطرة و الأمثلة على ذلك كثيرة.

ثالثاً:

فريق أهل الفطرة:

و هم الذين يحافظون على صفاء فطرتهم و لا يحاولوا تكديرها بشوائب أو شيء من أخلاقيات وازع أهل الشرك أو أي وازع آخر و لو ضربنا بعض الأمثلة نجد الكثير منها و على رأسها و أهمها عدم المشاركة بعبادة الأوثان أو السجود لها مثلاً أو تقديم القرابين أو الدخول في حروب أو مشاركات تؤدي إتباع سلوكيات تؤدي إلى ظلم الآخرين و التشرد و القسوة مع الضعفاء و صغار الناس و لا يقتصر ضرب الأمثلة على اصطفاء السلوكيات مع الآخرين بل يتجه الأمر إلى اصطفاء الأخلاق و السلوكيات التي تحافظ على كيان شخصية أو جبلة نفسه (فطرته) بحيث يبعدها عن كل ما هو متعب و مهلك كالمجون   التي تذهب بالحضور و العقول و اللهو المفرط بمتاع الحياة الدنيا بل تتهيأ دائما" بمحاولة الدخول إلى قرارة ذاته (فطرته) و سبر أغوارها و الاكثار من التفكير و التدبر في أمور الحياة الدنيا كلها.

و الحديث بذكر صفات و خصائص و علامات و سلوكيات أهل الفطرة طويل و طويل جدا لكننا نختصر ذلك بذكر بعض شواهدهم و لعل أهم ما نذكره هنا هو سيد أهل هذا الفريق هو الفتى ابراهيم عليه السلام حيث تدبر و أبصر و أيقن و باشر بفطرته بأول اختيار مادي علني و حطم الأوثان بيديه الغضتين أي باشر بحرب مصدر الوازع. و ثانيهما هو سيد الخلق النذير البشير محمد عليه الصلاة و السلام بتدبره في غار حراء و محطم الأوثان بعدما ظهرت دعوته على الدنيا و هناك عدد لا بأس به ممن قادتهم فطرتهم السليمة إلى الابتعاد عما يفعله مشركو قريش قبل البعثة بل و لم يكتفوا بالابتعاد عنهم فقط بل ذهبوا إلى مناهضة سلوكياتها الوثنية و اصطفاء أخلاقيات اعتنقوها (الحنيفية) قبل أن تتنزل آيات الله على الرسول محمد صلى الله عليه و سلم و هذا دليل على عدم تراكم الوازع الوثني الشركي بالقدر الذي يحول بين الفطرة و حالة التدبر و التبصر و هنا في هذه الانعطافة نلاحظ قدرة الانسان على امتلاك ما يسمى دفة الحركة و تحديد الاتجاهات لعدة خصائص كامنة في قرارة فطرته و تنضوي هذه القدرة تحت ضابط التبصر الذي تتحكم به و بدورها عدة عوامل نفسية و مادية تحدد مكانة صاحبها اجتماعيا و ماديا بكونه قريب من أهل السلطان و الملك أو غيره و مثالاً ابتداء (اسلام حمزة) و من ثم كما ذكر في السيرة أيضاً اسلام عمر و ذلك كله يشكل في طبيعة الحال اركان الوازع و يحضرنا في هذا المقام كذلك عدة أمثلة مثالها (ملك الحبشة النجاشي) و امرأة فرعون و نلاحظ أمثال هؤلاء جميعا و أينما وجدوا و مهما اختلفت انتماءاتهم الاجتماعية و الزمانية، نلاحظ سرعة استجابتهم لدعوة الانبياء و دعوات الحق بشكل عام و لا يغيب عن ذكرنا كثير من العلماء و الباحثين في شتى الأزمنة و الأصقاع الذين انتهى بهم المطاف إلى الهداية و قد كان بالسبر الدائم و المستمر لأغوار النفس.

هذا و الله أعلم...

الرابط : http://cp.alukah.net/sharia/0/120434/

قراءة 999 مرات آخر تعديل على الأحد, 11 تشرين1/أكتوير 2020 21:17

أضف تعليق


كود امني
تحديث