إن العنوان المذكور أعلاه اقتبسته من أحد كتب أستاذنا المرحوم مالك بن نبي الذي أرفع إليه اعتذاري، و الذي لا أشك في قبوله له، و تجاوزه عني، لعلمي لو أنه لايزال حيا بيننا لوافقني على أنه لا أفضل و لا أدق منه تعبيرا على وضع الجزائر اليوم، التي هي تتردد بين الرشاد و التيه فعلا، فهي لا تدري أي النجدين تسلك، و بأي المناهج تأخذ، و إلى أي النظم تميل،
لقد جربت النظام الاشتراكي لعقود فما أجداها نفعا، و خاضت غمار النظام اللبرالي فإذا هي عوض أن تحقق قفزة اقتصادية تساعدها على أن توفر لشعبها مستوى معقولا من الرفاه الاجتماعي إذا هي تزداد تخلفا و تتردى أوضاعها الاقتصادية و الاجتماعية بما يشكل خطرا على استقرار وضعها السياسي و الأمني، و السبب في ذلك يعود إلى أنها لم تستلهم في نظمها السياسية و مناهجها الاقتصادية برامجها من مخزونها الثقافي الأصيل و مراجعها الحضارية الصريحة و إنما اعتمدت أكثر ما اعتمدت على النقل من الغير و تقليده، و النقل و التقليد لا يتركان مساحة للتفكير الحر، و لا يساعدان على الابتكار و الابداع، و من شأن هذه الخاصية أن تعرقل عملية تكييف البرامج المستوردة مع أوضاع الناس و الطبيعة، و كثيرا ما يحدث تصادم فعلي و صريح مع ثقافة الناس و طبيعة الإمكانيات المتاحة، و تجاوز الواقع الجغرافي و الطبيعي الذي تنفذ فيه تلك البرامج، فالجزائر أخذت في انطلاقتها بعد الاستقلال بالنظام الاشتراكي سياسة و اقتصادا، و هو نظام يرتكز على الطبقة العمالية بينما الجزائر لم تكن صناعية بل كانت بلادا زراعية أصلا، فنجم عن ذلك أن أهملت الزراعة و تخلفت حتى أننا أصبحنا نستورد من الخارج البصل و الثوم، مع أن الجزائر قبل الاحتلال و في عهده كانت تصدر أصنافا عديدة من منتوجاتها الزراعية للخارج، و عندما حاولت استدراك الوضع عن طريق ما عرف بالثورة الزراعية، فشلت في ذلك فشلا ذريعا، لأنها قضت على الملكيات الزراعية الكبيرة و قسمتها إلى مستثمرات صغيرة لا يفي دخلها بتغطية احتياجاتها و رواتب العمال الزراعيين العاملين فيها، و تبنت في تسييرها نظام المؤسسات الصناعية و هو ما لا يتفق مع طبيعة العمل الزراعي، كما أن النظام الاشتراكي كان لا يعترف بالملكية الخاصة، مما قضى على دافع العمل و المنافسة عند الفرد الذي قصر جهده على ما يبرر أخذه لراتبه الذي يتقاضاه، لعلمه أن ما يحققه من فائض بفعل جهده المضاعف لن يستفيد منه و لن يرجع عليه بخير، فكان هذا المبدأ الذي ينكر على الفرد حق التملك من أهم الكوابح التي ارتدت بأكبر الضرر على الثورة الزراعية خاصة و على النهضة الزراعية في الجزائر عموما.
أما بالنسبة للنظام اللبرالي الذي اعتمدته بعد التعددية السياسية فقد نزعت فيه إلى ما يعرف باقتصاد البازار و هو اقتصاد يعول على الاستيراد لا على الإنتاج و هذا النمط من الاقتصاد لا يرجع على المجتمع بخير لأنه لا يسهم في خلق مناصب الشغل، و لا يسهم في توظيف الثروات الوطنية زراعية كانت أو صناعية، و يحولها إلى منتوجات قابلة للتصدير تسهم في تنويع إيرادات الخزينة و تعمل على تغذيتها بما يحقق فائضا من المال يتيح للدولة استغلاله في تحسين مستوى الخدمات الاجتماعية الأمر الذي يساعد على تحقيق الاستقرار السياسي المطلوب لتوفير حياة آمنة و مستقرة للمجتمع الجزائري.
و السبب في فشل برامج النظامين السابقين يكمن في أن من اشتراطات النهضة الناجحة انسجام البرامج السياسية و الاقتصادية مع طبيعة الأمة و روحها، و أن تتكيف مع احتياجات الأمة و مطالبها، و أن تراعي الأولويات في ذلك، و أن تعمل وفق تخطيط دقيق يأخذ بعين الاعتبار ما يوفره الواقع من إمكانيات، و يكفله من وسائل و أدوات، كما يجب أن يعمل وفق مبدأ "كل الأفواه تستحق قوتها، و كل السواعد يجب عليها العمل" وفقا لما قرره الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، و لابد للجزائر أن تحسم اختيارها و لا تبقى في حالة ارتباك و تردد، لأن تحديد النموذج الأيديولوجي يؤثر حتما في سرعة التنمية إذا ما تم الالتزام بشروطه و محدداته مثلما وضح ذلك الأستاذ مالك بن نبي عليه رحمة الله، و إلا ستبقى تراوح مكانها و ليس في ذلك صالحها و إذن عليها أن تختار بين الرشاد أو التيه فعلا...