النفوس الصغيرة وحدها هي التي تضيق بالاختلاف في الرأي وتعدد النظر حول القضية الواحدة، لأنها تطل على الحياة من زاوية صغيرة؛ لا تبصر سوى الأسود و الأبيض، و لا ترى في الأشياء سوى الحق و الباطل و الخير و الشر، و الناس بالنسبة لها إنما هم عدو و صديق. فمن وافقها في المذهب و الفكرة فهو الصديق الذي لا يخطأ، و لا يتفوه إلا بالحق، و من خالفها في المذهب و الفكرة فهو العدو الخبيث و الدجال الماكر الذي لا يصدر عنه إلا الشر المحض و لا يقول إلا الباطل الخالص الذي ليس فيه أدنى نسبة من الحق !
و لئن كان هذا النظر الضَّيِّقِ، هو لدى البعض نتاج أمراض نفسية و تربوية، مثل التعصب و الغرور و التعالي، و الكبر و الحسد، فإنه لدى جمهرة من الناس إنما هو نتاج أدواء عقلية و فكرية، مثل الجهل و قلة الاطلاع على العلوم و المعارف، و سوء الفهم، و الانكفاء على مذهب فقهي واحد أو مدرسة فكرية و دعوية واحدة.
فضحالة المعارف، و الانكفاء في القراءة و المطالعة على لون فكري واحد يورثان السطحية و البساطة و التعصب و الضيق بالمخالف، و يحجبان عن الإنسان مساحات واسعة من الأفكار و المعارف هي غير ما هو غارق فيه. و قد لاحظ ذلك الإمام أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله لدى طلبة المدارس الفقهية، فصرح بـ”أن اعتياد الاستدلال لمذهب واحد ربما يكسب الطالب نفورًا و إنكارًا لمذهب غير مذهبه، من غير اطلاع على مأخذه، فيورث ذلك حزازة في الاعتقاد في الأئمة، الذين أجمع الناس على فضلهم و تقدمهم في الدين، و اضطلاعهم بمقاصد الشارع و فهم أغراضه”(الموافقات، ج3 ص131).
و إذا كان هذا هو شأن طالب العلم الذي ضَيَّقَ على نفسه واسعا؛ فأغلق عقله على مذهب معين و مدرسة واحدة، و حرم نفسه بذلك من فضائل كثيرة و خيرات وفيرة، و أفكارٍ بكرٍ هي من إبداع آخرين خوارج عن مذهبه و مدرسته الفكرية و الدعوية، فتاهت به الطرق في غياهب التعصب و ضيق الأفق، فما بالنا بالجاهل الذي لم يطلع على شيء أصلا، و لا له تصور للمسائل و لا دراية بها، إلا أنه سمع الناس يقولون شيئا فردده. كيف يكون شأنه؟!
إن الاختلاف في الرأي، و تتعدد وجهات النظر في تفسير الأشياء و الحكم عليها أمر طبيعي، تقتضه طبيعة تفاوت الناس في المعرفة و في الفهم و في إدراك المسائل و تصورها، و يقتضه كذلك إختلاف طبائعهم، فمن الناس من يميل إلا الشدة و الجد الصارم و منهم من يميل إلى اليسر و السماحة و المرح، و من الناس من هو حرفي في فهمه و منهم من هو مقاصدي، يميل إلى تعليل المسائل و البحث عن أسرارها.
و ها هم الصحابة اختلفوا و تعددت مداركهم، فمنهم من مال إلى مجاراة ظاهر النص فصلى العصر في بني قريظة بعد ما فات وقتها، و منهم من بحث عن مقصود النص، و فهم من حديث “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” أنه حث على الاسراع في السير، فصلى العصر في الطريق حين دخول وقتها، و واصل السير و اللحاق بمن تقدمه في المسير. و قد أقر النبي صلى الله عليه و سلم كلا الفريقين على فهمه، و لم يعنف أيا منهم.
فعن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم لنا، لما رجع من الأحزاب: “لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة” فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال: بعضهم لا نصلي حتى نأتيها، و قال: بعضهم بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه و سلم فلم يعنف واحدا منهم. (رواه البخاري و مسلم). و في رواية ابن هشام في السيرة أن الفريق الذي أخذ النص على ظاهره، صلى العصر في بني قريظة بعد العشاء الآخرة.
فليس لنا إذا أن نَضِيْقَ بالاختلاف، و لا أن يظن بعضنا أنه بمقدوره رفع الخلاف و حمل الناس على وجهة نظر واحدة. فذلك غير ممكن واقعا و غير مقبول شرعا. و فقهاء المقاصد و مناهج الاستنباط يقولون: إن الأحكام الشرعية ثلاث مستويات: المستوى الأول: هو ما قصد الشارع إلى رفع الخلاف فيه، مثل أصول العقائد و أمهات الأخلاق، و كليات الأحكام الفقهية. و المستوى الثاني: هو ما قصد الشارع إلى عدم رفع الخلاف فيه، مثل معظم المسائل التي اختلفت فيها أنظار العلماء، فهذه لا مطمع في رفع الخلاف فيها، لأن الشارع لم يقصد إلى ذلك، و لو قصده لرفعه بنص حاسم لا يختلف عليه اثنان. و المستوى الثالث: هو الاجتهاد الذي لا محل له من النظر، و هو الاجتهاد في المسائل التي قصد الشارع إلى رفع الخلاف فيها.
فلمَ التعصب و الضيق, و محاولة رفع الخلاف في المسائل التي لا مطمع في رفع الخلاف فيها، و الادعاء بأن رأيا واحد يمثل الحق المطلق الذي لا يخالفه إلا من حاد عن الطريق، و تنكب الصراط المستقيم؟!
و كان الأولى بشباب الصحوة الإسلامية أن يسترشدوا بحكمةً فَاهَ بها أحد الجهابذة الأعلام، و هو العلامة الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله، “نتعاون فيما اتفقنا عليه و يعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه”(مجلة المنار، ج17 ص955). على أن ذلك لا يمنع – كما قال الإمام حسن البنا رحمه الله- “من التحقيق العلمي النزيه في مسائل الخلاف في ظل الحب في الله و التعاون على الوصول إلى الحقيقة، من غير أن يجر ذلك إلى المراء المذموم و التعصب”(البنا، مجموعة الرسائل/371).
الرابط: