قال الله تعالى

 {  إِنَّ اللَّــهَ لا يُغَيِّــرُ مَـا بِقَــوْمٍ حَتَّــى يُـغَيِّـــرُوا مَــا بِــأَنْــفُسِــــهِـمْ  }

سورة  الرعد  .  الآيـة   :   11

ahlaa

" ليست المشكلة أن نعلم المسلم عقيدة هو يملكها، و إنما المهم أن نرد إلي هذه العقيدة فاعليتها و قوتها الإيجابية و تأثيرها الإجتماعي و في كلمة واحدة : إن مشكلتنا ليست في أن نبرهن للمسلم علي وجود الله بقدر ما هي في أن نشعره بوجوده و نملأ به نفسه، بإعتباره مصدرا للطاقة. "
-  المفكر الجزائري المسلم الراحل الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله  -

image-home

لنكتب أحرفا من النور،quot لنستخرج كنوزا من المعرفة و الإبداع و العلم و الأفكار

الأديبــــة عفــــاف عنيبـــة

السيـــرة الذاتيـــةالسيـــرة الذاتيـــة

أخبـــار ونشـــاطـــاتأخبـــار ونشـــاطـــات 

اصــــدارات الكـــــاتبــةاصــــدارات الكـــــاتبــة

تـــواصـــل معنــــــاتـــواصـــل معنــــــا


تابعنا على شبـكات التواصـل الاجتماعيـة

 twitterlinkedinflickrfacebook   googleplus  


إبحـث في الموقـع ...

  1. أحدث التعليــقات
  2. الأكثــر تعليقا

ألبــــوم الصــــور

e12988e3c24d1d14f82d448fcde4aff2 

مواقــع مفيـــدة

rasoulallahbinbadisassalacerhso  wefaqdev iktab
الأربعاء, 23 تموز/يوليو 2014 08:29

إن للتراجم أثرا كبيرا جدا في السلوك الإنساني

كتبه  الدكتور محمد موسي الشريف
قيم الموضوع
(0 أصوات)

إن للتراجم أثراً كبيراً جداً في السلوك الإنساني، و تحدث تغييراً كبيراً في إيمان الشخص و سلوكه و أخلاقه، و تردعه - في كثير من الأحيان- عن سيء الأعمال و الأقوال، هذا إن قرأها بقلب مقبل و عقل واعٍ ، و رغبة في الاستفادة و التغيير.

و أوجز أثرها في التالي:

أولاً: نصب القدوات للأجيال

إن أكثر ما يعاني منه أهل الإسلام اليوم هو غياب القدوة الصالحة للتأثير القويّ في المقابل، و إن وُجدت فأين هي؟ و كيف يوصل إليها؟ و كيف تترك أثرها في الناس و لا يُمَكَنون من ذلك غالباً لا في وسائل الإعلام و لا في منابر التأثير الأخرى المهمة.

ثم إن وجد بعض القدوات فإنهم عدد قليل مبثوثون بين مئات الملايين من المسلمين، و أثرهم فيهم محدود جداً.

و الناظر لأكثر مَن يوصفون بأنهم قدوات اليوم يرى أنه يصدق فيهم قول الحافظ السخاوي -رحمه الله تعالى- حين وصف علماء و مشايخ عصره من أهل القرن التاسع الهجري/ الخامس عشر الميلادي فقال:

"الكثير بل الأكثر من أوساط هذا القرن و هلم جَرّا إلى آخر الأوقات إنما مشاركتهم في مسمى العلم و الحفظ ومشيخة الإسلام و نحوها من مجاز العبارات و الاستعارات، و عند تحقيق المناط هم فضلاء متفاوتون في الفهم و الديانات، و لذا ورد الشرع بإنزال كلٍّ منـزلتَه بشروطه المعتبرات"فإذا كان السخاوي -رحمه الله تعالى- يقول هذا عن علماء و مشايخ القرن التاسع فماذا نقول نحن اليوم عن علماء و مشايخ و قدوات عصرنا ؟!

