كتبت قبل سنوات مقالا تحت عنوان "آلام التفكير"؛ و ها اليومَ أعاني و أعلن أنَّ من أعتى أنواع الآلام تلك التي تمزقك حين لا تفهم أمرا ما؛ ذلك أنَّ الكثيرين من هؤلاء و أولئك، من هذه الجهة أو تلك؛ قد حسموا أمورهم، واختاروا مواقعهم؛ لا على أساس من الفهم، لكن بناء على أسباب أخرى، ليس المجال مجال عرضها؛ لكني لا أقبل التخندق يمينا أو يسارا، و لا أبغي التحزب شمالا أو جنوبا؛ و لا أستسيغ التقدم حين لا تكتمل أسباب الفهم عندي... وهنا أجد من واجبي العقدي قبل الاجتماعي، الإيماني قبل الوطني، أن ألوذ بالوقوف، استجابة لحديث رسول الرحمة: "اللهم إني أعوذ بك أن أظلم أو أظلَم، أو أجهل أو يجهل علي" الحديث.
لم أفهم؟
فمن سنوات ونحن نتابع بحرارة و عاطفة جياشة قضية فلسطين، و لكن إلى اليوم و فلسطين لم تتقدم خطوة إلى الأمام، و لا تزال دار خديجة على حالها.
لم أفهم؟
و قد أمَّل الكثيرون في ربيع عربي، ثم انتهت بلادهم (بل بلادنا) إلى رمادٍ، و استساغ العالم (الثائر و الرافض للثورة) هذه الحال، و تونس اليوم أسوء من تونس في عهد ابن علي، و مصر أرذل من حالها يوم كان على السدة حسني مبارك؛ و ليبيا أخس دركة من يوم كان على رأسها القذافي... رغم أني أمقت ابن علي و مبارك و القذافي على السواء...
لم أفهم؟
وتبقى الجزائر محلَّ مساءلة وسؤال:
هل تحقق تحولا أفضل من جيرانها؟
و هل يتم نقل الصلاحيات من آخر ممثلي جيل الثورة إلى أول صف في جيل ما بعد الثورة بسلام؟
و هل يصبر الأطراف جميعا، فيتنازل كل طرف عن بعض أوهامه و رغباته لأجل حال أحسن و حالة آمنة لبلدنا؟
أم أنَّ الزعامة و البطولة ستفعل فعلها في القاصي و الداني، و تثير نعرات و حماقات لا حد لها؟
لا أفهم؟
لا يعني عدم الفهم عدمَ الإحساس، و لكنه موقفٌ مسؤول تجاه ما يدك القلب من ألم مبرح مميت؛ ذلك أنَّ محاولة الفهم تستدعي أوامر الشرع، و مقتضيات العصر، و سياقات العالم، و تجارب الآخرين...
فعدم الفهم أحيانا صدقٌ و صدقية، بديلا عن التهور، و عن الاندفاع إلى مساحات مجهولة، ربما يكون أطرافها بيد جهات داخلية أو خارجية، لا يهم...
لكن عدم الفهم قد يبعد المرء أحيانا عن "التبعية" وعن "الغوغائية" و عن "القابلية للتحكم" إلى موقف إرادي، قد يكون ضعيفا، أو هزيلا، أو غير مقنع للآخرين؛ لكنه موقف مسؤول صادق يستحضر عين الله تعالى، التي تراقب و تعلم و تحاسب...
كل أملي أن لا يعلق على الخاطرة إلا من "لم يفهم" أما من فهم، و بلغ درجة إصدار الأحكام، فله مساحات أخرى يستطيع أن يكتب فيها، و نحترم رأيه، و لا نصادره، و لكن نستسمحه ليترك المجال لمن لم يفهم، بغية أن نفهم في يوم ما، و إذا فهمنا أن نحسن، و إذا أحسنّا أن نمكن لبلدنا و أمتنا و ديننا... بلا ادعاء و لا تهور... و سبحان من قال: "ولا تقْف ما ليس لك به علم، إن السمع و البصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا" ثم قال سبحانه: "ولا تمش في الارض مرحا..." الآية
https://www.facebook.com/Dr.Babaammi/
رابط المقالة :
http://www.veecos.net/2.0/article/%D9%84%D9%85-%D8%A3%D9%81%D9%87%D9%85%D8%9F%D8%9F