و الحل -عندي- في هذه المعضلة، و الله تعالى أعلم، هو أن يستعيض المرء في جوانب عديدة عن قدوات العصر بقدوات الدهر، الذين سُطرت حياتهم على وجه من التفصيل دقيق و مفيد في غرس المعاني الإيمانية و التربوية الرائعة التي قد لا يستفيدها المريد للاقتداء من قدوات العصر، ففي كتب التراجم عدة مئات من سِيَر حياة كبراء و عظماء و أجلاّء تصلح للاقتداء بها و الاتِّساء، و قد بينت ذلك في مواضعَ من هذه الحلقات لكني إنما أريد هنا التنبيه على أن من يريد الاقتداء بعظيم أو جليل فلم يجده في زمانه و مكانه فليرجع إلى كتب التراجم فسيجد بُغيته، إن شاء الله تعالى، و هذا كمن صنف كتاب: "من لم يحضره الفقيه" فلتكن كتب التراجم إذن مفيدة لمن "لمن يحضره القدوة"!!

ثانياً: الاستعانة بها على إحسان الصلة بالله - تعالى- :

و هذه أمنية الصالحين و المصلحين في كل زمان و مكان، و قد كان جماعات من السلف و الخلف قد حققوا من حب الله و طلب رضاه و تقواه، و الخوف منه و الخشية، و الرضى و الانكسار أمراً مدهشاً، فإذا اطلع عليها أهل العصر بقلوب مقبلة و نية صادقة في الاقتداء فإن ذلك يفيدهم أيما فائدة في باب الإحسان.

و إليكم هذا المثال الموضح لما أريد:

كان السلطان العظيم نور الدين محمود زنكي حسن الصلة بالله تعالى -نحسبه كذلك و الله تعالى حسيبه، و لا أزكي على الله تعالى أحداً- و يكفيه قول ابن الأثير، رحمه الله تعالى:

"هذا مع ما جمع الله له من العقل المتين، و الرأي الثاقب الرصين، و الاقتداء بسيرة السلف الماضين، و التشبه بالعلماء و الصالحين، و الاقتفاء لسيرة مَن سلف منهم في حسن سمتهم، و الاتباع لهم في حفظ حالهم و وقتهم حتى رَوى حديث المصطفى صلى الله عليه و سلم و أسمعه - و كان قد استُجيز له ممن سمعه و جمعه- حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء و التحديث، و رجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث.

يحب الصالحين و يؤاخيهم، و يزور مساكنهم لحسن ظنه فيهم، و إذا احتلم مماليكه أعتقهم، و زوّج ذكرانهم بإناثهم و رزقهم، و متى تكرّرت الشكاية إليه من أحد من ولاته أمره بالكف عن أذى مَن تظلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل قابله بإسقاط المنـزلة و العزل، فلِما جمع الله له من شريف الخصال تيسر له جميع ما يقصده من الأعمال، و سهل على يديه فتح الحصون و القلاع، و مكّن له في البلدان و البقاع.

ثم قال - بعد كلام كثير-:

 "و مناقبه خطيرة، و ممادحه كثيرة".

 و قد نقل الإمام أبو شامة من سيرته حادثة ضخمة تدل على حسن صلته بالله -تعالى- و ذلك حين قاتل الصليبيين في حارم، بلدة شمال حلب، و كان نور الدين آنذاك في قلة من جيشه فقد أرسل طائفة منه للرباط في مصر، فقال أبو شامة :

"كسر نور الدين الروم و الأرمن و الفِرَنج على حارم، و كان عدّتهم ثلاثين ألفاً، قال: و وقع بيمَند في أسره في نوبة حارم و باعه نفسه بمال عظيم أنفقه في الجهاد.

قلت: و بلغني أن نور الدين -رحمه الله- لما التقى الجمعان أو قُبَيله انفرد تحت تل حارم و سجد لربه - عز و جل- و مرّغ وجهه و تضرّع و قال: يا رب: هؤلاء عبيدك و هم أولياؤك، و هؤلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أوليائك على أعدائك، أيش فضول محمود في الوسط، يشير إلى أنك يا رب إن نصرت المسلمين فدينك نصرت، فلا تمنعهم النصر بسبب محمود إن كان غير مستحق للنصر.

و بلغني أنه قال: اللهم انصر دينك و لا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر، و جرى بسبب ذلك منام حسن نذكره في أخبار سنة خمس و ستين عند رحيل الفرنج عن دمياط بعد نزولهم عليها، و هذا فتح عظيم و نصر عزيز أنعم الله به على نور الدين و المسلمين مع أن جيشه عامئذ كان منه طائفة كبيرة بمصر".

و هذا المنام الذي ذكره أبو شامة هنا عَرَضاً أورده في مكان آخر فقال لما أخذ الصليبيون دمياط في صفر سنة 565:

"لما وصل الخبر إلى نور الدين بوصولهم و اجتماعهم على دمياط و نزولهم اغتم و اهتم ، و أنهض من عنده عسكراً ثقيلاً.

قلت: و بلغني من شدّة اهتمام نور الدين -رحمه الله-  بأمر المسلمين حين نزل الفرنج على دمياط أنه قُرئ عليه جزء من حديث كان له به رواية، فجاء في جملة تلك الأحاديث حديث مسلسل بالتبسم ، فطلب منه بعض طلبة الحديث أن يبتسم لتتم السلسلة على ما عُرف من عادة أهل الحديث فغضب من ذلك و قال: إني لأستحي من الله -تعالى- أن يراني متبسماً و المسلمون محاصَرون بالفرنج                .

و بلغني أن إماماً لنور الدين رأى ليلة رحيل الفرنج عن دمياط في منامه النبي صلى الله عليه و سلم و قال له: أعلم نور الدين أن الفرنج قد رحلوا عن دمياط في هذه الليلة.

فقال: يا رسول الله: ربما لا يصدقني، فاذكر لي علامة يعرفها.

فقال: قل له بعلامة ما سجدت على تل حارم و قلت: يا رب انصر دينك و لا تنصر محموداً، من هو محمود الكلب حتى يُنصر؟

قال: فانتبهت و نزلت إلى المسجد، و كان من عادة نور الدين أنه كان ينـزل إليه بَغَلس و لا يزال يتركع فيه حتى يصلي الصبح، قال: فتعرضت له فسألني عن أمري، فأخبرته بالمنام و ذكرت له العلامة إلا أنني لم أذكر لفظة الكلب، فقال نور الدين: اذكر العلامة كلها و ألحّ عليّ في ذلك، فقلتها، فبكى -رحمه الله- و صدق الرؤيا.

فأرّخت تلك الليلة، فجاء الخبر برحيل الفرنج بعد ذلك في تلك الليلة.

و هذا يدل على حسن صلته بالله تعالى، و قوة يقينه، رحمه الله و أعلى درجته في عليين.

و إنما ذكرت نور الدين مثالاً على حسن الصلة بالله -تعالى- لأخالف ما جرت به العادة من ذكر أمثلة صالحي القرون الثلاثة الأولى، فكأني بهذا المثال أريد أن أقول لقارئه: إذا كان نور الدين هكذا فكيف بالعظماء الكبار من أهل القرون الأولى؟

و حَرِيٌ بمن قرأ هذا الخبر بقلب مقبل أن يتأثر به و أن يتعلم عبادة الانكسار لله الواحد القهار.

ثالثاً: الاستعانة بهذه التراجم في معالجة جوانب النقص في السلوك و الخلق:

و هذا من أهم الأمور التي تورثها قراءة التراجم، التي كانت كثير منها قد بلغت إلى مستويات مدهشة من العلم و العمل، و إليكم هذه الأمثلة الموضحة لما أريد:

1.  في باب الهمة:

لابد من قراءة الخبر المذهل الوارد في ترجمة الإمام النووي- رحمه الله تعالى-

قال النووي رحمه الله تعالى و هو يحكي عن أوائل طلبه للعلم: و بقيت سنتين لم أضع جنبي على الأرض.

حكى البدر بن جماعة أنه سأله رحمه الله تعالى عن نومه فقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: إذا غلبني النوم استندت إلى الكتب لحظة و أنتبه.

و قال البدر : و كنت إذا أتيته أزوره يضع بعض الكتب على بعض ليوسع لي مكاناً أجلس فيه.

فما كان الزائر يجد مكاناً يجلس فيه من كثرة الكتب التي يطالعها.

فهذا الخبر جليل جداً، و لابد لقارئ هذا الخبر بنية الاستفادة أن يتأثر به جداً، فمن كان يخطر بباله أو يدور في خَلَده أن بشراً يستطيع ألا يتمدد للنوم سنتين كاملتين و يصبر على هذا، ول ا يُخِلُّ به أبداً و لا في يوم واحد، إن هذا لشيء عجيب.

هذا و قد قال فيه تلميذه الإمام أبو الحسن العطار:

"ذكر لي شيخنا رحمه الله تعالى أنه كان لا يُضيع له وقتاً لا في ليل و لا في نهار إلا في اشتغال حتى في الطرق، و أنه دام على هذا ست سنين، ثم أخذ في التصنيف و الإفادة و النصيحة و قول الحق.

قلت : مع ما هو عليه من المجاهدة بنفسه، و العمل بدقائق الورع ، و المراقبة، و تصفية النفس من الشوائب و محقها من أغراضها".

2.  العزيمـة:

يعاني أكثر الناس من ضعف عزائمهم، و قلة صبرهم، و خَوَر طبائعهم عن الاستمرار في العمل الصالح بلا فتور أو انقطاع مدة طويلة فإليكم هذا الخبر:

و عن محمد بن القاسم بن بشر : سمعت محمد بن يزيد الفسوي العطار , سمعت يعقوب بن سفيان يقول : كنت في رحلتي في طلب الحديث , فدخلت إلى بعض المدن , فصادفت بها شيخا , احتجت إلى الإقامة عليه للاستكثار عنه , و قلت نفقتي , و بعدت عن بلدي , فكنت أدمن الكتابة ليلا , و أقرأ عليه نهارا , فلما كان ذات ليلة , كنت جالسا أنسخ , و قد تصرم الليل , فنزل الماء في عيني , فلم أبصر السراج و لا البيت , فبكيت على انقطاعي , و على ما يفوتني من العلم , فاشتد بكائي حتى اتكأت على جنبي , فنمت , فرأيت النبي -صلى الله عليه و سلم- في النوم , فناداني : يا يعقوب بن سفيان! لِم أنت بكيت ؟ فقلت : يا رسول الله ! ذهب بصري , فتحسرت على ما فاتني من كتب سنتك , و على الانقطاع عن بلدي . فقال : ادن مني . فدنوت منه , فأمَرّ يده على عيني , كأنه يقرأ عليهما . قال : ثم استيقظت فأبصرت , و أخذت نسخي و قعدت في السراج أكتب .

"و أما الإمام أبو القاسم بن عساكر فقد قال عنه أبو المواهب بن صَصْرى:

لم أرَ مثله، و لا مَن اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة، من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، و الاعتكاف في شهر رمضان و عشر ذي الحجة، و عدم التطلع إلى تحصيل الأملاك و بناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه، و أعرض عن طلب المناصب من الإمامة و الخطابة و أباها بعد أن عُرضت عليه، و أخذ نفسه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لا تأخذه في الله لومة لائم".

و هذا الشيخ كمال العباسيّ الكجراتيّ الهنديّ، كان "من عوائده أنه كان يستيقظ في الليل إذا بقي ثلثه فيغتسل و يتهجد، و يقرأ سبعة أجزاء من القرآن في الصلاة، ثم يدعو بالأدعية المأثورة، ثم يذكر الله سبحانه، ثم يصلي الفجر، ثم يشتغل بتلاوة القرآن إلى صلاة الإشراق، ثم يصلي و يجلس للدرس و الإفادة فيُدَرِّس إلى زوال الشمس، ثم يتغدّى و معه جماعة من المحصلين عليه، ثم يقيل ساعة، ثم يصلي الظهر، ثم يجلس للإفتاء فيشتغل به إلى العصر، ثم يصلي، ثم يشتغل به، ثم يصلي و يُقبل على أصحابه، فيتحدث معهم إلى العشاء، ثم يدخل في حجرته و يشتغل بمطالعة كتبه التي يدرسها إلى الثلث الأول من الليل، ثم يدخل في المنزل، و كان من الخامسة عشرة من سنه إلى أربع و خمسين صرف عمره على هذا الطريق".

و قال أبو العباس ثعلب:

ما فقدت إبراهيم الحربيّ من مجلس لغة و لا نحو من خمسين سنة".

و قال عيسى بن موسى الهاشمي رحمه الله تعالى:

مكثت ثلاثين سنة أشتهي أن أشارك العامة في أكل هريس السوق فلا أقدر على ذلك لأجل البكور إلى سماع الحديث.

فهل سمعتم برجل يدفع شهوة الطعام عن نفسه ثلاثين سنة، إنّا اليوم لو أخرناها ثلاثين يوماً لظننا أنا قد صنعنا شيئاً عظيماً، فيا حسرةً علينا و على تقصيرنا.

قال ابنُ طاهر:

"لما عزم سعدٌ على المجاورة، عزّم على نَيِّفٍ و عشرين عزيمة أن يُلزمها نفسَه من المجاهدات و العبادات، فبقي به أربعين سنة لم يُخِلَّ بعزيمةٍ منها".

و قد عرف منه أهل عصره في مكة ذلك فكان إذا خرج إلى الحرم يخلو المطاف، و يقبلون يده أكثر مما يقبلون الحجر الأسود!!

فلله دَرُّ هؤلاء الرجال العظماء، و لله دَرُّ هذه العزيمة الذهبية، و الإرادة الرائعة، فإذا قرأ المقصر منا و الفاتر و الضعيف مثل هذه الأخبار بنية صادقة في إصلاح نفسه و تهذيب سلوكه فلا أرى إلا أنه سيؤثر فيه أيما تأثير بإذن الله تعالى.

3.  التوازن:

و قد سبق الحديث عنه في الحلقة السابقة لكني أقول هاهنا إن التوازن هو غاية الدعاة و العاملين الذين تتكاثر عليهم الأعمال، و تتزاحم فيهم الواجبات و المندوبات، فلا يدرون ماذا يصنعون، فإلى هؤلاء أرغب في قراءة سيرة الإمام الكبير عبدالله بن المبارك ؛ فقد كان:

محدثاً بل أمير المؤمنين في الحديث.

و كان فقيهاً تتلمذ على أبي حنيفة، رحمهما الله تعالى.

و كان زاهداً كأحسن ما يكون الزهد، و هو صاحب كتاب مشهور فيه.

و كان أديباً شاعراً من جِلّة الشعراء.

و كان فارساً بطلاً مغواراً لا يشق له غبار، كثير الغزو.

و كان صاحب خلق كريم ومروءة ليست لأكثر الناس.

و كان تاجراً ثرياً.

فقراءة مثل هذه السيرة تشجع العاملين على المُضيّ في عملهم بتوازن.

و كذلك فلينظر العاملون والمصلحون في سيرة بقي بن مخلدَ الأندلسي، فقد:

"كان بَقيّ يختم القرآن كل ليلة، في ثلاثَ عشرةَ ركعة، و كان يصلي بالنَّهار مئة ركعة، و يصوم الدهر، و كان كثيرَ الجهاد، فاضلاً، يٌذكر عنه أنه رابط اثنتين و سبعين غَزْوة.

و نقل بعض العلماء من كتاب لحفيد بَقيٍّ عبد الرحمن بن أحمد:

كان جدِّي قد قسَّم أيامَه على أعمال البرِّ: فكان إذا صلى الصُّبح قرأ حزبه من القرآن في المصحف، سُدسَ القرآن، و كان أيضاً يَخْتم القرآن في الصلاة في كل يوم و ليلة، و يَخْرج كل ليلة في الثلث الأخير إلى مسجده فيختم قُرب انصداع الفجر، و كان يُصلي بعد حزبه من المصحف صلاةً طويلةً جداً، ثم ينقلب إلى داره - و قد اجتمع في مسجده الطلبة- فيجدِّد الوضوء، و يخرج إليه، فإذا انقضت الدُّوَل صار إلى صومعة المسجد، فيصلي إلى الظهر، ثم يكون هو المبتدئ بالأذان، ثم يهبط، ثم يُسمعُ إلى العصر، و يصلي و يُسمع، و ربما خرج بقية النهار، فيقعد بين القبور يبكي و يعتبر، فإذا غربت الشمس أتى مسجده، ثم يصلي، و يرجع إلى بيته فيفطر، و كان يسردُ الصومَ إلا يوم الجمعة، و يخرج إلى المسجد، فيخرُج إلى جيرانه، فيتكلَّم معهم في دينهم و دنياهم، ثم يصلي العشاء، و يدخل بيته، فيحدِّث أهله، ثم ينام نومة قد أخذتْها نفسُه ، ثم يقوم.

هذا دَأبُه إلى أن توفي، و كان جَلْداً، قويّاً على المشي، قد مشى مع ضعيف في مَظْلَمة إلى إشبيلية، و مشى مع آخر إلى إلبيْرة، و مع امرأة ضعيفة إلى جَيَّان.

هذه هي سيرة الإمام بَقيّ بن مخلد، يراها كثير من الناس من ضروب الخيال، و يراها الصالحون العاملون فيعلمون أنها كالمثل لحياة بعضهم ول أشواق كثير منهم.

فهو -رحمه الله- قد عبد الله أحسن ما تكون العبادة.

و لم ينس تلاميذه و أصحابه، فكان يعلمهم و يرشدهم و يوجههم.

و لم يُغفل جيرانه، فقد كان يتعهدهم بالنصح و الإرشاد.

و كان يتعهد أهله و يحدثهم و يؤانسهم.

و لم يمنعه ذلك كله من الانتصار للمظلومين و السفر من أجلهم، حتى لو كان ذلك المظلوم امرأة ضعيفة.

و قد توّج أعماله الصالحة بالجهاد، فقد "كان كثير الجهاد، رابط اثنتين و سبعين غزوة".

ثمّ إنه قد فهم الشرط الأساسي و المهم لكل تلك الأعمال الصالحة حتى تدخل سجلات الخالدين ألا و هو الدوام و الدأَب.

رحمه الله تعالى، فقد كانت شخصيته المثال المطلوب المفقود.

و بهذا المثل - و هناك عشرات غيره في التاريخ الإسلامي، و إنما ضربته مثالاً لقلة من يعرفه في عصرنا- نتبين، أن هذا الأمر - أمر التوازن- قد حدث في عصور سلفنا رحمهم الله، فحدوثه في هذا الزمان ممكن، و ليس بمستغرب.

و كذلك في سيرة الشيخ أبي عمر المقدسي و هو من آل قدامة المقادسة الدمشقيين نجد التوازن واضحاً فقد كان يصلي بالناس مائة ركعة و هو مسن، و لا يترك قيام الليل من وقت شبوبيته، و إذا رافق ناساً في السفر ناموا و حرسهم يصلي، و كان كثير الأوراد و الذكر، و كان ربما تهجد فإن نعس ضرب على رجليه بقضيب حتى يطير النعاس.

و كان يكثر الصيام.

و لا يكاد يسمع بجنازة إلا شهدها، و لا مريض إلا عاده، و لا جهاد إلا خرج فيه.

و يتلو كل ليلة سُبعاً مرتلاً في الصلاة، و في النهار سبعاً بين الصلاتين، و إذا صلى الفجر تلا آيات الحرس و يس و الواقعة وتبارك.

ثم يُقرئ و يُلقِّن إلى ارتفاع النهار، ثم يصلي الضحى فيُطيل، و يصلي طويلاً بين العشاءين، و كانت نوافله في كل يوم و ليلة اثنتين و سبعين ركعة، و له أذكار طويلة، و له أوراد عند النوم و اليقظة و تسابيح، و كان يخدم بالجامع المظفري و يُبكي الناس، و كان إذا سمع بمنكر اجتهد في إزالته.

4.  اكتساب الخبرة و مضاعفة الأعمار:

إن القارئ للتراجم إنما يكتسب خبرات كثيرة، و يضيف أعماراً إلى أعماره، فيستفيد من ذلك أيما فائدة، فلو قرأ الشخص ترجمة تبلغ خمسين صفحة كل ليلتين أو ثلاث أو كل أسبوع فإنه سيضيف لعمره عمرَ صاحب الترجمة، و ذلك أن صاحب الترجمة لو عاش ستين سنة مثلاً فقراءة حياته تعني أن القارئ اكتسب خبرة مَن عاش ستين سنة و أضافها إلى خبراته، و كأنه أضاف عمره إلى عمره، فكيف لو قرأ 100 ترجمة؟ و كيف لو قرأ ألف ترجمة؟ و هكذا ...

و لابد من ذكر أن هذا لا يكون إلا في التراجم الغنية بفوائدها، الكثيرة في صفحاتها، و لا يصلح أن يكون في التراجم المقتضبة التي لا تحوي تفاصيل حياة صاحبها.

و أزعم أن هنالك أكثر من ألف من هذه التراجم في بطون الكتب يمكن الاستفادة منها على هذا النحو الذي ذكرته، و الله أعلم.

و يثور - هاهنا- تساؤل طالما سُئلته ألا و هو:

كيف نصل إلى ما وصل إليه هؤلاء العظماء من السلف و الخلف، و حالنا على ما هو عليه من الانشغال، و بعض الإخوة يشكو من بعض يأس يداخله في أن يبلغ ما بلغ أولئك العظماء؟

و أقول: إن هذه التراجم الجليلة الواردة في بطون الكتب قد وُضعت لأسباب منها الاقتداء و الاتِّساء و الاستفادة مما فيها لتغيير أحوال المطلعين عليها، أما أن يبلغ المطلع عليها مبلغ أصحابها فهذا دونه خرط القتاد بل هو -عندي- مستحيل في زماننا هذا، و إنما قلت هذا لقطع طمع أهل العصر من بلوغ مراتب العظماء أمثال سفيان الثوري و عبدالله بن المبارك و مالك و أحمد بن حنبل و الشافعي و أبي حنيفة و البخاري و النووي و ابن تيمية و العز بن عبدالسلام، و إنما قطعت باستحالة هذا بالنظر إلى أمور خمسة:

الأمر الأول: اختلاف أحوالهم عن أحوالنا، و زمانهم عن زماننا:

فما كان متيسراً لهم من العبادة و التطويل فيها لا يتسير لنا في زماننا الصعب هذا، فطرائق الدراسة و العمل الوظيفي و الخاص اختلفت تماماً، كما هو معلوم، و ترتب على هذا الاختلاف قلة الأوقات المتبقية لنا مقارنة بما كان لهم، دع عنك قلة البركة و كثرة الهموم.

الأمر الثاني: ما كان مسموحاً لهم به في زمانهم من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المشاركة القوية في الشأن العام لا يُسمح به قطعاً في زماننا، و الشواهد كثيرة جداً.

الأمر الثالث: اختلاف المطلوب منا و منهم:

فالمطلوب منا اليوم بذل الجهد في الدعوة، و تحصيل أسباب الرقي الماديّ لننافس الكفار في المنتجات و المخترعات و نتخلص من التبعية و الهوان، و المطلوب منا ­-أيضاً- القراءة المطولة في مكائد الكفار و الفجار لمعرفتها و مقارعتها، و المطلوب منا اليوم تخليص أراضي المسلمين من مغتصبيها إلى آخر ما هو مطلوب و هو قائمة طويلة، بينما لم يكن أكثر ذلك مطلوباً من أولئك الذين كانوا يعيشون زمن العز و السيادة.

الأمر الرابع: لا ينبغي أن ننسى أن أهل القرون الفاضلة ليسوا كمن بعدهم، فأولئك موصوفون بالخيرية في كلام خير البرية صلى الله عليه و سلم ومَن بعدهم ليس مثلهم قطعاً، و يتدرج الفضل نزولاً بتدرج القرون، فمن يطمع أن يكون في الفضل و المنـزلة و العمل كأهل القرون الأولى فإنما يطمع في أمر عظيم لا أرى أن زماننا هذا يساعده على بلوغه، و لا أرى أن أحوالنا تساعد على بلوغ ما كانوا عليه، و الله أعلم.

الأمر الخامس: إن هؤلاء العظماء أنفسهم كانوا في زمانهم كنجوم السماء، ينظر أهل عصرهم إليهم على أنهم في مرتبة لا يُطمع فيها، فكيف نفعل نحن إذن في زماننا هذا، و للتدليل على ما أقول فإني أُورد التالي عن سفيان الثوري رحمه الله -تعالى- الذي كان أمير المؤمنين في الورع و محدثاً عظيماً و ورعاً إلى الغاية القصوى من الورع بل كان ورعه مقياساً للأجيال بعده حتى قالوا عن ورع الإمام النووي: لقد أذكرنا ورع سفيان، و هذا يعني أن ورع سفيان مقياس و معيار، و يعني أيضاً أن ورعه ظل يتردد صداه عبر القرون، و مع هذا كله فإن سفيان يقول عن الإمام العظيم عبدالله بن المبارك:

إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك فما أقدر أن أكون و لا ثلاثة أيام!!

و كان الإمام ابن عون عابداً زاهداً، قليل نظراؤه ، قلّ أن يوجد مثله، و هذا أحد أصحابه يقول كلاماً يصفه فيه وصفاً يلخص ما أردت قوله:

إني لأعرف رجلاً منذ عشرين سنة يتمنى أن يسلم له يوم من أيام ابن عون فما يقدر عليه.

فإذا عرفنا هذا من مقولة سفيان -رحمه الله تعالى- و غيره ، فإنه يُعرف تميز أولئك العظام حتى بين أقرانهم الذين هم في الصلاح غاية و منارات هداية و رشد أيضاً، و ليس من المجازفة القول بأنهم قد لا يتكررون في التاريخ بعد ذلك أبداً، و الله أعلم.

ولا يعني كلامي هذا القطع بعدم بلوغ منازلهم في الآخرة، فهذا أمر غيـبي لا يُعرف، و هو إلى فضل الله - تعالى- و كرمه أقرب، لكن كلامي إنما هو في بلوغ أعمالهم و مجاهداتهم و رياضاتهم، و الله المستعان.

إذن إن المطلوب من قراءة التراجم الجليلة هو الاقتداء بما فيها، و محاولة الاقتراب منها حالاً و عملاً و قولاً، فإن صنع ذلك المطلع عليها فيا فوزه، و يا سعده، أما مطابقة عمله لأعمال أولئك العظماء فليقطع الطمع في هذا تماماً و لا يفكر فيه.

و أذكر أن شيخي القدوة الصالح المصري زينة أهل العصر الشيخ عبدالستار فتح الله سعيد -حفظه الله و مَتّع به ونفعنا بعلمه- رآني و أنا أجتهد في بعض الأمور و أبذل فيها غاية ما أستطيع رجاء تحقيق ما أريد، فقال لي: هل تريد أن تكون مثل البنّا؟! اصرف النظر يا بني فقد حاولنا نحن فلم نستطع، إن ذاك رجل أتى الله – تعالى - به في زمنه لتحقيق مراد الله -تعالى- فلا تطمع في ذلك، و لم يقع كلام الشيخ في نفسي الموقع الحسن آنذاك، لكني علمت فيما بعـد أنـه كـلام حكيم، و أن الله -تعالى- يخرج بعض الناس من رحم الغيب في زمن معين لينجزوا عملاً معيناً يُغير الله به التاريخ، و لا يلزم أن يقع هذا من كل أحد، و بعبارة أخرى لا يلزم أنه يمكن تكرار ذلك لكل أحد طامع فيه، فذلك فضل الله -تعالى- يؤتيه من يشاء، لا يُسأل عما يفعل و هم يُسألون، و في هذا الفهم تطمين للقلوب و إبعاد لمرض اليأس و القنوط عنها، و الله أعلم.

المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)

 الرابط:

http://www.altareekh.com/article/view/7130-%D8%A3%D8%AB%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%AC%D9%85-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%84%D9%88%D9%83-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86%D9%8A-4/8.html

قراءة 1934 مرات آخر تعديل على السبت, 11 تموز/يوليو 2015 09:41

أضف تعليق


كود امني
تحديث